لا يمكن فصل السجال، على هذا النحو، إذن، عن مسار مترابط من المواقف الأوروبية، جعلت الأتراك يشعرون، بطريقةٍ أو أخرى، بأنهم “مستهدفون بشكل ممنهج”، فحديثهم عن “مواقف جماعية” أوروبية، مستدلين بتضامن دول بعينها، كالدنمارك وألمانيا والنمسا وغيرها، بمواقف، إما ملتبسة أو مؤيدة بشكل مبطن، للجانب الهولندي.
ذهب وزير العدل التركي، بكير بوزداغ، في مطلع مارس/ آذار الجاري، إلى اتهام سلطات برلين بأنها “تمارس دائما سياساتٍ غير مقبولة، وتريد أن تعلمنا الديمقراطية، وكيف تُسير دولة القانون، بينما هي لا تسمح بعقد اجتماع مع الجالية التركية (في ألمانيا)”. وألغى بوزداغ، أخيرا، اجتماعا كان مقرَرا مع نظيره الألماني، مغادرا إلى بلده إثر إلغاء لقاء مقرّر له مع الجالية التركية في كولن.
وتُعتبر ألمانيا ودول أوروبية أخرى خزانا بشريا ينهل منه مؤيدو أردوغان ملايين الأصوات، في الانتخابات والاستفتاءات التركية.
وقد تدرجت الأزمة إلى فيينا التي يعيش بعض مواطنيها ونخبهم حتى اليوم آثار ما تركته
الحقبة العثمانية، ولا يترددون في تبني استنباطات تاريخية، كما جرى في الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/ كانون الأول 2016، حيث برز خطاب هوفر المحذر من المهاجرين المسلمين، حيث تعتبر الجالية التركية من أكبر الجاليات المسلمة في النمسا. وقد ساءت العلاقة بين فيينا وأنقرة إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف العام الماضي، أسوة بتراجع العلاقات مع دولٍ أخرى، بتهم موجهة إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، “باستغلال المحاولة الانقلابية لتعزيز سلطاته الديكتاتورية”، ما أثار غضب الأتراك. وزاد هذا الغضب، بعد أن انتشرت حملة دعائية، وصلت إلى مطار فيينا، تحذر السائحين من التوجه إلى تركيا مع خريف العام الماضي. عاد السجال النمساوي أيضا، بعد أن تقرّر، في فبراير/ شباط الماضي، توجه الأتراك نحو الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فمنعت فيينا عقد لقاءات انتخابية، بل واعتبرت أن “الرئيس التركي غير مرحبٍ به في النمسا، إذا ما كان سيستغل زيارته لحض الأتراك في البلاد على التصويت لمصلحته في الاستفتاء”.
وقد أصدرت، في العاشر من مارس/آذار الجاري، لجنة من المجلس الأوروبي بيانا انتقدت فيه، وبقوة، الاستفتاء الشعبي المزمع إجراؤه. واتهمت السلطات التركية بأنها “تأخذ البلد نحو حكم فردي”، وقد أغضب الأتراك أيضا استخدام مفردة “حكم استبدادي”، لوصف التغييرات التي سيتم عليها الاستفتاء. وفي اليوم التالي، اندلعت الأزمة مع هولندا، بمنع أمستردام وزراء أتراكا من دخول أراضيها والالتقاء بجاليتهم.
المصالح تتجاوزها لغة التشنج
لم تشفع سياسة المصالح، أو المنفعية المتبادلة، بين دول الاتحاد وتركيا في التخفيف من تراكم التشنج الناجم عن لغة استعلائية أحيانا، ومتهمة في أوقات أخرى لتركيا بأنها “تتحول إلى نظام إسلامي متشدّد” و”سلطات مركزة بيد الرئيس”.
في الاتجاه نفسه، يقرأ مهتمون عديدون بالعلاقة التركية الأوروبية أن دعوة أمين حلف شمال الأطلسي، ينس ستولتينبيرغ، إلى التهدئة مع تركيا، تأتي في سياق معرفة الأمنيين والعسكريين الغربيين لمكانة تركيا وحجمها في المشاريع الدفاعية الغربية، وخصوصا “مع ما تترقبه أوساط الحلف باندلاع مواجهاتٍ كبيرة مع تنظيم الدولة الإسلامية مع صيف العام الجاري”.
وفي مقابل ذلك أيضا، ذهب الخطاب التركي، وخصوصا إثر عملية الانقلاب الفاشل على أردوغان في صيف 2016، أي بعد التفاهم على مسألة إعادة اللاجئين القادمين إلى اليونان ودول أخرى، والتي لم يلتزم الاتحاد، برأي الأتراك، بما نصت عليه، بتقديم مليارات الدولارات لأنقرة لإيواء اللاجئين والسماح للمواطنين الأتراك بدخول دول شينغن، من دون تأشيرات مسبقة.
في أكثر من مناسبة، تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة، ذهب الرئيس التركي، ومستشاروه وإعلاميون مؤيدون لحزب العدالة والتنمية، إلى التلميح إلى أن مواقف غربية عدة كانت تعوّل على نجاح ذلك الانقلاب العسكري. لم تهدأ تلك التهمة طوال الأشهر الماضية. وفي الجانب لآخر، بدت الانعطافة التركية تجاه روسيا كأنها تعبير محمل برسائل كثيرة إلى الغرب، وتعبير صريح عن ضيق سياسي ودبلوماسي تركي من المواقف الغربية في شأن عدد من القضايا، وليست المأساة السورية بعيدة عن ذلك. في الفترة التي تلت إسقاط الأتراك طائرة روسية في خريف 2015، بدا أيضا لأنقرة أن حلف شمال الأطلسي لا يعوّل عليه كثيرا، خصوصا لأنه ترك أردوغان يعيش أزمته منعزلا حتى عن حليفه الأميركي فترة باراك أوباما. وظل التوجس التركي الناظم لعلاقات أنقرة مع دول الاتحاد الأوروبي التي أغلبها عضو في “الأطلسي”.
قارن الأتراك كثيرا بين سياسة الاتحاد و”الأطلسي” تجاه التهديدات الروسية لدول البلطيق وأوكرانيا وشرق أوروبا، وسياسته الباردة تجاه التحديات التي واجهتها تركيا، ويبدو أن أنقرة اختارت سياسة مناكفة ترد على تلك البرودة.
العامل الكردي المقلق
تشابك القضية السورية، ومجريات الأعمال القتالية منذ اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) منطقة عين العرب (كوباني) في 2014، وظهور استغلال غربي كبير لتلك المجريات
باللهاث الكبير نحو التحالف مع تنظيماتٍ كردية، تعتبرها أنقرة “إرهابية”، عزّز المخاوف التركية من سياسة المصالح الأوروبية التي تتجاوز التعبير عن الموقف إلى حد “شرعنة”، بطريقة أو أخرى، التحالف غير المباشر مع حزب العمال الكردستاني، وتفرعاته السورية والتركية.
على الساحة الأوروبية، ظهر شيء من التناقض الذي تتابعه السياسة والدبلوماسية التركية، فحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيا في عدد من الدول، بدا مستريحا ببروز سياسات أوروبية مصلحية، تستند إلى استغلال الظروف الناشئة في الشمال السوري المحاذي حدود تركيا.
في ألمانيا وحدها، ثمة بضعة ملايين من مواطني تركيا، من بين هؤلاء برز مجدّدا مؤيدو عبد الله أوجلان، على الرغم من الحظر الممتد سنوات، وأصبحت شوارع أوروبية كثيرة تعيش حالة تطبيع مع وجود أنصار هذا الحزب، ورفع راياته، وصور زعيمه المعتقل في تركيا.
التوتر الناجم عن غض الطرف الألماني، وتاليا في عدد من دول الشمال، عن تحرّكات أكراد تركيا زاد من التوجس التركي، خصوصا إثر صدامات شهدتها بعض مدن ألمانيا في خريف 2014، حيث بدأ بعض الأكراد السفر إلى عين العرب (كوباني) للقتال ضد “داعش”، واتهام سلطات أنقرة بأنها “تدعم التنظيم وتمنع الأكراد من قتاله”. تلك الصدامات التي أقلقت ألمانيا وفرنسا ودول أخرى في أوروبا لم تتوقف بفعل التدخل السياسي والأمني للجم الجاليات التركية والكردية التركية، فتحْتَ رماد محاولة الانقلاب الفاشل كان الاحتقان يتفاعل أكثر. الاتهامات التي طاولت السلطات التركية عزّزتها حملة كردية بارزة في التحالف مع أحزاب أقصى اليسار الأوروبي. وفي نواحٍ أخرى، ولو كانت غير كبيرة، مع أقصى اليمين، أنتجت تربة خصبة لنظرة متوجسة على جانبي ضفة المواقف مما جرى، إثر محاولة انقلاب صيف 2016، وقبلها اشتغال لوبيات اليسار واليمين القومي المتشدد على مسألة “خضوع أوروبا لابتزاز أردوغان في مسألة اللاجئين”. وفي هذه القضية، عزّز الخطاب التركي تلك المخاوف بتكرار أن تركيا يمكن لها أن تتراجع عن اتفاقية مارس/ آذار 2016 إذا لم يمنح الاتحاد الأوروبي مواطنيها حرية الحركة بحلول نهاية يونيو/ حزيران من العام نفسه.
بالتأكيد، لا يغيب عن الدبلوماسيين الأتراك، ولا حتى جالياتهم الكبيرة، المؤيدة في بعض مواقفها لتوجهات أردوغان إثر المحاولة الانقلابية، كيف أن برلمانيين غربيين انبروا لاستقبال قادة أجنحة عسكرية كردية- سورية وساسة من أحزاب كردية- تركية في برلماناتهم.
وإلى جانب ذلك، بدا أننا أمام حالة توافق يميني ويساري متشددين في مسألة العداء لأردوغان، وانتهاج سياسة اتسمت بـ”النكاية والمناكفة”، وفقا لوصف الناشط في حزب العدالة والتنمية، محمد سيميكشش، في كوبنهاغن. وقد أثار هذا الأمر موجة سخط بين صفوف مسلمي أوروبا، فقد اعتبر بعضهم أن “استهداف أردوغان وتركيا ينم عن نظرة كراهية للمسلمين، ورغبة في أن يحكموا دائما من موالين انقلابيين متحالفين مع الغرب”، كما يصف أحد الأئمة، في حديث خاص، عن مجريات هذه الأزمة.
لم يُعجب الأتراك كثيرا بتلك الخطوات التي تجري تحت عيني المستويين السياسي والأمني الأوروبي وبصرهما. وكثيرا ما كانت الأزمات على وشك الاندلاع بتلاسن إعلامي وسياسي، مع السويد والدنمارك على سبيل المثال، في الدرجة الثانية بعد ألمانيا، قبل أن يعود الطرفان إلى قراءة لغة المصالح. وقد عزّز استقبال دول أوروبية مؤيدين للمحاولة الانقلابية، كطالبي لجوء في عدد من الدول، ومنها هولندا التي عايشت أزمتها مع تركيا خلال الأيام الماضية، التوجس التركي من مواقف الاتحاد الأوروبي.
وفي الحديث مع أقطاب يسارية أوروبية، وحتى يسار وسط، عن العلاقات المتوترة، يعترف
بعضهم، وهم يحتلون مناصب عليا في رسم السياسة الخارجية لبلادهم، بأن ما جرى ويجري بين أوروبا وتركيا “بروز واضح لجردة طويلة متراكمة من التوجس التاريخي، إذ ليست اليونان وحدها من كان يضع العراقيل في عصي انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بل دول ما تزال تعاني من عقدة الفترة العثمانية، وبعضها انضم إلى الاتحاد في فترة متأخرة، وعانى من أوضاع اقتصادية وسياسية أكثر بكثير مما توصف به السياسة التركية الداخلية، على مستويات عدة، لعل أهمها ورقة الحريات وحقوق الإنسان”.
بالنسبة لهؤلاء، وعند أغلبهم لا حرج في الحديث بلغة المصالح، وليس المبادئ، فهم يرون أن “أنقرة أيضا تخطئ في انتهاج سياساتٍ تفيد الأطراف التي لا تريد لها أن تكون على وئامٍ مع الاتحاد الأوروبي”. وتضيف تلك المصادر السياسية والبرلمانية أن “السياسات الأوروبية أسهمت في تعزيز نظرة اليمين المتطرّف، وبطريقة ما اليسار المتطرّف، إلى ماهية الاتحاد الأوروبي ومستقبله، ناديا منغلقا على دول بعينها. ليس هناك شك بأن أردوغان اقتنص كل الفرص التي أخطأت فيها السياسات الأوروبية، فالرجل استطاع أن يقنع الأتراك بأنه لا طائل من الاتحاد الأوروبي الذي يعيش أصلا مأزقا وجوديا مع اكتساح اليمين الشعبوي صناديق الانتخابات والاستفتاءات، من بريطانيا التي خرجت من دون أن يكون السبب ما سمي أزمة اللاجئين، ولا طائل من مطالبه التعجيزية لتركيا من أجل أن تنضم إليه. استطاع أردوغان أيضا أن يشيع نظرية المؤامرة التي عزّزها الموقف الملتبس من محاولة الانقلاب، والموقف من حزب العمال الكردي وأفرعه في سورية وجنوب تركيا”.
رسائل بعكس تيار التعددية
بعض الساسة الأوروبيين من أصل تركي، وفي أغلبهم ينضوون في أحزاب اجتماعية ديمقراطية ويسارية تقليدية، ليسوا أيضا معجبين بسياسات أوروبية تجاري اليمين المتشدّد، ويتخذ هؤلاء من الأزمة المندلعة، أخيرا، بين تركيا وهولندا مثلا على قوة اليمين المتشدد وتأثيره، بزعامة غييرت فيلدرز الذي كان أول من أطلق تعبير “الفاشية الإسلامية” لوصف سياسات أردوغان. وبالنسبة لهؤلاء السياسيين والبرلمانيين الأتراك، فإن “اختلاط السياسة الداخلية في أوروبا، وخصوصا في قضايا لم تكن تطرح سابقا حول مسائل الولاء والاندماج، واتهام مئات الآلاف بأنهم طابور خامس، يعني أننا أمام حقبة جديدة من خطاب إقصائي، وتشديدات تطاول مزدوجي الجنسية”.
برأي كثيرين من مراقبي هذه الأزمة، وحتى ممن يعارضون أردوغان من أطراف اليسار التقليدي الأوروبي، الأمر الحقيقي الذي يجب أن يُبحث هو أزمة أوروبا مع هويتها، وليس الأتراك من يجب أن يجيبوا عن ذلك السؤال، بل ساسة الاتحاد ومشرّعوه “الذين باتوا عاجزين عن قراءة التحديات بتعزيز نظرتهم الضيقة لمفهوم المواطنة وتصنيف الأوروبي”. وقد رسخت أزمة الهوية الوطنية لدى هؤلاء بالتأكيد مخاوفها من موجة الهجرة واللجوء في الأعوام الماضية، لكن ذلك يظهر أيضا هشاشة المجتمعات وتقسيماتها الدينية والعرقية.
يتساءل برلمانيٌّ من يساريي الشمال الأوروبي: “كيف للبنان وتركيا والأردن أن يستقبلوا ملايين السوريين، وعلى الرغم من تعقيدات وضع لبنان الديموغرافية والسياسية، والذي زرناه ضمن وفود برلمانية، وبدون موارد وإمكانات ضخمة، استقبل بضعة ملايين، بينما يصرخ ساسة أوروبا بسبب قدوم مليون إنسان إلينا؟. وفي الأساس، هناك اختلاف جوهري في كيفية إنهاء معاناة هؤلاء اللاجئين في سورية من خلال سياساتٍ عارضت مطالب تركيا منذ البداية، ووضعت عراقيل كثيرة، ولم يضغط على الإدارة الأميركية لتنفيذ مناطق آمنة، كان يمكن لها أن تقي أوروبا وتركيا مسؤوليات جمة في الهجرة الجماعية من أوضاع مأساوية في سورية…”.
وفي بروكسل، يرى الناشط السياسي في صفوف الاشتراكيين، من أصل تركي، محمد صول أغا أراك، أنه “لا يمكن أن يمر موقف اتهام الدول بممارسة سياسة فاشية ونازية، من دون أن تؤلب الرأي العام، وتثير الشكوك بالأتراك”. وينتقد آغا أراك خطابا إعلاميا وسياسيا للرئيس التركي في التصعيد الجديد، “فاستناد الرئيس أردوغان إلى نظرية المؤامرة لن يكون مخرجا لأزمات وتشنجات داخل تركيا نفسها. نحن (الجاليات التركية) لا يجب أن ندفع ثمن هذا التشنج، ولا تأليب السياسات الأوروبية علينا، ووضعنا في مأزق مكلف لنا ولأبنائنا”، غير أن هذا السياسي يقول إنه “لدى بعض السياسيين الأوروبيين، سواء من اليمين المتشدد أو يمين الوسط نظرة استعلائية يختلط فيها الثقافي بالإيديولوجي تجاه الأتراك بشكل خاص وغير الأوروبيين عموما. وبناء السياسات على أساس أيديولوجي لن يكون بناءً في مسار تعزيز العلاقات بين الشعوب”.
في مصلحة سفينة أردوغان
لم يعد خافيا، لا على معارضي أردوغان ولا مؤيديه في الغرب، أن الأزمات التي عصفت
بعلاقات تركيا في عهد “العدالة والتنمية”، وبروز الأزمة الجديدة معبّرة عن أزمات عديدة متراكمة، تأتي لتصب في مصلحة أردوغان شخصيا، وحزبه داخل البلاد وخارجها. ففي مواجهة منتقديه ورافضي سياسات ما يسمونه “تركيز السلطات بيد الرئيس ومعاونيه، ومحاربة المعارضين باسم محاربة جماعة غولن”، يستخدم مؤيدو الرجل خطابا قوميا يشد من عضد مؤيديه، فقد كان من الصعب، إثر الانقلاب الفاشل، أن تجد تلك الأصوات تأييدا بين أتراك المهجر، حيث اندفعت جموع منهم في عدد من مدن أوروبا وعواصمها، مثلما اندفعت جموع الأتراك ملبية نداء أردوغان، وكان من الصعب أن يسبح منتقدوه بعكس التيار في أوروبا، وإن تناقلت وسائل إعلام غربية تصريحاتٍ من إسطنبول في ذلك المساء الانقلابي لسياسيين أوروبيين من أصل تركي وكردي، يقضون إجازاتهم في تركيا، شبيهة بما كانت تبثه قناة تلفزيونية باللغة العربية عن هروب أردوغان إلى ألمانيا. لكن المسألة لم تستمر كثيرا بعدما انكشف الواقع عن استعادة السلطة التركية زمام المبادرة.
المراهنة الجديدة لأردوغان ومؤيدي التعديلات الدستورية (استفتاء يوم 16 أبريل/ نيسان المقبل) على أتراك الخارج الذين يعدون بالملايين، ويحق لهم التصويت. وعلى الرغم من أنها اصطدمت بعقبات “منع القيام بحملات انتخابية” في دول أوروبية، وما نجم عن هذا المنع من احتكاك، وصل إلى حد طرد وزيرة شؤون الأسرة، فاطمة بتول صايان كايا، ومنع طائرة وزير الخارجية جاويش أوغلو من الهبوط في هولندا، ما أدى إلى فائدة كبيرة لأردوغان، سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي أو حتى من ناحية بروز المشاعر القومية مجدّدا، بما أتى وفقا لكثيرين من متابعي الشأن التركي في أوروبا بفوائد كبيرة للرجل.
ويرى المؤرخ والكاتب المتخصص بالشأن التركي في الشمال الأوروبي، دينيس سيرينسي، أن التوترات الدبلوماسية الأخيرة أفادت معسكر “نعم”، وذلك بسبب محاولة منع القيام بحملات انتخابية، والتي أيضا وجدت امتداداتها في دول أخرى، لم تكن مقصودة، كما في حالتي الدنمارك والسويد، حيث تسامحت الأخيرة مع إقامة بعض مستشاري أردوغان اجتماعات انتخابية، وأبعدت أشخاصا حاولوا تخريب الاجتماع، بينما الأولى طلبت تأجيل زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، التي كانت مقررة يوم 20 مارس/ آذار الجاري. ويرى الخبير أنه، وحتى مساء اندلاع الأزمة (11 مارس/ آذار)، وانكشاف مجرياتها علنا، كانت استطلاعات الرأي تشير إلى تساو بين المعسكرين، الرافض للتعديلات الدستورية والمؤيد لها، لكن تركيز أردوغان على كسب حوالي ثلاثة ملايين صوت في الخارج، من بين الأتراك الذين يحق لهم التصويت في القنصليات والسفارات، جعل، برأي دينيس سيرينسي، “الرياح تسير بما أراده أردوغان، فهو يأمل الآن أن تؤدي الضجة المثارة بسبب تصرفات هولندا وشرطتها مع سياسيين يمثلون الدولة التركية إلى اصطفافٍ قومي تركي في أوروبا خلف الرجل، فبضعة ملايين من أصوات الخارج يمكن أن تحسم المعركة لمصلحته داخليا”.
وكان قد سبق لألمانيا أن ألغت، قبل هولندا، اجتماعات انتخابية على أراضيها، فثارت انتقادات تركية عنيفة بحق برلين، وصلت إلى التلاسن والاتهام بممارسة سياسات “مضادة لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير”، وفقا لما ذهب إليه مؤيدو أردوغان، بينما اتسمت ردود أفعال السياسيين الأتراك بلغةٍ صارمةٍ وحادةٍ استدعت تدخل المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، للرد على اتهام بلادها بممارسة “سياسة نازية”.
وبالنسبة لأقطاب يسارية أوروبية متابعة للعلاقات بين الطرفين، “ما كان يجب أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه من تراشقٍ يصب، في النهاية، في مصلحة الرئيس التركي”، وفقا لما يؤكده المحلل السياسي في كوبنهاغن، مورتن فيسترغوورد الذي يرى أن ما جرى من ضجة كبيرة مترافقة للمنع الألماني والهولندي لم تكن ضجة اعتباطية”، بل هي إستراتيجية واعية، هدفت إلى إثارة مزيد من الضغوط على الدولتين (هولندا وألمانيا)، وفي الوقت نفسه، فتح عيون أتراك الخارج على الذهاب بقوة نحو صناديق الاقتراع الشهر المقبل للتصويت له”.
إلى أين؟
يعتبر كثيرون أن “تركيا لا يمكنها أن تجمد علاقاتها بأوروبا التي لن تكون قادرة أيضا على استغناء تام عن تركيا وثقلها في قضايا عدة، فلدى تركيا أوراق قوية، لعل أهمها ورقة اللاجئين السوريين التي أتقنت لعبها في مفاوضات 2016، وإن كان التطبيق غير مرض بشكل تام لتركيا”، وهو ما يعيد تأكيده المؤرخ والكاتب دينيس سيرينسي.
ويبدو من الأزمة أن الأتراك، وبعد 50 سنة من محاولات الانضمام إلى السوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي، باتوا أكثر تحرّرا في توجيه انتقاداتٍ لاذعة لسياسات أوروبا عمّا كانوا عليه سابقا. فالاعتقاد السائد بين محللي الشأن التركي في أوروبا أن تركيا باتت، على الصعيد الشعبي، أكثر اقتناعا بأنها لن تصبح عضوا في النادي الأوروبي، “فالاتحاد الأوروبي أعطى الشعب التركي انطباعا بأنه لا يؤخذ جدّيا، وهو ما جرى تأكيده عبر ممارساتٍ أغضبت القاعدة الشعبية، حتى غير المؤيدة لأردوغان، وهو ما صب في مصلحته بنهاية المطاف”، وفقا لما يضيفه سيرينسي.
ويرى كبير الباحثين في المركز الدنماركي للدراسات الدولية، هتنس مورتينزين، أن “تهديد الأتراك بالرد على الخطوات الأوروبية يجب أن يؤخذ جديا. فلدى الأتراك ما يمكن أن يوجعوا من خلاله دول أوروبا. يمكنهم، مثلا، أن يفتحوا اتفاق اللاجئين مجددا لإعادة التفاوض، وفرض بعض شروطهم المؤلمة”. وعلى الرغم من ذلك، يقدّر سيرينسي أن “الأمور لن تسوء إلى تلك الدرجة التي تستدعي إعادة التفاوض، فالطرفان يحتاج واحدهما إلى الآخر”.