منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، خاطبت السياسة الخارجية الأميركية العالم العربي بثلاث طرق مختلفة. الأولى، في ظل إدارة جورج دبليو بوش، عكفت على تسمية وتشويه سمعة ومواجهة “محور الشر”. والثانية، في عهد الرئيس باراك أوباما، حيث تحاشت المواجهة مع القوى الإسلامية لصالح محاولة إشراكها سياسياً.
وعلى الرغم من أن مواصفات استراتيجية الرئيس ترامب ربما ما تزال في طور التحول، فإن هناك شعوراً بأنها تجمع بين درجة من البراغماتية، والرغبة في التصدي للأعداء، ومحاباة الحلفاء، وتقوم دورياً بإلقاء جميع الأطراف في صراع معين من أجل التوازن. ويُعرِّف الرئيس ترامب بوضوح “الإسلام المتطرف” بأنه هو العدو الأول. وهو يرى بوضوح أن التهديد الإرهابي الرئيسي الموجه إلى الولايات المتحدة ينبع من الدول العربية الفاشلة التي تعيش في مخاضات الحرب الأهلية. وهي مخاوف قائمة ومشروعة. لكنها تحتاج إلى تفكيكها وتطويرها للوصول إلى تقييم أكثر تفصيلاً لطيف من الحركات والتهديدات الإسلاموية التي يشكل بعضها خطراً أكبر بكثير مما يشكله البعض الآخر. ولا يعني القيام بذلك الخضوع للظلامية- أو “شلل التحليل”، كما أشار بعض منتقدي بيت أوباما الأبيض إلى السياسات التي انتهجها. بل على العكس من ذلك، إنه الوسيلة لشحذ استراتيجية الأمن القومي التي يريد الرئيس انتهاجها.
للإسلاموية -نطاق مجموعة الأيديولوجيات السياسية المعاصرة التي تسترشد بـ”أفكار” عن الإسلام- أوجه عدة. وأحد هذه الأوجه -ما تمكن تسميته “السلفية الجهادية”- هو في الحقيقة نوع من التكوين المهجن من الدين والفاشية. ومن أشد خصوم السلفية الجهادية الليبراليون العرب الذين يعارضون كلاً من هذين العنصرين: وهم يريدون روحاً مدنية متسامية، من دون فرض الدين على حيوات الناس، كما يريدون نظام حكم تعددياً، لا دولة تنتمي إلى الفاشية الجديدة.
خلال ما سمي -على نحو غير مناسب- “الربيع العربي”، شهدت المنطقة اتجاهات أخرى من الإسلاموية، والتي شكلت هي الأخرى تهديدات للمنطقة. بعضها دانت الإرهاب، لكنها شاركت في أسسه المتطرفة، دافعة بشكل غير مباشر بأهداف الجهاديين السلفيين من خلال شن حرب سياسية ضد المبادئ العالمية نفسها التي يكرهها الجانبان. وقد اختلفت هذه الاستراتيجيات “السياسية الإسلاموية” ومحصلاتها من بلد إلى آخر. ففي مصر، انتهى الحال بحكومة الإخوان المسلمين بقيادة محمد مرسي بإراقة الدماء. وفي الأردن، حيث لعب الإخوان المسلمين دوراً سياسياً لعقود، تم حل البرلمان الذي كانوا يسيطرون عليه بشكل سلمي، وإنما حازم أيضاً. وفي تونس، تم ضبط حركة “النهضة” الإسلامية التي كسبت غالبية الأصوات في أول انتخابات برلمانية ديمقراطية يشهدها البلد، بواسطة المؤسسات المرنة للمجتمع المدني فيه -بشكل ملحوظ على يد العمالة المنظمة. وفي المغرب، حيث كسب حزب العدالة والتنمية الحق في الحكم في انتخابات مشهودة، عمد الملك إلى ضبط حركة الحزب في مجالات رئيسية -الشؤون الخارجية والسياسة المجتمعية- بالإضافة إلى عمل المؤسسات المدنية المغربية التي أحبطت تطلعات حزب العدالة والتنمية.
تُظهر التناقضات بين هذه المحصلات الأربع السبب في أن من الخطأ النظر إلى العالم العربي أو إلى مشاكله على أنها شيء واحد. كما أن الأمر لا يتعلق ببساطة بمناقشة كيف يجب النظر إلى الأعوام الأخيرة بشكل استعادي؛ كما يحتاج المرء أيضاً إلى وضع نهج خاص في اتجاه مستقبل كل بلد على حدة.
في مصر، مسقط رأس حركة الإخوان المسلمين، نشطت الحركة على مدى قرن تقريباً، واستطاعت النجاة من موجات من القمع، وبنت شبكة من الجمعيات الخيرية التي عادت عليها بدعم شعبي دائم -إذا لم يكن بسبب أفكارها المتطرفة، فبسبب قيمتها العملية. وتشكل هذه الحقيقة المجتمعية تحدياً لأي محاولة لمحو الحركة عن طريق القوة. وفي الوقت الحالي، تترنح مصر على شفا الإفلاس. وتتجاوز نسبة البطالة فيها 100 في المائة. وتسجل احتياطيات العملات الأجنبية أدنى مستوى لها منذ أكثر من جيل. ووصلت معدلات البطالة مستويات عليا جديدة. ومشاعر الاستياء الشعبي -إحدى نتائج الانهيار الاقتصادي- تنذر بزعزعة استقرار المشهد السياسي من خلال نزعة استعادة الأرضية الإسلاموية، والإرهاب في حقيقة الأمر.
وليس الأردن في موقف أفضل بكثير. فالمملكة الهاشمية تعاني من ركود اقتصادي بينما تحيط بها الحروب الأهلية والحركات الجهادية، مما تسبب في ركود صناعة السياحة في البلد. وقد تغذت فيه شخصية النشاط الإسلاموي دائماً على الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي المتخمر. ويؤدي العمل الإسلامي الذي تغذيه مشاعر السخط في الأردن -والعرضة أيضاً إلى التسبب بالعنف- إلى إلحاق الضرر بالبلد وتعزيز القوى الرجعية خارج حدوده.
ولك أن تضيف تونس إلى قائمة البلدان التي تتوافر على بصمة إسلامية قوية، والذي يعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة. وبينما ساعدت المؤسسات المدنية غير الإسلامية في حماية البلد من الهيمنة الإسلامية –حيث خسر حزب النهضة السيطرة على الحكومة، على الرغم من أنه يظل لاعب قوة في البرلمان- فإن البلد يعاني من مشاكل أخرى. فعبر حدوده المسامية مع ليبيا تتدفق الأسلحة واللاعبون الجهاديون الذين يزودون الحرب الأهلية في البلد بالوقود. وفي الأثناء، ارتفع منسوب الفقر وأصبحت العجوزات محلقة. كما أوقفت الدولة كل التوظيف.
في المغرب، يبدو الوضع مختلفاً وأكثر أملاً. ففي أعقاب الدستور الذي شكل نقطة تحول في العام 2011، والذي سمح للانتخابات البرلمانية بتقرير من يرأس الحكومة، أصبح الإسلاميون يسيطرون الآن على نسبة 20 في المائة من الأصوات. وقد مارس الملك محمد السادس سلطاته لحل مأزق انتخابي في أعقاب انتخابات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما فشل رئيس الوزراء الإسلامي المكلف، بن كيران، في تشكيل حكومة أغلبية (أكتوبر) على الرغم من مرور خمسة أشهر من المفاوضات مع الفصائل الأخرى. والآن، سوف تتولى شخصية أخرى من نفس حزب العدالة والتنمية رئاسة الوزراء.
يجب على دور أميركا في هذه البلدان العربية المحورية الأربع، وفي أخريات، أن يأخذ هذه المتناقضات بعين الاعتبار. وسيكون على واشنطن عندئذ تشكيل الخلطات المختلفة من الضغط السياسي والاقتصادي والحوافز من جهة، والانخراط العسكري حيثما اقتضت الضرورة، من جهة أخرى.
أحمد شاراي
صحيفة الغد