المجتمع العراقي شديد التنوع لم يسبق له أن بلغ درجة من التفكّك مثل التي وصل إليها اليوم والتي تجعل العراق مهيّأ للدخول في متاهة جديدة من الحروب الداخلية بمجرّد الانتهاء من الحرب على داعش. وسط توقعات بأن طرد داعش سيفتح الباب أمام عودة التنافس بين القوى المحلية المسنودة خارجيا لتثبيت سيطرتها على مناطق أوسع وخاصة المناطق النفطية المتنازع عليها مثل كركوك. ويخيم شبح الحرب الطائفية والعرقية على عدد من المناطق العراقية المعروفة بتنوع تركيبتها السكانية وخصوصا تلك المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان العراق، مثل كركوك والذي باتت فسيفساؤه السكانية بمثابة برميل بارود مهيأ للانفجار في أي لحظة.
وسرّع تقدّم الحرب على تنظيم داعش من وتيرة الصراع على عدد من مناطق العراق، مع بروز رغبة أطراف مشاركة في تلك الحرب باستغلالها لتغيير الحدود المتعارف عليها حاليا وتحوير خارطة السيطرة على المناطق. وسبق لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، أن عبّر عن ذلك بالقول “إنّ حدود الإقليم ترسم الآن بالدم”. وشهدت مناطق عراقية متعدّدة الأعراق والمذاهب خلال السنوات الماضية تفجّر نزاعات مسلّحة اعتبرت مؤشرا خطرا على صراع مذهبي عرقي تغذيه المطامع الإقليمية، وقد يكون عنوان مرحلة ما بعد الحرب على داعش في العراق بما أفرزته من تغوّل قوات غير نظامية منفلتة من رقابة الدولة، في مقابل تراجع مكانة القوات المسلّحة العراقية وسقوط هيبتها.
ومن تلك المناطق محافظة كركوك التي تعتبر نموذجا عن تنوع التركيبة السكانية في العراق، فقوميا تتعايش داخله قوميات الكرد والعرب والتركمان، ومذهبيا يتعايش داخله السنّة والشيعة. ويذكر أن محافظة كركوك التي تقع وسط شمال العراق، ذات أهمية كبيرة اقتصادياً. إذ تشتهر بالإنتاج النفطي، وتوجد فيها ستة حقول نفطية أكبرها في مدينة كركوك العاصمة المحلية للمحافظة. ويبلغ المخزون النفطي حوالي 13 مليار برميل، ويُصدر النفط الشمالي عن طريق أنبوب نفط الشمال إلى ميناء جيهان التركي. بلغ عدد سكان المحافظة كركوك 752 ألف نسمة وفقاً لإحصاء جرى في العام 1997، وتُعتبر مدينة كركوك من المناطق المتنازع عليها بحسب المادة 140 من الدستور العراقي. تُقسم محافظة كركوك إلى أربعة أقضية إدارية، هي قضاء كركوك بعدد نفوس يُقدّر بنحو 450 ألف نسمة، وقضاء داقوق بنحو 50 ألف نسمة، وقضاء الدبس بنفوس تُقدّر بنحو 100 ألف، وقضاء قضاء الحويجة بواقع 500 ألف نسمة.
ويرى متابعون للشأن العراقي أن الفصائل المسلحة المحلية المختلفة ستعمل على استثمار ما غنمته في الحرب من عتاد وخبرات عسكرية، واعتراف إقليمي ودولي بدورها في الحرب على داعش، لتخوض حروبا جديدة حول الغنائم، معتبرين أن فصائل الحشد الشعبي الشيعية وقوات البيشمركة الكردية ستكونان مؤثرتين في معارك تثبيت الخرائط الطائفية والعرقية الجديدة. وربما ستكون كركوك هي المحطة الأولى في ذلك التثبيت حيث نشرت وسائل الإعلام المحلية، كتابا رسميا لمحافظ كركوك نجم الدين كريم يطالب فيه مجلس المحافظة بالموافقة على رفع علم كوردستان بجانب العلم العراقي في جميع المؤسسات الحكومية بالمدينة. وجاء في كتاب محافظ كركوك المنشور قبل نحو يومين أنه “بمناسبة أعياد نوروز وكون كركوك من المناطق المتنازع عليها ومشمولة بالمادة 140 من دستور العراق نطلب من مجلسكم إقرار وجوب رفع علم كوردستان بجانب علم الجمهورية العراقية في جميع دوائر المحافظة، وفي المناسبات الرسمية”. وردّا على الطلب محافظ كركوك، عقد في 20 آذار/مارس الحالي، ممثلو المكون التركماني اجتماعاً على مستوى القيادات دعوا فيه المحافظة لرفض القرار الذي قالوا انه يهدف لخلق الفتنة بين مكونات المحافظة. وفي هذا الاطار، صرّح حسن توران، نائب عن التركمان بالقول: “أبدى المجتمعون رفضهم القاطع لهذا القرار كونه يخالف الدستور العراقي والقوانين النافذة ويعمل على خلق الفتنة بين مكونات كركوك التي نحرص على تمتين العلاقة الاخوية فيما بينهم، وعلى مجلس المحافظة رفض مناقشة هذا القرار لكونه مخالف للدستور وسيعمل على احداث شرخ بين كتل المجلس”.
وينسحب على ذلك الموقف الرافض لرفع العلم الكردي فوق المؤسسات الحكومية في كركوك، موقف الحكومة العراقية منه، حيث قال المتحدث باسم الحكومة العراقية، سعد الحديثي، في 20آذار/مارس الحالي، بأنه من الضروري رفع العلم العراقي لوحده في محافظة كركوك، لأن رفع علم إقليم كوردستان هو أمر غير دستوري، مشيرًا بأن الحكومة العراقية ترفض جميع المواقف الأحادية في هذا الجانب. وقال الحديثي، “ان الدستور العراقي قد اوضح صلاحيات الحكومات المحلية في المحافظات التي لا ترتبط بإقليم، وأوضح أيضًا صلاحيات الحكومة الفدرالية عليها، ومحافظة كركوك واحدة من هذه المحافظات”.وحول تواجد كركوك من ضمن المناطق المتنازع عليها، قال المتحدث بإسم الحكومة العراقية، “لاتزال هذه المناطق من ضمن صلاحيات الحكومة العراقية، ولهذا لا يجوز رفع اعلام اخرى غير العلم العراقي في المناطق الخارجة عن حدود إقليم كوردستان، ولا يجوز رفع اي اعلام اخرى على الدوائر الحكومية ايضاً، فكل هذه الامور هي من صلاحيات الحكومة الاتحادية وكركوك من ضمن المحافظات التي هي من ضمن صلاحيات هذه الحكومة اسوة بباقي المحافظات، ويجب ان ترفع العلم العراقي فقط”.
ولم يقتصر الرفض على الداخل العراقي وإنما امتد أيضا إلى تركيا، حيث قال المتحدث باسم الخارجية التركية حسين مفتي أوغلو إنّ “مطالب رفع علم الإقليم الكردي إلى جانب العلم العراقي فوق دوائر مدينة كركوك خلال أيام العمل الأسبوعي، قد تؤدي إلى خطر إلحاق الضرر بمحاولات إحلال الاستقرار والتوافق في العراق”. وأوضح أوغلو في بيان أنّ “التصرفات الأحادية الجانب في هذا الخصوص، ستخلق خطر تآكل هوية كركوك التي تتميّز بتعددية ثقافية، وتعكس الغنى الاجتماعي والاقتصادي للعراق”.
وتقدم تركيا نفسها حليفا لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، تريد أن تقطع الطريق أمام البيشمركة حتى لا تعمل على استثمار دورها في الحرب على داعش، أو في التضييق على حزب العمال الكردستاني المحظور تركيا، في بسط نفوذها على الإقليم المرشح ليكون ساحة حرب عرقية طويلة المدى. ولم يكن موقف مفتي أوغلو مفاجئا، فقد سبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أكد في تصريح له في تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي على أنه “لا يمكن أن نترك إخواننا في كركوك والموصل وحدهم”. وأشار محللون إلى أن الرئيس التركي تعامل بواقعية مع إقليم كردستان، وأنه كان يريد من البارزاني أن يقف معه ضد أكراد تركيا وأكراد سوريا دون أن يقدم له مقابل ذلك أي دعم لتثبيت وضع الإقليم عراقيا. وليس مستبعدا أن تتسع دائرة الصراع حول كركوك في ظل التوتر القائم في سوريا بين تركيا والأكراد الذين تحولوا إلى معطى محوري في الملف السوري، مع سعي كل من واشنطن وموسكو للعب الورقة الكردية لتثبيت مصالحهما شمال سوريا.
ويحذّر من أن تكون محافظة كركوك بداية الصراع الجديد في العراق بعد داعش نظرًا للسلاح الكثير والمتنوع الذي أصبح بين أيدي الميليشيات الشيعية، من جهة، وتزايد قوّة البيشمركة الكردية قياسا بالجيش العراقي وتزداد طموحات أكراد العراق إلى إنشاء دولتهم المستقلة وتوسيع حدود إقليمهم إلى المناطق المتنازع عليها مثل محافظة كركوك الغنية بالنفط. حيث تؤشّر مثل هذه الصراعات التي يُخشى أن تتحول إلى حرائق متنقلة عبر مناطق العراق، على الضرر البالغ الذي لحق بوحدة المجتمع العراقي شديد التنوّع، وهو ضرر يتجّه نحو بلوغ درجة الانفجار بفعل ما هو قائم من فوضى السلاح، وكثرة الأجسام شبه العسكرية غير النظامية، فضلا عن وفرة عوامل التوتير من عداء طائفي وعرقي ومن تدخلات إقليمية تترجم حجم المطامع في العراق الضعيف. فالحرب على د”اعش” قد لا تكون المرحلة النهائية في الصراعات المسلّحة بالعراق، بل ربما تكون مقدمة لحروب أهلية مركبة ذات طابع قومي وطائفي.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية