أولاً، بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون مباشرة، قال المتحدّث باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، إنه “وفقا لوسائل الرصد الجوية الروسية، قصفت القوات الجوية السورية في الساعة 11.30 و12 ظهراً بالتوقيت المحلي أمس، مستودعًا ضخمًا للذخيرة تابعًا للإرهابيين في الأطراف الشرقية لبلدة خان شيخون في ريف إدلب، وكان المستودع يحوي ذخيرة ومعدات، فضلاً عن العثور على مصنع محلي لإنتاج قنابل محشوة بمواد سامة”. وأضاف أن “المستودع احتوى على ذخائر أسلحة كيميائية تم نقلها إلى البلاد من العراق”. وفي نهاية بيانه، أكد أن “المعلومات الواردة أعلاه موضوعية تمامًا وموثوق بها”. وهي رواية صادق النظام السوري عليها على لسان وزير خارجيته، وليد المعلم.
وفي الثاني عشر من إبريل/ نيسان الجاري، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حديث
لقناة مير الروسية: “هنالك فرضيات عديدة بخصوص الكيميائي في خان شيخون، منها ما يرجّح أن تكون مسرحية أو أن الطيران السوري قصف ورشة لصناعة المواد السامة”. أي أن “المعلومات الموضوعية تمامًا وموثوق بها”، بحسب وزارة الدفاع الروسية، قبل الضربة الأميركية أضحت فرضية من بين فرضيات، بحسب الرئيس الروسي بعد الضربة.
ثانيًا، تعدّد الروايات حول عدم اعتراض أنظمة الدفاع الجوي الروسي صواريخ توماهوك الأميركية. في البدء نقلت وسائل إعلام روسية عن محللين روس أن روسيا لم ترغب في اعتراض الصواريخ الأميركية تجنبًا لتطور الأمور نحو حرب مع الولايات المتحدة، بعد ذلك قالوا إن “توماهوك” عبرت الأجواء اللبنانية، ولا تستطيع الدفاعات الروسية التصدّي للصواريخ الأميركية فوق لبنان، لعدم وجود اتفاق مع هذا البلد، يسمح للروس بالعمل في أجوائه، وكأن حالات الدفاع القاهرة تتطلب تفاهمًا واتفاقيات دولية، ثم أين كانت حساسية الروس نحو السيادة الوطنية للبنان، عندما أغلقوا معظم مجاله الجوي ثلاثة أيام، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بحجة قيامهم بمناورات عسكرية في البحر المتوسط؟
ثالثًا، بعد قصف مطار الشعيرات، نشرت وسائل إعلام النظام وإيران وحزب الله بياناً لما سمتها “غرفة العمليات المشتركة لروسيا وإيران والقوات الرديفة”، تتوعد فيه بالرد على أي عدوان أميركي جديد (كأن الوجود العسكري الأميركي على الأرض في شمال شرق سورية ليس عدواناً)، لم ينف الروس البيان، لكنهم ردّوا عليه وكذّبوه ضمنياً بتصريح لرئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيروف، قال فيه إن “قواتنا المسلحة منتشرة في سورية من أجل محاربة الإرهاب، وليس لحماية سورية من التهديدات الخارجية، وليست لدينا مثل هذه المهمة. ولذا لن نقوم باعتراض شيء”.
ماذا بعد الارتباك الروسي؟
جاءت الهجمة الصاروخية الأميركية إعلاناً عن مرحلة جديدة، تتدخل فيها الولايات المتحدة مباشرة في الصراع المركزي على من يحكم سورية، وليس فقط في الصراع الهامشي ضد “داعش”، والذي يُتَّخذ ذريعة من كل الأطراف لإدامة الأزمة ومد وتأمين مناطق نفوذها داخل البلد المنكوب.
ويبدو أن الضربة الأميركية حققت هدفها الأساسي غير المعلن، وهو تحجيم الروس، وإفهامهم أن الوقت يمر، وهو ليس في صالحهم، وعليهم التجاوب مع المبادئ الغربية للحل.
وفي هذا السياق، حملت الضربة الأميركية تهديدًا ضمنيًا للوجود العسكري الروسي نفسه في سورية، لم يكن بالضربة الصاروخية بحد ذاتها، بل بعدد الصواريخ الكبير الذي تم إطلاقه. 59 صاروخًا في موجة واحدة كافية لإرباك أي نظام دفاع جوي، مهما كان مستوى تطوره، وجاء إطلاق هذا العدد الكبير استعراضًا للقوة النارية الهائلة للولايات المتحدة في الإقليم،
وتذكيرًا للروس بها. يكفي أن نعلم أن القطعة الحربية الأهم في مجموعات السفن الحربية الروسية المرابطة قبالة سواحل روسيا في البحر المتوسط، الفرقاطة الأميرال غريغوروفيتش، تمتلك ثماني حاويات فقط لصواريخ كروز الروسية كاليبر، بينما الرشقة الصاروخية الأميركية جاءت من مدمرة أميركية واحدة هي “يو إس إس بورتر”، وهي واحدة من بين 32 قطعة حربية بحرية ضمن الأسطول السادس الأميركي المرابط في المتوسط بشكل دائم، والذي يشتمل على حاملتي طائرات و175 طائرة، ناهيك عن قدرات باقي دول حلف الأطلسي المتوسطية.
الآن، وفي ظل هذا الواقع المتغير، يبدو أن الروس في مأزق، عبّرت عنه حالة الإرباك في التعاطي مع القصف الأميركي، والمخرج منه بتقديمهم تنازلاتٍ قد يكون منها القبول بحل وفق الشروط الغربية، وهو أمر خطير، فعلى الرغم من كل الرفض والإدانة للتدخل الروسي في سورية، إلا أنه يجب الاعتراف بأنهم الطرف الوحيد الذي ظل ينادي بحل سياسي، يضمن وحدة سورية وسيادة الدولة المركزية الكاملة. أما الغرب وحلفاؤه الإقليميون فقد أعطوا إشاراتٍ كثيرة حول قبول مبدأ الفدرلة، أو المحاصَصَة الطائفية، في نظام الحكم بعد الحل وحتى التقسيم، وقدّم حلفاء النظام الإقليميون مثل تلك الإشارات بدورهم، ويمكن مراجعة تصريحين لنائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، عن إمكانية التقسيم، الثاني نهاية مارس/ آذار الماضي، والأول في أغسطس/ آب 2016.
من هنا، وبشيء من الاستطراد خارج عنوان هذا المقال، مِن المُلِح التأكيد على أن تهليل بعض السوريين والعرب للتدخل الأميركي العسكري ساذج وأرعن، ويدل على ضعف قدرات التعلم لدى هؤلاء. هذا إن افترضنا حسن النيات. الأميركان لا تعنيهم بشيء مصالح الشعب السوري بدولة ديمقراطية موحدة سيدة، فمصالحهم في سورية، وفي مقدمتها ضمان أمن إسرائيل الدائم، تتعارض مع هذا. على من ينتظر الخلاص في احتلال أميركي لسورية أن يشيح بعينه شرقًا نحو العراق، ليرى أين أوصل التدخل العسكري الأميركي هذا البلد العربي. إن حاضر العراق اليوم هو مستقبل سورية إن غزتها القوات الأميركية، وربما أسوأ بمراحل.