باريس – في نوفمبر الماضي فوجئ الفرنسيون بصعود نجم فرنسوا فيون كمرشح لحزب الجمهوريين الديغولي. نجح الرجل في الانتخابات التمهيدية لحزبه مطيحا برئيس الجمهورية الأسبق نيكولا ساركوزي وبرئيس الحكومة الأسبق آلان جوبيه. وفي لحظة إعلان فوز فيون بدا أن الحملة الانتخابية للرئاسة الفرنسية قد انتهت، فلا حائل يمنعه من ولوج قصر الإليزيه في انتخابات هذه الأيام.
شيء ما غيّر مزاج الأيام ومزاج الفرنسيين ومزاج فيون نفسه. تراجعت حظوظ الرجل وبات موقعه خلفيا، فيما تقدم اسم مرشح اليسار المتطرف جان لوك ميلونشون عليه. لكن المفاجأة كانت ذلك الصعود الصاروخي لإيمانويل ماكرون ليحتل صدارة المشهد إلى جانب مارين لوبن زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف. ومع ذلك فإن المفاجآت لن تنتهي، ذلك أن انتخابات الدورة الأولى لرئاسيات فرنسا التي جرت بالأمس قد تخفي مزاج اللحظة الأخيرة الذي قد يحمل إلى النزال الأخير في 7 مايو المقبل
مرشحين اثنين يتسقان مع استطلاعات الرأي أو يناكفانها، فتلك الاستطلاعات أخطأت في الولايات المتحدة في انتخاب دونالد ترامب رئيسا وأخطأت في بريطانيا حين قرر البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي.
من جال على أقسام الاقتراع أمس لاحظ همة لافتة في المشاركة. ومن تأمل مسار الحملة في الأسابيع الأخيرة لاحظ حيوية هذه الانتخابات وقدرتها على توسيع قاعدة النقاش العام على نحو يتجاوز التسابق التقليدي البليد بين يسار ويمين ووسط يترك على ضفافه تيار التطرف لدى اليمين ولدى اليسار.
بات ذلك التطرّف في قلب الميدان مطيحا بالوسطية صوب الأطراف. أطاح اليساري جان لوك ميلونشون بمرشح الحزب الاشتراكي بنوا آمون. صعد الأول إلى المرتبة الثالثة وراء فيون بنسبة توقّع تصل إلى 19 بالمئة، فيما يتراجع مرشح الحزب الذي أتى بفرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند إلى الرئاسة في العقود الأخيرة إلى موقع هزيل لا تتجاوز نسبة المتوقع له 8 بالمئة فقط.
سقطت الاصطفافات القديمة، تسأل الناخبين هنا والناخبين هناك وتلحظ خارطة الاهتمامات والمشاغل والهواجس التي تحدد الخيارات.
يرى الفرنسيون رئيسهم المقبل وفق نظرته إلى الاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب والتعامل مع قضايا الهجرة واللاجئين وتناول مسائل التعايش مع الإسلام والمسلمين. وإذا صادف أن نسي فرنسي تلك القضايا الوجودية التي لطالما احتلت الهوامش مقابل مركزية قضايا الاقتصاد والنمو والاستثمار والبطالة، فإن العملية الإرهابية التي جرت في جادة الشانزليزيه الشهيرة في قلب باريس قبل ساعات من انتخابات الأمس كانت كفيلة بتصويب الخيارات نحو مداخل تنشغل أولوياتها بالأمن ثم الأمن ثم الأمن.
اشتغل المرشحون كثيرا للإطلالة على الحدث الإرهابي وفق أجندة انتخابية انتهازية تغرف من خزان الغرائز التي تثيرها عمليات الإرهاب والعنف. لوبن وعدت بقطع فرنسا عن العالم وماكرون وعد بدمج فرنسا بالعالم وبين الموقفين تراكمت الوعود المتعجلة لعلها تنجح في جذب المشككين والمترددين والكسالى.
أشياء كثيرة قد تتغير في فرنسا إذا ما انتخبت مارين لوبن رئيسة للجمهورية، المواطنون الفرنسيون من أصول عربية يعتبرونها عدوة تجهر بهذه العداوة الموروثة من نفس الفكر الذي زرعه جان ماري لوبن والد مارين والأب المؤسس للحزب الذي تتزعمه. البلدان العربية أيضا تراقب بانتباه تلك الانتخابات. فلطالما اعتبرت فرنسا صديقة للعرب منذ أن أوقف الجنرال شارل ديغول إرسال السلاح إلى إسرائيل ومنذ تجرأ الاشتراكي فرنسوا ميتران على أن يدشن فتح العواصم الغربية لاستقبال الراحل ياسر عرفات. أجادت فرنسا الوسط يمينا ويسارا تحصين الود مع العرب، وهو أمر لن يحسنه التطرف في النسخة التي تقترحها لوبن.
انتخابات الأمس، وأيا كان الفائز فيها، تمهد السبيل لاستشراف مستقبل أوروبا برمتها. وفق ما سيكشف عنه مزاج الناخبين سيصار إلى تصويب الحملة خلال الأسبوعين المقبلين اللذين يفصلان البلاد عن موعدها النهائي في 7 مايو، فإما أن تقوى أوروبا بانتخاب عاشق لأوروبا وإما أن يتصدع الصرح الأوروبي العريق بانتخاب رئيس يكره أوروبا، فيخرج البلد المؤسس من الاتحاد ليصطف إلى جانب بريكست بريطانيا.
العرب اللندنية