مع اقتراب الحسم العسكري لمعركة الموصل التي بدأت في 17تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، من تنظيم داعش الذي مارس أبشع الجرائم في العراق من قتل للمدنيين وجرائم الإبادة الجماعية بحق شعب أعزل بريء، واستهدف الجميع دون تمييز لدياناتهم ومذاهبهم وأعراقهم، يتزايد الجهد العسكري العراقي الأميركي ضد مواقع ذلك التنظيم في مناطق غرب العراق المحاذية للحدود السورية. ويسيطر داعش على ثلاث مناطق حيوية في غرب الأنبار، هي راوة وعنة والقائم، وتعد معاقله الأخيرة في الصحراء الغربية التي يشترك فيها العراق مع سوريا والأردن. كما يملك التنظيم تأثيرا مباشرا على بعض أجزاء الطريق الدولي، ما يعطل إعادة تشغيل هذا الشريان الحيوي الأهم في تلك المنطقة. ويُنظر إلى قضاء القائم بوصفه البؤرة التي تتجمع فيها عوائل قادة التنظيم، كما أنه أكبر مخازن سلاح داعش في البلاد، بحسب تقديرات استخبارية. ونظرا للمساحة الصحراوية الكبيرة التي تنتشر فيها معاقل داعش الأخيرة في غرب الأنبار، فإن استعادتها من التنظيم تتطلب قوات كبيرة، وغطاء جويا فعالا.
وسيظل التنظيم يحتفظ بجيوب تحت سيطرته في الحويجة والشرقاط بمحافظة صلاح الدين، لكن القوات العراقية رأت عدم أولوية توجيه جهد عسكري إلى هناك لأن استعادة الموصل وغرب الأنبار ستجعل تلك الجيوب في حكم الساقطة بيدها حيث ستكون عناصر داعش محاصرة فيها ومعزولة عن الإمداد بشكل كامل. ومن المتوقع أن تكون منطقة القائم على الحدود السورية، موقع المعركة الأخيرة مع تنظيم داعش على أرض العراق.
فالزيادة الكبيرة في عدد الجنود الأميركيين العاملين في العراق، لم يأت من فراغ. فعمليا، أكمل الجيش الأميركي جميع مستلزمات إنشاء قاعدة عسكرية مؤقتة قرب منطقة الرطبة التي تقع على مسافة نحو 400 كلم غرب مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار، وستشكل هذه القاعدة مركزًا للعمليات التي تستهدف تأمين الطريق الدولي الذي يربط العراق بكل من الأردن وسورية. ويهيمن مقاتو كتائب حزب الله ومنظمة بدر، المواليتين لإيران، على أجزاء واسعة من الطريق الدولي لا سيما العُقد الرئيسية التي تربط العاصمة بغداد بمحافظة الأنبار. كما سيسعى الجيش الأميركي لاحتواء خطة ينفذها الحشد الشعبي، وتستهدف إنشاء معسكرات في ثلاثة مواقع في محيط محافظة الأنبار، من الجهات الشرقية والشمالية الغربيـة والغـربية.
لذا تبدي إدارة الرئيس دونالد ترمب اهتماما شديدا بالمشاركة في معارك غرب الأنبار ضدّ تنظيم داعش لما يحقّقه ذلك لواشنطن من أهداف متعدّدة أوّلها دعائي يضمن لإدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب تسويق صورته كمحارب شديد للإرهاب. فيما تضمن الولايات المتحدة من المشاركة في الحرب بغرب العراق وشرق سوريا موطئ قدم كانت فقدته بتراجع دورها أثناء حكم الإدارة السابقة بقيادة باراك أوباما، في مقابل تقدّم الدورين الإيراني والروسي.والأهم أن المشاركة في المرحلة النهائية من الحرب تضمن لواشنطن لعب دور في ترتيب أوضاع المنطقة ما بعدها، ومن ضمن ذلك إعادة رسم خارطة النفوذ فيها. حيث يهدف الجهد العسكري لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المنصبّ على العراق، بالتوازي مع انخراطها بشكل متزايد في الحرب على داعش في منعطفها الأخير، لتوفير البيئة المناسبة لمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل فاعل في ترتيب أوضاعها في مرحلة عراق ما بعد داعش وإعادة توزيع خارطة النفوذ داخله باتجاه تحجيم الدور الإيراني والحدّ من تأثيراته.
وفي سياق تلك الخارطة وجّه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون انتقادات شديدة لإيران مؤكّدا تغيير سياسة “الصبر الاستراتيجي” عليها، ما يعني أن المنطقة مقبلة خلال المرحلة القادمة على حلقة أشدّ من الصراع بين واشنطن وطهران سيكون العراق ميدانا رئيسيا لها، ما سيدفع إيران إلى إعادة توظيف أتباعها الأكثر موثوقية ومن بينهم المالكي الذي تخلت عنه في وقت سابق بالتوافق مع إدارة أوباما، ما حرمه من ولاية ثالثة على رأس الحكومة. وعلى إثر الزيارة التي أجراها صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر إلى العراق، غيرت إيران بشكل واضح بوصلة سياستها باتجاه إعادة تنشيط دور المالكي عبر دعمها لترشحه لرئاسة الوزراء في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها بداية 2018، حسب ما ذكر أحد قادة ائتلاف دولة القانون.
كان مستوى الالتزام الأمريكي نحو العراق لما بعد عام 2011 متواضعاً، الأمر الذي انعكس بشكل ايجابي على المصالح الايرانية في العراق حيث تمتعت إيران بعلاقات أوثق وأكثر تنوعاً وشمولاً مع العراق وذلك بقدر أكبر مما تتمتع به الولايات المتحدة أو أية دولة أخرى في المنطقة فقد استطاعت ايران بسط نفوذها لتأكيد وضعها كقوة خارجية أعلى في العراق. الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على النفوذ الأمريكي في جميع أنحاء المنطقة وعلى الجهود الأمريكية لردع واحتواء إيران التي تعمل بحزم بصورة متزايدة.
وفي هذا السياق يأتي تزايد الجهد العسكري استعدادا لمعركة غرب الأنبار لتفادي مثل هذا الاحتمال، وتعزيز المصالح الأمريكية، خلال الاشتراك في طائفة واسعة من الميادين الدبلوماسية أو الاقتصادية أو المعلوماتية أو العسكرية، ومواجهة منهج إيران الساعي إلى سيطرة كاملة على الحكومة بمنهج تسيطر فيه العراق نفسها على الحكومة، بما يضمن استقرار العراق في الحاضر والمستقبل. فسياسة الإدارة الأمريكية لعراق ما بعد داعش، “عراق واحد” وذلك لأنه من الناحية الإستراتيجية يشكل إقلیم کوردستان حليفاً أکثر فائدة في الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة عندما يکون جزءا من العراق، بدلاً من أن يكون بلدا صغيرا يعتمد اعتماداً كبيراً على العلاقات الودية مع جيرانه. وفي حال فشل الجهد الدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية في العراق وفي الاستفادة من المكاسب التي تحققت في الحرب ضد داعش، بما في ذلك التعاون المتزايد بين أربيل وبغداد، يمكن أن يدفع المسؤولين المحليين من كلا الجانبين إلى تحمل المسؤولية والعمل بشكل مستقل من أجل إيجاد حلول. وأن هذا لفشل، قد تٶدي إلی فشل المفاوضات المستقبلية الحافلة بالتحديات لأنه في ظل غياب وسيط قوي ومحايد، ستنشأ بطبيعة الحال معضلات أمنية في بيئة محرومة من آليات المساءلة وسبل منع التجاوزات. الزمن كفيل بتوضيح ذلك فقط ، ولكن الشئ الواحد الواضح هو أن أوقات صعبة قادمة.
وحدة الدراسات العراقية
مركزالروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية