أهم التعديلات المقترحة
تعيد التعديلات الدستورية المطروحة لـ 18 مادة دستوريّة هيكلة صلاحيات السلطات الثلاث، وتنقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو نظام قائم في الديمقراطيات، بحيث يحصل رئيس الجمهورية على صلاحياتٍ تنفيذيةٍ واسعةٍ، تجعل منه صاحب القرار في جهاز الدولة، وخصوصًا بعد إلغاء منصب رئيس الحكومة. وبتحول النظام إلى نظام رئاسي، يصبح من حق الرئيس تعيين نوابه والوزراء، وكذلك كبار الموظفين البيروقراطيين. كذلك تمنح التعديلات الدستورية الرئيس حقَّ إقالتهم، كما توسعت صلاحيات الرئيس التشريعية بمنحه الحق في إصدار مراسيم تشريعية، لا تمس الحقوق والحريات الأساسية، وإن جعلها الدستور الجديد لاغيةً في حال إقرار البرلمان قانونًا مخالفًا لهذه المراسيم. كما تسمح التعديلات لكل من
البرلمان (بموافقة ثلاثة أخماس أعضائه) ورئيس الجمهورية بالدعوة إلى انتخابات مبكّرة، على أن تشمل كلًا من رئاسة الجمهورية والبرلمان في آن معًا. وحصل منصب الرئيس بموجب التعديلات أيضًا على حق إعلان حالة الطوارئ وعرض الميزانية العامة على البرلمان.
ومن جهة أخرى، تمنحه التعديلات الجديدة هامشًا أوسع من الحريّة والمرونة والتأثير، وخصوصًا أنها تعطيه حق الاستمرار في علاقته بحزبه؛ الأمر الذي يثير مخاوف المعارضين من تحول الرئيس، في ضوء الاستقطاب السياسي والمجتمعي الذي أبرزته نتائج الاستفتاء، إلى طرف سياسيّ حزبي في البلاد. وإضافةً إلى ذلك، ارتفع عدد المقاعد في البرلمان التركي من 550 مقعدًا إلى 600، وخُفِّض سن الترشح للبرلمان من 25 عامًا إلى 18 عامًا، ويحق لكل حزب أو مجموعة أحزاب حصلت على الأقل على نسبة 5% من إجمالي الأصوات في آخر انتخابات أن تتقدم بمرشحها للرئاسة، على أن تحصل على توقيعات 100 ألف ناخب على الأقل.
دلالات الأرقام
مثّل حجم المشاركة الشعبيّة الكبيرة مفاجأة؛ إذ وصلت نسبتها داخل تركيا إلى 85% من إجمالي 55.3 مليون ناخب، يحق لهم المشاركة في الاقتراع؛ الأمر الذي عكس الاهتمام الشعبي مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية السابقة. وكان رفض المدن الكبيرة (إسطنبول وأنقرة وإزمير) التعديلات الدستوريّة أشدّ ما يلفت الانتباه إلى التحولات في اتجاهات الرأي العام. فعدا عن الثقل المعنوي والمادي لخسارة إسطنبول، رفضت ست ولايات كبرى النظام الرئاسي، وهي التي صوّتت بأغلبية ساحقة لمصلحة الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات عام 2014. وفي سياقٍ موازٍ، استطاعت القوى الحزبية والسياسية المعارضة للتعديلات الدستورية (في مقدمتها حزب الشعب الجمهوريّ) تحقيق مكاسب انتخابية، بعد أن خسرت الجبهة المؤيدة للتعديلات الدستورية (حزبا العدالة والتنمية والحركة القوميّة) ما يقارب عشر نقاط من كتلتها الانتخابية، مقارنة بأصواتها في الانتخابات البرلمانية الماضية (في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، متراجعة من 61.4 % إلى 51.4 %، وهو مؤشر ذو دلالة كبيرة في ظل الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة التي عاشتها تركيا منذ الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو/ تموز 2016، وما نجم عنها من إعلان لحالة الطوارئ، وحملات اعتقالات، نالت من تصفهم الحكومة بـ “المنتمين إلى جماعة فتح الله غولن” المتهمة بالتخطيط للانقلاب. وفي المقابل، نجح حزب العدالة والتنمية في رفع أصواته في الولايات ذات الأغلبية الكردية جنوب تركيا وشرقها، مقارنةً بالانتخابات الماضية، على الرغم من رفضها التعديلات الدستوريّة؛ ما يؤشر إلى تراجع شعبية حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، القريب من حزب العمال الكردستاني. وهو مؤشرٌ على موقفٍ سلبي من سياسة المواجهة التي تبناها هذا الحزب منذ الأزمة في سورية. فمن الواضح أن غالبية الكرد تؤيد التسوية السياسية في تركيا.
قراءة في النتائج
فاجأت النتائج المتقاربة، وخصوصا في المدن الكبرى، حزب العدالة والتنمية الذي حاول
الحصول على تأييد 60% من إجمالي المصوّتين، للإسراع بإنفاذ التعديلات. ويعزى تراجع نسبة التأييد إلى جملةٍ من العوامل، من أهمها:
سلبية الدعاية الانتخابيّة: فقد ركز الحزب الحاكم والرئيس أردوغان، في خطاباتهم الدعائية، على ما أسموها “المؤامرة الداخلية والخارجيّة”، عوضًا عن إبراز التعديلات الدستوريّة ومزاياها وفائدتها في حل مشكلات تركيا وأزماتها الداخليّة التي تزداد صعوبةً وتعقيدًا، بسبب الوضع الإقليمي المتفجر، وحالة عدم الاستقرار التي رافقت المحاولة الانقلابية وأعقبتها، صيف العام الماضي. وفي السياق نفسه، ربط الرئيس أردوغان، في مهرجاناته وحملاته الانتخابية، بين التعديلات الدستوريّة ومسألة الرد على من وصفهم بـ “المتآمرين والإرهابيين” لغايات التحشيد والتعبئة الشعبيّة، وهو ما أقلق الناخب التركي الذي لم يقتنع، كما يبدو، بهذه الثنائية.
عمق التغييرات المطروحة: تجاهل حزب العدالة والتنمية حساسية النخب التركية وشرائح شعبية واسعة، تجاه عمق التغييرات التي تحدثها التعديلات المطروحة في بنية الدولة وسماتها والنظام السياسي وعلاقته بالمجتمع؛ إذ بينت نتائج الاستفتاء قلقًا من تراجع النظام العلماني لمصلحة نظام رئاسي، يقوده رئيسٌ من حزب محافظ، يسعى إلى تحجيم دور البرلمان ونفوذه، والقطيعة مع عهد الجمهورية التركية الأولى، والانتقال إلى “الجمهورية الثانية”. لا يخلو هذا كله من إشاراتٍ إلى ميول ونزعات شخصية وسلطوية عند أردوغان في نظر معارضيه. وقد فاقمت النبرة التصعيدية لأردوغان ضد أحزاب المعارضة وقياداتها، واتهامها بضرب وحدة البلاد وتوفير الغطاء السياسيّ للمتآمرين على تركيا؛ الخوفَ من هذه النزعات.
تجاهل التيار الصامت: أدّى التقليل من أهمية الأصوات المعارضة أو ما يوصف بـ “التيار الصامت” داخل حزب العدالة والتنمية، والذي تعبر عنه شخصيات قيادية، بينها الرئيس التركي السابق عبد الله غول، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينج؛ إلى توجيه رسائل معاكسة إلى جمهور الحزب وأنصاره، وقد تبدى هذا في تصويت ما بين 2 – 3% من قاعدة “العدالة والتنمية” ضد التعديلات الدستورية.
موقف الكرد والقوميين الأتراك: دفع حزب العدالة والتنمية، فيما يبدو، ثمن تصريحات شكري قرباتاه، أحد المستشارين القانونيين لأردوغان، وصاحب الدور الأبرز في صناعة مشروع النظام الرئاسي قبل أيام من الاستفتاء، عن ضرورة تعديل نظام الحكم الإداري لتمهيد الطريق أمام طرح نظام الولايات (النموذج الصيني). ومع أن هذه التصريحات كان لها أثرها في زيادة أصوات الكرد المؤيدين للتعديلات؛ قد أثارت غضب القوميين الأتراك، ودفعت أكثرهم إلى معارضة التعديلات، على الرغم من تأييد قيادة حزب الحركة القومية لها.
الفشل في استقطاب الشباب: على الرغم من أن التعديلات الدستورية تخفض سن الترشح من 25 إلى 18 عامًا، فإن حزب العدالة والتنمية لم يحقق إلا نجاحاتٍ محدودة في كسب أصوات فئات شابة جديدة تلتحق للمرة الأولى بالعملية الانتخابية، ويصل عددها إلى ما يقارب مليونَيْ مقترع.
استنتاجات أولية
على الرغم من تحقيق الرئيس أردوغان هدفه في تعديل الدستور، وإقامة نظام رئاسي يعطيه
صلاحيات تنفيذية وإجرائية واسعة، فإن الفارق الضئيل بين نسب التأييد والرفض يعد مؤشرًا على انقسام اجتماعي، سيبقى قائمًا حتى عام 2019؛ موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، حيث يبدأ العمل بالنظام الرئاسي والتعديلات الجديدة. وكما هو معروف؛ تمثل الكتلة الانتخابية لأحزاب المعارضة 35% من إجماليّ الشعب التركي؛ حزب الشعب الجمهوري (25%) وحزب الشعوب الديمقراطي (10%)، لكنها استطاعت، في هذا الاستحقاق، حشد 48% من إجمالي عدد الأصوات، وهو ما يضع الحزب الحاكم وحليفه، حزب الحركة القوميّة، أمام واقع جديد، قد يؤدي إلى انزياحٍ في خيارات الناخبين وتفضيلاتهم، في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وبناء عليه؛ من الخطأ تلقّي حزب العدالة والتنمية نتائج الانتخابات على أنها دعم شعبي تمكّنه من إنفاذ التغيرات التي يريدها في الدولة والمجتمع على نحو منفرد، من دون تحقيق حدٍّ أدنى من الإجماع الشعبي أو التنسيق مع قوى المعارضة، ولا سيما التي عارضت الانقلاب العسكري مبدئيًا، ووقفت مع الحزب في مواجهته. تلك القوى المعارضة حصلت مع الاستفتاء على دعم شعبي قد يدفعها إلى تجاوز مسألة الاعتراض على تغيير شكل نظام الحكم إلى موجات احتجاج شعبية، ترفض قرارات الحكومة وأساليبها في الإدارة، مذكرةً بأحداث “غازي بارك” التي وقعت عام 2013، مستفيدة من النهج الصدامي للرئيس أردوغان وإعلاناته المتكرّرة عن عزمه إجراء استفتاءات حول قضايا إشكالية أخرى؛ مثل إعادة حكم الإعدام، وسحب طلب الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربي، وكذلك المواقف الغربية والأوروبية التي لم تعد تحصر نقدها للحكومة التركية بالتعديلات الدستورية بمبرّر “التعارض مع التزاماتها بالمعايير الأوروبية”، بل راحت تنتقد سير عملية الاقتراع، وتصفها بأنها كانت بعيدةً من المعايير الدوليّة، كما جاء في تقرير بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
خاتمة
يُعَدُّ الاستفتاء في التعديلات الدستوريّة حدثًا مصيريًا يتجاوز مسألة تحديد شكل النظام السياسي، رئاسيًا كان أم برلمانيًا، فكلاهما ممكن في الديمقراطيات. فالانقسام الذي أظهرته النتائج يبين أبعادًا أخرى، متعلقة بهويّة الدولة التركيّة، وطبيعة العلاقة بين قواها السياسية والاجتماعية، فضلاً عن تحالفاتها وعلاقاتها الخارجيّة. لذلك، ستغدو مُهِمَّةً مراقبةُ سياسات أردوغان والحكومة التركية خلال الفترة المقبلة، والطريقة التي ستردّ بها قوى المجتمع، بما فيها أحزاب المعارضة أيضًا، في ضوء الاستقطاب الشديد داخل المجتمع، والذي كشفت عنه، بجلاء، نتائج الاستفتاء.