فيما يتعلق بالتطورات الأخيرة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ركزت ردود أفعال المعلقين الدوليين على المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الزعيمان ترامب ونتياهو يوم 15 شباط (فبراير)، وركزوا فيه على تصريحات ترامب بالتحديد، خاصة ما بدا أنه تخليه عن الموقف الأميركي لكلا الحزبين، الداعم لحل قائم على فكرة الدولتين للصراع. وقال الرئيس الأميركي في ذلك المؤتمر: “أنا أنظر إلى حل الدولتين والدولة الواحدة، وأحب الحل الذي يحبه الطرفان. أستطيع أن أعيش مع أي منهما”. وبالنظر إلى جهل ترامب بالشؤون الدولية بشكل عام، وشؤون الشرق الأوسط بشكل خاص، فربما لم تكن لديه فكرة عن مضامين ما يقول. وقد أعلن أن على الفلسطينيين “أن يعترفوا بإسرائيل، يجب أن يفعلوا ذلك”، غير مدرك تماماً لحقيقة أن ذلك بالضبط هو ما فعله الفلسطينيون مسبقاً -ليس مرة واحدة وإنما في ثلاث مناسبات منفصلة: بناء على طلب ريغان ووزير خارجيته، جورج شولتز، في العام 1988؛ وفي العام 1993، في سياق اتفاقيات أوسلو؛ ومرة أخرى في غزة في العام 1998، بحضور الرئيس الأميركي آنذاك، بيل كلينتون. وربما لا يكون ترامب مدركاً أيضاً لحقيقة أن حكومة نتنياهو لم تعترف أبداً بالحق الفلسطيني في تقرير المصير الوطني وإقامة دولة على أي جزء من فلسطين، حتى مع أن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة أكد على هذا الحق مراراً وتكراراً (مثلاً: القرار 242 في العام 1967؛ والقرار 1515 في العام 2003)، كما أكدته محكمة العدل الدولية أيضاً (في العام 2004).
ولم يسحب الفلسطينيون أبداً اعترافهم بإسرائيل، لكنهم رفضوا الاعتراف بقرار إسرائيل تعريف هويتها القومية بمصطلحات دينية وعرقية، وهو مطلب ليس لأي دولة الحق في فرضه على دول أخرى. ولم تكن إسرائيل لتوافق أبداً على مثل هذا المطلب لو تقدم به الفلسطينيون، أو أي دولة مسيحية -إذا كان ذلك يهم.
لكن قدراً أقل كثيراً من الاهتمام توجه إلى ما قاله نتنياهو في ذلك المؤتمر الصحفي، على الرغم من أن ما قاله كان أكثر كشفاً عندما يتعلق الأمر بآفاق حل الدولتين من أي شيء قاله ترامب. ففي رده على صحفي سأله عما إذا كان ما يزال يدعم حل دولتين، قال نتنياهو إنه يعتبر مصطلحات “دولتين” و”دولة واحدة” مجرد “توصيفات” سطحية، وأنه يفضل التعامل مع “الجوهر”. وقال أن هناك “شرطين أساسيين للسلام. أولاً، يجب على الفلسطينيين الاعتراف بالدولة اليهودية… ثانياً، يجب أن تحتفظ إسرائيل في أي اتفاق سلام بسيطرة أمنية مُهيمنة على المنطقة كلها إلى الغرب من نهر الأردن”.
وهكذا يبدو نتنياهو، على العكس من ترامب، مدركاً تماماً لحقيقة أن الفلسطينيين قد اعترفوا مسبقاً بـ”دولة إسرائيل”. لكن نتنياهو، مثل ترامب، يكذب بلا خجل. ومثل ترامب، الذي انقلب بشراسة على أوباما بعد أن أكسبه الرئيس المنتهية ولايته اعتباراً غير مستحق مطلقاً، فإن نتنياهو هو شخص عاق تماماً. إنه لم يعترف أبداً بأن الفلسطينيين اعترفوا بشرعية إسرائيل، وليس فقط في داخل الحدود التي خصصتها لها خطة تقسيم الأمم المتحدة في العام 1947، وإنما أيضاً فيما يتضمن أراضي مخصصة للفلسطينيين حسب تلك الخطة، والتي صادرتها إسرائيل بعد “حرب الاستقلال” في العام 1948، في تجاهل تام للقرار 242 الذي يحظر حيازة الأرض نتيجة للحرب.
لم يكن شخصاً معادياً لإسرائيل، وإنما رئيس وزرائها ورئيسها السابق، شمعون بيريز، هو الذي أشار في مقابلة مع صحيفة “يدعوت أحرنوت” إلى أنه “قبل أوسلو، كانت مساحة الدولة الفلسطينية ستحدد وفق خريطة 1947، خريطة الأمم المتحدة. وفي أوسلو، انتقل عرفات من خريطة 1947 إلى خريطة 1967. تنازل عن 22 في المائة. ولا أعرف أي زعيم عربي يمكن أن يعطي 2 أو 3 في المائة”. وقد أخطأ بيريز في الحقيقة. فعرفات لم يتخل عن 22 في المائة من الضفة الغربية، وإنما عن 22 في المائة من فلسطين، وهو ما يعادل في مجموعه 50 في المائة من أراضي فلسطين التي اعترفت بها خطة تقسيم الأمم المتحدة باعتبارها ملكاً شرعياً للشعب الفلسطيني. وربما كان بيريز ليضيف أيضاً أنه لم يعرف أي زعيم إسرائيلي، بمن في ذلك هو نفسه، والذي يمكن أن يتخلى عن أي جزء من أراضي بلده. لكنهم القادة الفلسطينيون هم الذين تتهمهم إسرائيل برفض تقديم أي تنازلات من أجل السلام، وهي كذبة تكررها الإدارات الأميركية باستمرار لتلمح إلى تكافؤ معدوم في الحقيقة بين المقاومة الإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية لاتفاق على حل الدولتين.
حتى قبل اجتماعه الأخير مع ترامب، كان نتنياهو قد أعلن نيته التعامل مع 60 في المائة من الضفة الغربية -المنطقة التي صنفها أتفاق أوسلو باسم “المنطقة ج”، والتي يفترض أن تكون إسرائيل قد انسحبت منها في العام 1998- باعتبارها جزءاً دائماً من إسرائيل. وهكذا، سوف يُترك الفلسطينيون مع 10 في المائة فقط من فلسطين ما قبل التقسيم. ولكن، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، وصهره الداعم للاستيطان إلى جواره، فقد بدا حتى هذا الجزء المنكمش لنتنياهو مساحة سخية جداً لسكن الفلسطينيين. ولذلك أعلن في البيت الأبيض أن شرطه الثاني لإبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين هو أن يوافقوا على احتفاظ إسرائيل بسيطرتها العسكرية على كامل الضفة الغربية. وبعبارات صريحة، كان ما اقترحه نتنياهو هو أن يُحشر الفلسطينيون بشكل دائم في جبوب في 10 في المائة من فلسطين، تحت سيطرة جيش الدفاع الإسرائيلي. لكنهم أحرار في تسمية ذلك الترتيب دولة فلسطينية.
حسب تفكير ترامب، يحتمل كثيراً أن يكون قد قصد إلغاء التزام الولايات المتحدة بحل الدولتين، على الرغم من أن سفيرة بلده إلى الأمم المتحدة، نيكي هالي، أعلنت بشكل قاطع أنها لم تكن هناك مثل هذه النية. وعندما قال ترامب إنه سيكون سعيداً باتفاق على دولة واحدة مثل حل دولتين، فإنها ربما قصد أنه ينظر إلى حل الدولة الواحدة ليس على أنه واحد من عدة خيارات، وإنما كترتيب افتراضي بحكم الأمر الواقع إذا ما فشل حل الدولة الواحدة. ولا يتطلب هذا الوضع الافتراضي حل الكثير من قضايا الوضع النهائي –المستوطنات، والحدود، والترتيبات الأمنية، وتوزيع المصادر الطبيعية، والقدس… إلخ- والتي كانت تسمم المحادثات على اتفاق الدولتين. لكنه يتطلب فعلاً أن يتلقى الفلسطينيون في داخل “إسرائيل الكبرى” الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطنون الإسرائيليون الآن. ولا يتطلب ذلك خلق واقع جديد، وإنما يؤكد على الوضع القائم، الذي جلبه التصميم الإسرائيلي نفسه.
إذا كان هذا هو ما قصد ترامب قوله، فقد افترض ما كنتُ اعتقد منذ وقت طويل أنه الطريق الوحيد الممكن لاستعادة حل الدولتين. ودعوني أشرح. إن كل خبير يعتقد، وكل استطلاع تم إجراؤه حول الموضوع، أكد أن الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين لن يوافقوا على اتفاق على دولة واحدة مع الفلسطينيين إذا كان ذلك سيقود إلى فقدان هوية إسرائيل اليهودية. ولو أن الإسرائيليين رأوا أن رفض حكومتهم لحل الدولتين سوف يقود إلى دعم الولايات المتحدة لحل دولة واحدة، والتي تضمن المواطنة المتساوية لفلسطينيي الضفة الغربية الذين يتم حرمانهم من دولة لهم، فإن الإسرائيليين سيختارون حلاً يقوم على مبدأ الدولتين.
إذا بدا مثل هذا التفسير للمضامين المحتملة لملاحظات ترامب غير متساوق مع مد يده لنتنياهو، فإنه لا يتعارض مع طلبه، مهما عبر عنه بلطف، بأن يتوقف نتنياهو لبعض الوقت عن مزيد من النشاط الاستيطاني. كما أنه لا يتعارض مع طلبه اللاحق بأن لا يمضي نتنياهو قُدماً بخططه المعلنة لبناء الآلاف من المنازل الجديدة في “المناطق المحتلة”. وكان نتنياهو قد عرض طلبات مشابهة من أوباما على أنها تحريض معادٍ للسامية.
إذا لم يكن هذا هو ما قصده ترامب، فإنه لا يغير الحقيقة الواقع الصعب القائل إن الطريقة الوحيدة لإحياء حل الدولتين هو تجريد إسرائيل من حق الاحتفاظ بالوضع الراهن. وإذا كان ترامب جاداً بشأن إبرام ما كان قد وصفه بـ”الصفقة النهائية”، فإن هذه هي الطريقة الوحيدة ليتمكن من إبرامها. ومع ذلك، فإن تعيين ديفيد فريدمان سفيراً إلى إسرائيل، وهو مساهم منذ وقت طويل في توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ويميني معتوه كان قد اتهم اليهود الإسرائيليين والأميركيين الداعمين لحل الدولتين بأنهم “أسوأ من المتعاونين مع الألمان ضد أبناء دينهم”، والذي يدعم بالكاد فكرة أن ترامب يمكن أن يعارض نتنياهو. وقد كتب مارك لاندلر في صحيفة “نيويورك تايمز” أن توقيت مكالمة ترامب الهاتفية الأخيرة مع نتنياهو بينما يواجه الأخير تحقيق الشرطة الإسرائيلية في قضية رشوة واحتيال كان مختاراً بعناية ليعمل كتذكير للمدعي العام الإسرائيلي بأن اتهام نتنياهو “يمكن أن يضر بأمن إسرائيل القومي في وقت خطير”. ويقترح لاندلر بشكل معقول أن مكاملة ترامب “في الوقت المناسب” كانت رداً بالمثل على ثناء نتنياهو “في الوقت المناسب” على موقف ترامب الذي جاء متأخراً ضد مناهضة السامية، للمساعدة على إعفاء ترامب من عبء اتهامه بأنه بدا غير مبالٍ (في أفضل الأحوال) بشأن تصعيد العنف المعادي للسامية خلال حملته الرئاسية وفي أعقاب تنصيبه. ولا يؤيد هذا بالتأكيد فكرة أن ترامب أراد أن يخبر نتنياهو في مؤتمرهما الصحفي المشترك بأنه إذا لم يعمل على التوصل إلى حل دولتين مع الفلسطينيين، فإن البديل ليس هو الاحتفاظ بالوضع الراهن، وإنما منح الفلسطينيين مواطنة متساوية في الدولة الواحدة بحكم الأمر الواقع التي هندسها نتنياهو بنجاح.
في حين تسبب سلوك مبعوث ترامب، جيسون غرينبلات، في إسرائيل بخوف العديد من القادة الإسرائيليين من أن افتراضاتهم عن تخلي ترامب عن حول الدولتين ربما تكون بلا أساس، فإن الإسرائيليين ما يزالون يعتقدون بأنه حتى لو لم يكن نتنياهو مطلق العنان تماماً، فإنه سيواصل خداع الأميركيين وإغواءهم إلى الاعتقاد بأنه يبقى ملتزماً بحل الدولتين. ولم يبخل أوباما وأسلافه في التعبير عن قلقهم من العواقب التي لا يمكن تجنبها للمشروع الإسرائيلي الاستيطاني على مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية والهوية اليهودية، لكن مثل هذه التصريحات كانت تصدر دائماً في سياق تأكيدات وتطمينات حول عدم قابلية العلاقات التي تربط أميركا بإسرائيل للفصم. وكانت تلك التطمينات نتيجة لدبلوماسية أميركية ارتكزت على التظاهر بأن قادة الولايات المتحدة يصدقون كذبة نتنياهو بأنه يسعى إلى حل دولتين، وهو تظاهر شعرت الإدارات الأميركية المتعاقبة بأنها ملزمة بتقاسمه بسبب خوفها من “آيباك”، لوبي إسرائيل في الولايات المتحدة. وكما لاحظ كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، روجر كوهين، فإن ورقة التين التي وفرتها عملية سلام حمت الوعد الزائف بتحقيق اتفاق دولتين، حتى بينما كانت المستوطنات الإسرائيلية تدمره بكل وضوح، هي التي سمحت للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بـ”فعل أسوأ ما لديها”.
كانت إحدى المفارقات في انتصار ترامب الانتخابي بالقدر الذي يخص الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هي أنه رئيس أميركي ليس عليه أن يستجيب لرغبات “آيباك”. ولا يدين ترامب بالكثير لليهود الأميركيين في انتصاره الانتخابي. وفي الحقيقة، يواصل اليهود الأميركيون لعب دور بارز في المقاومة المناهضة لترامب، والذي يمكن الشعور به في كل أنحاء البلاد. ويكفي نتنياهو عاراً أنه نهض للدفاع عن رئيس أميركي أكبر استراتيجييه رجل يروج لعقيدة التفوق الأبيض التي تردد صدى فكرة العرق الآري المتفوق، وهي الأيديولوجية التي أنتجت الهولوكوست، الذي يستحضره نتياهو بطريقة خادمة للذات.
إذا لم يأت الضغط الكافي على إسرائيل لتنهي الاحتلال وتقبل بحل دولتين من الولايات المتحدة، فإنه يمكن أن يأتي فقط من الفلسطينيين أنفسهم، عندما يتصرفون أخيراً وفقاً للحقيقة المرة القائلة إن السلطة الفلسطينية، مع كل الأشياء الجيدة التي ربما تكون قد فعلتها، تحولت على يد المحتلين وبسبب إخفاقات قيادتها الخاصة من أداة يفترض أن تجلب الدولة، إلى أداة للإخضاع الدائم. وسيكون فقط عندما يغلق الفلسطينيون ملف السلطة الفلسطينية ويتحولون إلى تبني نهج للنضال اللاعنفي من أجل حقوقهم، حين سيعود خيار الدولتين إلى الظهور. وإذا لم يعاود الظهور، فسوف يتحول نظام الفصل العنصري القائم الآن بحكم الأمر الواقع في “إسرائيل الكبرى” إلى دولة ثنائية القومية، لأنه لا يمكن إخفاء أي نظام فصل عنصري تحت غطاء “الاحتلال المؤقت”، الذي دام مسبقاً لأكثر من نصف قرن. وسوف يكون أي نضال ضد الفصل العنصري بلا شك طويلاً ومؤلماً، كما كان حاله في جنوب أفريقيا، لكنه ليس أكثر طولاً ولا إيلاماً مما سيكون عليه الحال إذا سادت واستمرت حالة نتنياهو الراهنة. ولعل الدرس المستفاد من “ترحيل” إسرائيل للفلسطينيين إلى خارج “المنطقة ج” هو أن نظام فصل عنصري بحكم الأمر الواقع بدون أن ينازعه شيء سينتهي فقط بفلسطينيي الضفة الغربية إلى أن يجدوا أنفسهم بجانب الملايين الكثيرة من اللاجئين الفلسطينيين خارج، وليس داخل، حدود فلسطين (أي “إسرائيل الكبرى”).
ربما تكون أكبر المفارقات التي تميز هذا الصراع هو أنه ليس إقامة الدولة الفلسطينية فقط، وإنما وجود إسرائيل نفسه أيضاً ربما سيعتمدان على ما إذا كان الشعب الفلسطيني سيجدد نضاله من أجل حقه في تقرير مصيره الخاص.
هنري سيغمان
صحيفة الغد