الآراء تتعدد حول الدوافع التي جعلت الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقلب التوجه الذي اعتمدته الولايات المتحدة منذ اندلاع الأزمة السورية رأساً على عقب. فبعدما كان الرئيس السابق باراك أوباما التزم خطاباً مبدئياً داعياً إلى رحيل رأس الحكم في دمشق، من دون أن يُقدم على أية خطوة جدية لينسجم الفعل مع القول، بل بعد رسم أوباما خطاً أحمر، يتمثل بالتعهد بالتدخل والرد في حال أقدم النظام على استعمال السلاح الكيماوي، ليتخلف عن الوفاء بتعهده في الساعة الموعودة، بدا وكأن السياسة الأميركية بشأن سورية رست على الابتعاد عن أي دور حاسم.
ترك ذلك المجال لروسيا لتتدخل، بعد أن فشلت إيران التي زجت بأوراق عدة لتمكين النظام من تحقيق النصر من دون جدوى. وإذ تمكنت روسيا من تبديل موازين القوى لمصلحة النظام، فإن الحسم العسكري بقي مستعصياً.
لكن فوز ترامب في الانتخابات الأميركية كان واعداً بالنسبة الى روسيا وإيران والنظام في دمشق، إذ إن ترامب، الذي ظهر متفقاً مع منطق رفع اليد عن القضية السورية الذي اعتمده أوباما، تخطى سلفه في التنصل من أي مسؤولية أخلاقية أو معنوية تجاه السوريين، بل أصدر مرسوماً بمنعهم من اللجوء إلى الولايات المتحدة. وقبل أيام قليلة من الضربة، كان وزير الخارجية الأميركي، كما السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، يشيران إلى استعداد للتعايش مع بقاء النظام.
فما الذي غيّر الأحوال، لتنهمر الصورايخ الأميركية على قاعدة جوية للنظام، وليصبح حديث حكومة ترامب اقتراب زوال حكم النظام القائم في دمشق؟
الواقع أن التفسيرات ذات المضمون لا تستقيم. فالحديث عن مسعى أميركي للإمساك بزمام الأمر في الشأن السوري يتطلب أن تكون ثمة رؤية أميركية للحل، وهذا غير متحقق. والكلام عن ضغط متعمد على روسيا يبدو خارج السياق، إذ لم يسبقه التواصل بين وزيري الخارجية لتكون الضربة تهديداً قائماً في حال لم تثمر المحادثات عن توافق. والضربة لا تزيد من فرص تطويق تنظيم الدولة ولا تمنح القوات التي تدعمها واشنطن حظوظاً جديدة. وإذ رحّب البعض بالضربة، فإنها كانت يتيمة وليس من دليل أنها الأولى من سلسلة كي يرى فيها من رحّب دعماً مستديماً في مواجهة النظام. وفي واشنطن نفسها، لا سيما في أروقة السلطة التشريعية، التساؤلات تتعدد، على رغم التأييد الواسع النطاق للضربة، حول مشروعيتها، أي أن هذه الخطوة تعكّر العلاقة التي يحتاجها ترامب من دون شوائب مع الكونغرس، بعد فشله في إنجاز أهم وعوده الانتخابية، أي قانون الرعاية الصحية.
فلتبيّن الحافز المباشر لخطوة ترامب التصعيدية، لا بد من مراجعة سجلّه القريب. ترامب، في أكثر من مناسبة يشاهد البرامج التلفزيونية وينطق بالتعليقات المستعارة منها جملة وتفصيلاً بغضّ النظر عن صحّتها. وفي اليوم السابق لقراره القيام بالضربة، كانت التغطية لضحايا الهجوم الكيماوي مروّعة، إذ أظهرت جثث أطفال مصفوفة في أعقاب الاعتداء. والتسريبات الصادرة من البيت الأبيض تشير إلى أن ترامب، وكذلك ابنته إيفانكا والتي يثق برأيها أكثر من أي مستشار آخر، قد تأثرا جداً بهذه المشاهد، فقرر الرئيس الإقدام حينها. قد يعجز البعض عن إقناع نفسه بقبول واقع أن هذه الرئاسة الأميركية مختلفة، وإن هذا الرئيس يتصرف بوحي من اعتبارات ذاتية وانفعالات ومشاعر، وليس بناءً على اطلاع ومنطق، غير أن كل الشواهد على مدى الأشهر الطويلة الماضية تشير تحديداً إلى ذلك.
أليس لدى هذا الرئيس مستشارون ومؤسسات يرعون مصالح الولايات المتحدة بما يمنعه من الارتجال؟ الجواب نعم ولا، المؤسسات التنفيذية في الولايات المتحدة راسخة وقادرة، ولكنها خاضعة للرئيس، إذ هي مؤسسات داعمة له وحسب. بالتأكيد، في هذه المؤسسات من يستغرب فوز ترامب ويستهجن أفعاله، ومن هنا يأتي التسريب وبعض المضايقات. إلا أن القول الفصل هو للرئيس، وليس لدولة عميقة مزعومة. ترامب أمر بالضربة ارتجالياً. هذا ما هو أقرب إلى الواقع، ومع الضربة تبدّلت الأمور على أكثر من مستوى.
في الشأن السوري، بعد أن كانت روسيا ممسكة بالملف وناشطة بدفعه في اتجاه تنفيس الثورة، على رغم الضعف الميداني للنظام، فإن الضربة، بغضّ النظر عن دوافعها، هي إعلان بأن الساحة لم تعد خالية لروسيا، بل لا بد من اعتبار الولايات المتحدة في أي تصور للمرحلة المقبلة. أي أن تصور الحسم العسكري تراجع، وعلى روسيا إيجاد الصيغة التي ترضى بها الولايات المتحدة.
في شأن العلاقات مع روسيا في ما يتعدى الملف السوري، أثبتت الضربة أن الاحتفال الروسي بفوز ترامب كان سابقاً لأوانه، وأن ترامب سواءً صحت استفادته من السعي الروسي إلى التأثير على الانتخابات في الولايات المتحدة أم لا، ليس عنصراً مضموناً لموسكو، بل هو عامل مستقل قد يتعارض مع مصالحها.
على مستوى العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وحلف شمالي الأطلسي والشركاء في منطقة الشرق الأوسط، تشكّل الضربة عودة مفاجئة وإن مشكورة للولايات المتحدة إلى موقف ينسجم مع مواقف الحلفاء، ولكن يبقى التساؤل عن مدى ديمومة هذا الموقف.
بالنسبة الى الخصوم والأعداء، ما قام به ترامب هو مدعاة قلق جدي، فالذي ضرب سورية قد يضرب إيران وقد يغامر في كوريا الشمالية، أو قد يرسل أسطولاً إلى بحر الصين الجنوبي كما أرسله إلى ضفاف كوريا الشمالية، وبعد أن كان هذا الرئيس قد تمرّس بالخطابيات الاستفزازية، إذاً هو اليوم يبدو قادراً على ألا يكتفي بالخطاب.
أي أن ترامب فاجأ، وأربك، وعطّل. وعليه فإن ثمة من يرفض القول بالارتجال ويرى في عمله هذا تفكيراً بعيد المدى وُضع موضع التنفيذ ليمسك بزمام الأمور. والحقيقة أنه لا فارق: فالولايات المتحدة، بحكم قوتها ونفوذها ووطأة تأثيرها قادرة على أن ترتكب الهفوات وأن تغامر، وإن هي اضطرت أن تدفع بعض الثمن لذلك، فإن أثماناً مضاعفة هي من نصيب غيرها، ما يدفع الجميع إلى الحيطة. أي أنه يمكن ترامب أن يرتجل، ولكن لفعله تداعيات لا بد لبقية العالم أن يتعاطى معها بجدية الخطوة التي تأتي بعد طول حساب.
حسن منينمة
صحيفة الحياة اللندنية