“عمري سبع سنوات، دعوني أكبر”، تحت هذا الشعار، وفي إشارة إلى عمر الجمهورية الخامسة التي أسسها، خاض ديغول الانتخابات، وكانت كل الإحصاءات تشير إلى اكتساحه مرشح اليسار الموحد (غير الشيوعي) فرانسوا متيران، ومرشح يمين الوسط جان لوكانيه في الدور الأول. ومن ضمن المرشحين، برز اسم جان لويس تيكسيه فينانكور، ممثلا لليمين المتطرّف، وتولى جان ماري لوبان الإشراف على حملته الانتخابية التي تبنت شعار “المعارضة الوطنية”. أما مرشح المفاجأة آنذاك، فكان المتعهد الفرنسي مارسيل باربو الذي طرح نفسه مرشحا غير محسوب على اليمين واليسار والاشتراكية..إلخ. وأطلقت عليه الصحافة الفرنسية تعبير “Candidat des chiens battus”، أي مرشح الضائعين وغير القادرين على فهم توجهاتهم، والذين يثيرون الشفقة.
ردا على ترشّح ديغول، أعلن فرانسوا ميتيران مباشرة ترشحه مرشحاً لليسار الموحّد، وطرح
شعارا واحدا لحملته الانتخابية “رئيس شاب لفرنسا حديثة”، وشدّد، في لقاءاته الانتخابية أمام مناصري الحزب الاشتراكي، على ضرورة إعطاء الفرصة لوجهٍ شاب ليقود فرنسا. في الوقت الذي بدأ متيران بشبابه المتجدّد يشكّل خطرا جديا على إعادة انتخاب ديغول، لوّح وزير الداخلية الديغولي، روجيه فري، بنشر صور له (متيران) تجمعه بالماريشال فيليب بيتان إبان الحكم النازي لفرنسا، وهي التي ظهرت في الفيلم الوثائقي الذي أعده سيرج مواتي وهوغ نانسي “ميتيران في فيشي”، وأعاد نشرها مراسل “بي.بي.سي” في باريس، فيليب شورت، في كتابه “الأسرار الأخيرة لميتيران”. بطلب من ديغول، تراجع فري عن تهديده، بعد تلويح من اشتراكيين بفتح ملف حرب الجزائر.
في عددها الصادر نهار 17 أكتوبر/ 1963، وعلى صفحتها الأولى، نشرت يومية “الإكسبرس” صورة رجل يلبس معطفا أسود طويلاً مع حقيبةٍ في يده، يدير لنا ظهره وعنونت “السيد X في مواجهة ديغول”. وأجرت معه مقابلة مطولة، سألته فيها عن أسباب ترشحه ومعارضته لنجاح ديغول ثانية، وعن مشاريعه لفرنسا في حال أصبح رئيسا.
ومن جملة الانتقادات التي وجّهها “السيد X” للخط الديغولي “فشل الجنرال المقاوم في إرساء فرنسا حديثة. كان مهووساً بفكرة القطب الوهمي الذي يتفوق على الولايات المتحدة من منظور القرار الفرنسي المستقل، والمتمايز عن الثنائية القطبية التي جسّدتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لم تكن أوروبا بالنسبة لديغول سوى قارة يطغى عليها الطابع المحافظ الليبرالي، ولم تكن يوما تقدميةً ومنظمةً اقتصاديا واجتماعيا، لتكون أكثر قوة وفعالية”.
لكن، من هو “السيد X” الذي شغل فرنسا بترشحه؟ بعد شهرين على المقابلة التي أجراها مدير التحرير، جان فيرنيو، كشفت “الإكسبرس” عن شخصية الرجل الذي فشل لاحقا في جمع عدد التواقيع الملزمة لقبول مشاركته في السباق إلى الإليزيه. إنه غاستون ديفير، عمدة مدينة مرسيليا الاشتراكي الذي أراد أن يصنع الحدث بحملةٍ انتخابية، دعت إلى الوسطية، في مسعىً منه إلى كسر الاستقطاب على اليسار من الاشتراكيين والشيوعيين، وعلى اليمين من الديغوليين. تعرّض ديفير الحالم بمرحلة “ما بعد ديغولية” لانتقادات كبيرة من الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF)، ومن التيار اليساري للقسم الفرنسي من العمالية الدولية (SFIO)، وأعلن انسحابه من السباق الرئاسي صيف 1965، تاركا الملعب لمرشح اليسار الأوحد، فرانسوا متيران.
وإذا كان كل من ديغول ومتيران المرشحين اللذين شغلا التلفزيون والصحف، فإنّ جان لوكانويه مرشح يمين الوسط هو أول من أدخل الخطاب الدعائي والبروباغاندا التسويقية إلى الحملات الانتخابية في فرنسا. في حديثه عن “السرد القصصي”، يقول الباحث والكاتب كريستيان سلمون إنّ لوكانويه هو من أسس هذا النمط من الحملات التي تكرّرت لاحقا في فرنسا، تحديدا في انتخابات 2007 مع نيكولا ساركوزي وسيغولين روايال.
لم يكن عمدة مدينة روان، عاصمة النورماندي التاريخية، شخصا معروفا عندما بدأ حملته. كانت صوره مع عائلته مذيلة بعبارة “اسمي جان لوكانويه، وعمري 45 سنة، كينيدي فرنسا” تملأ مدن شمال الغرب الفرنسي، وشيئا فشيئاً، بدأ يصنع شعبية في فرنسا كلها، حتى حاوره المذيع الفرنسي، ليون زيترون، في وقتٍ كان الديغوليون يسخرون منه، ومن شعاراته، استطاع الرجل أن يحصد 15,6% من الأصوات في الدور الأول، ليحل ثالثا خلف ديغول ومتيران، ويعلن بعدها تأسيس حزب الوسط الديمقراطي.
في خضم تحضير المرشحين للحملات الانتخابية، خرج الفنان الساخر، بيار داك، ليعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية، معلنا عن تأسيس “الحركة الموجية الموحدة” الذي تبنى شعارا هزليا “الأوقات عصيبة، يحيا الـ MOU”. وفي أول مؤتمر صحافي له، ظهر داك على شاشة التلفزيون محاطا بحارسين شخصيين، هما خوري مزيّف وشيخ عربي مزيّف. استمر داك بترشحه الهزلي حتى اتصال ديغول الذي طلب منه سحب الترشح، فحصل ذلك مباشرة من الساخر الوفي للجنرال المقاوم.
جرت الانتخابات في 5 ديسمبر/ كانون الأول بنظام الاقتراع المباشر، مع تأهل المرشحين الحائزين على أعلى نسبة من الأصوات إلى الدور الثاني المقرّر بعد أسبوعين في 19 من الشهر نفسه. شارك 24 مليون فرنسي في الانتخابات من 28 مليون مسجلين في لوائح الشطب، وتصدّر ديغول الدور الأول بنسبة 44,65% من المقترعين. وكما كان متوقعا، جاء متيران ثانيا، وحصل على 31,71% من الأصوات. حلّ جان لوكانويه ثالثا ليخرج من السباق الرئاسي، ولتذهب جلّ أصوات مناصريه في الدور الثاني للجنرال ديغول الذي حسم السباق في 19 ديسمبر، بحصوله على نسبة 55% في مقابل 46 % لمتيران، ويصبح أوّل رئيس للجمهورية الخامسة.
من ضمن الأسرار التي بقيت مجهولة في تلك الانتخابات عدم دعوة جان لوكانويه مناصريه للتصويت لديغول في الدور الثاني، ويعيد متابعون ذلك إلى رغبة مرشح يمين الوسط في انتزاع شعبية من التيار الديغولي الذي بدأ يشهد انقساماتٍ متعلقة بالوزارات التي يشغلها محسوبون على ديغول وبالانتخابات التشريعية المقبلة، لكنّ جورج فالنس كشف في كتابه “فاليري جيسكار ديستان..حياة”، الصادر سنة 2011 عن دار فلاماريون، أنّ لوكانويه ندم على عدم دعوته مناصريه للتصويت لديغول، وهذا ما دفعه، بشكل كبير، إلى التوجه نحو تأسيس حزب وسطي، أنتج لاحقا مرشح الوسط التاريخي، فرانسوا بايرو.
في ثورة 1968
كما الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا وبولندا، شهدت فرنسا في عام 1968 أزمة اجتماعية، شكّل طلاب الجامعات نواتها الأساسية، وانخرط فيها أدباء ومفكرون بعد النداء الشهير “البيان 121″، المناهض للمشاركة في الحروب، والذي يحرّض على اتباع كل أشكال العصيان المدني، وهو البيان الذي صاغه موريس بلانشو، وتبناه عشرات المفكرين، أبرزهم جان بول سارتر. وعندما اعتقلت الشرطة سارتر في أحد النشاطات الطلابية، سارع ديغول إلى إخلاء سبيله قائلا “من يعتقل فولتير؟!..”
صبيحة 15 مارس/ آذار 1968، عنونت يومية لوموند “فرنسا في حالة ملل”. لم يمض أسبوع، حتى اندلعت الثورة الطلابية في كلية نانتير، وتصدّر المشهد آنذاك شاب تروتسكي، يدعى دانيال كون بنديت، بدعوته إلى توسيع رقعة الإحتجاجات الطلابية، فكان ذلك، وطالت المظاهرات كل الجامعات الكبرى في فرنسا، لاقتها تحركاتٌ عمالية في شهر مايو/ أيار، وصلت إلى الإضراب العام المفتوح في 13 من الشهر نفسه. وتطوّرت الأحداث بشكل دراماتيكي، في الأسبوع الأخير من شهر مايو/ أيار، بعد تصاعد وتيرة الصدامات بين اليساريين/ الشيوعيين وأنصار اليمين (الديغولي والمتطرّف)، وشهد الحي اللاتيني مواجهاتٍ مباشرةً، نجم عنها سقوط عشرات الضحايا. وفي وقت غاب فيه ديغول بشكل غريب ومفاجئ، وتولى رئيس حكومته، جورج بومبيدو السلطة، راجت تسريباتٌ عن فرار ديغول إلى بادن في ألمانيا. وزادت تصريحات متيران الطين بلة، بعد إعلانه “غياب الدولة عما يجري في شوارع باريس”، فشهد يوم 30 مايو/ أيار عودة ديغول، وخروجه بخطاب محكم، أعلن فيه نجاح المفاوضات بين السلطة والنقابات العمالية وممثلي المجموعات الطلابية، في ما عرف باتفاقية غرينيل، وحل الجمعية الوطنية، والدعوة إلى انتخابات تشريعية، حصد فيها الديغوليون الأكثرية المطلقة في البرلمان، لكنّها كانت بداية نهاية المرحلة الديغولية.
في 27 أبريل/ نيسان من عام 1969، طرح ديغول مشروعا للاستفتاء، يتعلّق بتنظيم المحافظات ومجلس الشيوخ، وللمرة الأولى، يصطدم الرجل بمعارضةٍ، بلغت نسبتها 52%، ليعلن، في اليوم نفسه، استقالته من منصبه، مع رسالة قصيرة تولى بثها رئيس المجلس الدستوري آنذاك، غاستون باليسكي، “أتوقف اليوم عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية الفرنسية. هذا القرار يصبح فاعلا بدءا من ظهر الغد”.
العالم العربي
اكتسب ديغول هالة من الهيبة، بعد تحرير بلاده من النازية، وقدّم نفسه “محرّراً للشعوب وصديقا للعرب”، خصوصا بعد مواقفه المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لكنّ مواقفه تلك وقفت حاجزا عند سياسته الغامضة في الجزائر، جعلت الأحداث المأساوية بين 1958 و1960 تعيد النظر في رؤية الجنرال لمفاهيم الاستقلال والحرية. لذلك توصّل إلى فهم أنّ استقلال الجزائر سيأتي عاجلا أو آجلا، وهي المفارقة التي تبدو واضحة لدى استلامه الحكم عام 1958، في مسعى إلى إنقاذ فرنسا في الجزائر، لينتهي به المطاف معترفاً باستقلال الجزائر، على الرغم من كل الطرق والأساليب التي حاول أن يستخدمها لقولبة الاستعمار، وإضفاء صفةٍ شرعيةٍ على الانتقال من صورة المستعمِر إلى صورة المحرِّر.
عندما وصل ديغول إلى السلطة، كانت العلاقات الفرنسية – الإسرائيلية قد أخذت شكل التحالف العسكري، جاءت تتمة للتعاون الذي جمعهما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عزّزتها حرب التحرير الجزائرية، فتوثّقت تلك العلاقة حتى عام 1964، حين بدأت بوادر التقارب العربي-الفرنسي تظهر، وقد اتضحت معالمها بعد حرب الأيام الستة عام 1967.
أحمد عيساوي
صحيفة العربي الجديد