تكمل الثورة السورية اليوم عامها السادس وحال أهالي المناطق الثائرة يوجع القلب والروح، فقد تُركوا وحدهم ليعانوا أشكال التجويع والحصار والإفقار والتهجير والإبادة الموصوفة بأشكال خارقة من القتل بالبراميل المتفجرة والصواريخ العنقودية والفراغية وأحياناً بالأسلحة الكيميائية، وانقطعت عنهم أشكال الإمداد المادي والمعنوي والتسليحي بحيث صار الخيار الوحيد لهم هو «مصالحات النظام» التي تُخلي الأرض من بشرها، وتفرغ المناطق الثائرة من محاربيها وحاضنتهم الاجتماعية، وتمهّد الطريق، في أحيان كثيرة، لتغيير ديمغرافي وطائفيّ فتستوطن حشود شيعية من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان الأمكنة المهجورة، ويتلازم ذلك أحياناً مع طقوس تشفّ وغطرسة وقهر علنيّ، كأن يذهب رئيس البلاد المفدّى مع وزير دفاعه ومفتيه وأزلامه ليصلّي في مدينة هجّر سكّانها وحوّل بناياتها أنقاضا وأبدل عزّها ذلاً.
وخلال السنوات الماضية كانت أنواع الدعم البشريّ والعسكري للنظام تزداد، فبعد رشاوى بعض دول الخليج مع انطلاق الثورة، والتي لم تغيّر أنملة من سلوك إدارة بشار الأسد، ومع اتساع الثورة واشتداد قوتها وتراجع النظام شهدنا إناخة روسيا بظلّها الجوّي على الكيان السوري ومحاصرتها سواحل البلاد بمدمراتها وبوارجها وبناءها قواعدها العسكرية والجوّية في طرطوس وحميميم وإعلانها تحرير مدن كتدمر ثم تسليمها للنظام، بل واحتفالها بانتصاراتها، بصفتها الدولة المتحضرة في الشرق المتخلف، باستحضار فرق أوبرا وغناء، فيما تتشارك اقتسام البلد المهيض الجناح مع إيران، حليفها الجغرافيّ وشريكها صاحب الشوكة والهيلمان في الإقليم، الجمهورية الإسلامية التي انتهى أمر ثورتها ضد المستكبرين لتزجّ بقوافل المهمّشين الشيعة في أفغانستان وباكستان ولبنان والعراق لقتال إخوتهم العرب السنّة الثائرين، تحت رايات الدفاع عن المقدّسات الشيعية وثأر الحسين لتغطّي على أهدافها الحقيقية العديدة وبينها استخدام أوراقها هذه للتفاوض مع «الشيطان الأكبر» (على حد وصف الإمام الخميني لأمريكا) وتوطيد نفوذها الإقليمي والحفاظ على طاغية أصبح عمليّاً والياً من ولاتها.
مع اشتداد بطش النظام ونجاته من «الخطوط الحمراء» التي رسمها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وممارسة هذه الإدارة ضغوطاً على بعض الأنظمة الداعمة للثوار لصدّهم كلّما اقتربت إمكانيات إسقاط النظام، انسدّت الآفاق واسودّت، وتفاعلت مظالم إيران ونظامها التابع في بغداد الوحشية ضد المكوّن السنّي مع التداخلات الاستخباراتية لتعطي دفعة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو مخطط، كان في أذهان استراتيجيي نظامي بغداد ودمشق، هو طوق النجاة من الثورات، وباب طائفيّ لتدمير مدن وحواضر الحواضن الشعبية لهذه الثورات بحيث لا تقوم لها بعدها قائمة.
كان يمكن لهذه المخطّطات الخطيرة التي رسمت في طهران وبغداد ودمشق أن تصطدم بحركة التاريخ الجبارة وبإرادة الشعوب العظيمة لولا تكاثر السكاكين في ظهور هذه الثورات وتعاضد خصومها المصممين على كسرها مع «أصدقائها» المتلاعبين والمشتغلين على الغدر بها وإنهاكها وإيصالها إلى المسار الذي وصلت إليه، لقد توازت شراسة روسيا وإيران مع مخاوف الإدارة الأمريكية من الإسلاميين وإخلائها الفراغ لنهوض النظام وحلفائه، ودخلت بعض الأنظمة العربية على خط هذا التآمر المباشر مع صعود مدّ الثورات المضادة في مصر واليمن وتونس وليبيا، فشهدنا محاولات متكرّرة لتصنيع حركات مشابهة لحركة حفتر في ليبيا، ودحلان في فلسطين، وارتفع الخصام الأيديولوجي مع «الإسلام السياسي» مرتبة على الصراع مع إيران ومخططاتها، وهو ما أدّى لكوارث جيوستراتيجية.
لقد تشارك العالم على وأد الثورة السورية وها هو الآن يدفع ثمن ذلك.
صحيفة القدس العربي