أخذ الحديث عن قرب تنفيذ عملية “تحرير” مدينة الموصل (نحو 400 كم شمال بغداد) طابعا ساخنا سواء من قبل المسؤولين الأميركيين أو العراقيين سياسيين وعسكريين، ربما لم يحصل مثله حتى أثناء تحضيرات الحلفاء قبيل عبور النورماندي في يونيو/حزيران 1944.
فالإعلام بجهتيه أي الموالية للحكومة والتحالف الدولي، والمحايدة بين الحكومة وتنظيم الدولة الإسلامية، مشغول بل غارق في تحليل كل شاردة وواردة لها صلة بالموصل أو مقترباتها، ورصد جملة التطورات الميدانية المرتبطة بالتحضيرات التي بدأت تطرح بصوت عال خلافا لما يقتضيه الأمر في الظروف المماثلة من تكتكم، للاحتفاظ بميزة المباغتة التي تعد من شروط تحقيق النصر في أي عملية عسكرية من طراز العملية التي وضع التحالف الدولي كل بيض معنوياته في سلتها.
منذ عدة شهور، لا تكاد تمر ساعة من دون أن يحصل تطور سياسي أو أمني، أو يصدر تصريح من أحد اللاعبين السياسيين والعسكريين عن توقيتات بدء المعركة.
وفي المقابل، حافظ تنظيم الدولة على هدوئه العلني على الأقل، مع أن هذا الهدوء لا يعكس حقيقة مخاوفه وما يترتب عليها من استعدادات تجري على كل المستويات، ومستندة إلى قلق مشروع ينتاب عناصره وقياداته على حد سواء، بسبب خسارته لمدن مهمة ولطرق مواصلات إستراتيجية كان يستخدمها للتخادم والإسناد المتبادل بين مواضعه في العراق وسوريا، أو لإسناد المناطق التي تعاني من صعوبات في مواجهة الغارات الجوية التي يشنها التحالف الدولي أو تشنها قوات برية محلية مسلحة، كالقوات النظامية أو شبه النظامية.
ولا يغير من حقيقة التوازنات الجديدة على الأرض أن تنظيم الدولة ما زال يشن عمليات متفرقة في مدن محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى، ويعزو بعض المراقبين تلك العمليات إلى أنها محاولة من التنظيم لمنع القوات التي تستعد للهجوم على الموصل من استكمال شروط حشدها، أو عدم السماح لها بالشعور بالأمان في مناطق حشدها، كما أن الهجمات المتفرقة لا تعتبر دليلا قاطعا على أن التنظيم ما زال يحتفظ بعنصر المبادأة الذي ميز نشاطه الحربي طوال الثلث الثاني من عام 2014.
لكن اللافت أن تنظيم الدولة -رغم امتلاكه ماكنة إعلامية هائلة وذات حرفية عالية- لم يرد على رسائل الحرب والحرب النفسية التي يشنها العالم برمته عليه، لكي يزيل تأثيرات تلك الرسائل ويرفع معنويات مقاتليه وسكان المناطق التي يوجد فيها هؤلاء المقاتلون، بل تعامل معها بلا مبالاة ظاهرة.
ويعزو مراقبون متخصصون في شؤون تنظيم الدولة الإسلامية والمتعاطفون معه حالة عدم الاكتراث التي يتعامل التنظيم بها مع طبول الحرب التي يقرعها أعداؤه على مسافة قريبة من أذنيه، إلى أنه تنظيم عقائدي يقاتل بنية “النصر أو الشهادة”، ولهذا فهو يتحدث عن معاركه التي انتهت أكثر بكثير مما يتحدث عن معاركه الآتية، لكن كثيرا من المواقع الإلكترونية -المعبرة عن وجهات نظر التنظيم- ذهبت إلى أن مصير الهجوم المرتقب لن يكون أفضل حالا مما سبقه.
فهل استعد تنظيم الدولة الإسلامية لحرب من الطراز الذي يتحدث عنه الأميركيون؟ وهل استطاع تجديد الأسلحة التي خسرها؟ وهل تمكن من تعويض خسائره في المقاتلين؟ يراهن التنظيم على أن الاشتباك القريب بين القوات المهاجمة والقوات المدافعة سيحيد الطيران، وبالتالي سيعطي الفرصة للطرف الأكثر إقداما على مواصلة القتال.
ربما يعاني تنظيم الدولة الإسلامية من صعوبات جمة في تجنيد المقاتلين الجدد، سواء من المتطوعين الغربيين نتيجة التشديدات التي وضعتها الدول الأوروبية على انتقال رعاياها إلى المنطقة، أو من الحواضن الشعبية التي يوجد فيها، مثل الموصل وتكريت والفلوجة والرقة وغيرها من مدن العراق وسوريا.
وذلك رغم فرضية أن سكان هذه المدن يتعاطفون مع تنظيم الدولة -كما يحاول هو أن يصور- بسبب ما عانوه من ظلم ووحشية الانتهاكات التي مارستها السلطات الحكومية ومليشيا الحشد الشعبي، التي أدخلت تحت لوائها العشرات من أسماء المليشيات الشيعية مثل فيلق بدر وعصائب أهل الحق، ذات التاريخ المعروف بممارسة أسوأ أنواع التمييز ضد سكان مدن كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة، قبل أن تستعيدها القوات الحكومية بمساعدة الطيران الحربي الإيراني وقوات فيلق القدس.
إن سكان الموصل -وكذلك سائر المدن السنية- يعانون من انعدام مطلق للثقة بالمليشيات والجيش، لكن التعاطف شيء والانخراط ضمن صفوف مقاتلي التنظيم شيء آخر، وذلك بسبب المسؤولية الجنائية المترتبة محليا ودوليا على من تتأكد صلته بالتنظيم.
فالتنظيم يعتبر -بموجب قرارات دولية- من أخطر الحركات الإرهابية، مما دفع أكثر من 60 دولة من دول العالم لإقامة تحالف دولي لمحاربته، وغالب الظن أن كثيرا من سكان الموصل سيختارون موقف الحياد السلبي عند بدء المعارك، خشية من انحيازهم لأي من الطرفين في معركة ليس في مقدورهم تحديد المنتصر فيها.
لقد عاش سكان المدن السنية في العراق مأزقا حقيقيا بين معاناة مريرة عانوا وطأتها تحت سلطة القوات الحكومية قبيل يونيو/حزيران 2014، وتزمت ديني باسم الإسلام مارسه تنظيم الدولة الإسلامية معهم، فسيق العشرات إلى محاكم لا يتوفر فيها الحد الأدنى من شروط الدفاع عن النفس.
وتحفل تفاصيل حياتهم مع وجود القوات الحكومية بمفردات قاسية من محاولات التركيع والإذلال التي مارسها معهم الجيش والشرطة الاتحادية، ولكن تلك القوات وخلال سويعات من هجوم تنظيم الدولة على الموصل في 9 يونيو/حزيران فرت تاركة وراءها أحدث الأسلحة التي تعود لخمس فرق كاملة.
ومع ذلك فإن هؤلاء السكان لم يجدوا المنقذ في تنظيم الدولة أو مبتغاهم فيه، والحلم الذي يراودهم بالخلاص من ظلم السلطة التي يتقاسمها الأكراد والشيعة، فقد مارس تنظيم الدولة تدخلا في أدق التفاصيل اليومية لحياة الناس، وباشر خطة لإلغاء الذاكرة التاريخية للعراق، عندما دمر موجودات متحف الموصل بدعوى أنها أصنام لآلهة كانت تعبد.
وقبل ذلك كان التنظيم قد دمر جامع النبي يونس المشيد عام 1365م وجامع النبي جرجيس الذي يعود تاريخه إلى عام 1400م وجامع النبي شيت الذي شيّد عام 1647م، إضافة إلى تدمير كثير من الأضرحة والمراقد والمزارات التي تعود لمئات السنين.
وكان لمثل هذه الفعاليات تأثير سلبي بالغ على تفاعل سكان الموصل مع التنظيم لأنه سفه معتقداتهم وتقاليدهم التي تعايشوا معها زمنا طويلا، ويذهب بعض المراقبين إلى أن ممارسات التنظيم الأخيرة ربما تعكس إلى حد ما تقدير تنظيم الدولة أن نتائج المعركة المقبلة لن تكون في صالحه، وبالتالي فهو يكتفي بأن يوصل رسالة عامة بأنه نفذ برامجه الاجتماعية على وفق قراءته الخاصة لمفاهيم الشريعة الإسلامية.
فما هي خطة الهجوم على الموصل وما هي فرص نجاحها؟
أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها زودت الحكومة العراقية بعشرة آلاف بندقية من طراز أم-16 وبنواظير ليلية و250 عربة مدرعة مضادة للألغام وعدة مئات من صواريخ هيل فاير، إضافة إلى خوذات وتجهيزات أخرى بقيمة حوالي 17.9 مليون دولار.
وفي 19 فبراير/شباط 2014، قال ضابط كبير في القيادة الوسطى للجيش الأميركي إن عملية تحرير الموصل من داعش ستبدأ في أبريل/نيسان أو مايو/أيار القادمين، وقال إنه “يجري إعداد قوة من الجنود العراقيين والأكراد يتراوح قوامها بين 20 و25 ألف فرد لطرد ما يصل إلى ألفين من مقاتلي تنظيم داعش من الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق”.
وأدت تلك التصريحات إلى ردود فعل متباينة، ففي الدوائر السياسية والعسكرية الأميركية والعراقية ساد وجوم وقلق لأن التصريح كان غير مسبوق في الأحوال المماثلة، إذ أفقد القوات المتهيئة لشن الهجوم عامل المباغتة، فهل تنجح هذه القوات وبهذه الأسلحة في تحقيق ما عجزت عنه خمس فرق مجهزة بأحدث الأسلحة؟
لا توجد تأكيدات بأن الألوية التي تحدث الضابط الأميركي عن تدريبها ستتألف من العرب السنة كما شاع في الأوساط السياسية، مما يعزز احتمال قيام القوات المهاجمة -في حال تحقيقها النصر- بعمليات انتقامية من السكان المحليين بحجة تعاونهم مع داعش، بعد أن كان رئيس سلطة كردستان مسعود البارزاني قد أكد غير مرة أن البشمركة الكردية لن تحرر الموصل بمفردها، لأن الحرب ستكون عندئذ حربا قومية بين العرب والأكراد.
لكن الموقف الكردي تبدل بصورة مفاجئة، إذ استقبل البارزاني قائد فيلق بدر هادي العامري وأبو مهدي المهندس معاون القائد العام للحشد الشعبي، وهو ما فسره مراقبون بأنه استجابة لضغوط إيرانية، بعد أن وصلت الحرب الكلامية بين البارزاني وقيادات الحشد الشعبي بشأن الدخول إلى كركوك إلى مستوى يهدد التحالف الشيعي الكردي بالانهيار، وهذا التطور يضع المكون العربي السني بالعراق في مواجهة أخطار مزدوجة، لم يسبق أن مر بمثلها من قبل حتى بعد 2003.
فهو مطالب بأن يقاوم تنظيم الدولة الإسلامية من دون أن يعرف لمصلحة من عليه أن يفعل ذلك؟ وهو لا يمتلك إطارا رسميا لاحتواء القوة التي يسعى للحصول عليها، فالكيانات المسلحة السنية التي تشكلت بعد الاحتلال الأميركي كانت فصائل مقاومة، وتم تصنيفها كحركات إرهابية ولوحقت بقوة الاحتلال الأميركي، ومن بعده من قبل الحكومات العراقية التي تشكلت بعد احتلال 2003.
ومع أن حركات المقاومة المسلحة هذه تحظى بدعم شعبي واسع النطاق، إلا أنها مطاردة بتهم وفق المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، وبالتالي لا تستطيع اكتساب الإطار الشرعي كمنظمات معترف بها من جانب الحكومة.
بات محسوما أن الهجوم على تنظيم الدولة الإسلامية في مدن عربية سنية مثل الموصل، سيتم على أيدي قوات كلها تحمل روحا انتقامية من سكان هذه المدن تحت لافتة التواطؤ مع تنظيم الدولة الإسلامية. فإضافة إلى البشمركة، تزيد نسبة المقاتلين الشيعة في القوات الحكومية على 90%، وأكثر من 95% من قادتها وآمريها من الشيعة أيضا. أما ما تبقى من السنة فيها فمغلوبون على أمرهم، وهم في دائرة الاتهام لسبب ومن دونه إلى أن يثبتوا براءتهم.
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد أصدرت بيانات عن معاناة العرب السنة سواء بالقتل أو بالتهجير -حتى بعد السماح لهم بالعودة إلى قراهم ومدنهم في شمالي بابل ومحافظة ديالى ومحافظة نينوى- من قبل المليشيات الشيعية والبشمركة.
من المعروف في العلوم العسكرية أن أي حرب إما أن تنتهي بانتصار أحد الفريقين وهزيمة الفريق الآخر، أو بوضعية لا غالب ولا مغلوب. لكن هل وضع الأميركيون في حساباتهم احتمال خسارة معركة الموصل؟ وما هي تأثيرات مثل هذا الاحتمال على وضع القوات العراقية بل ومستقبل العملية السياسية برمتها؟
وعلى هذا فإن أميركا ستستميت في تقديم الدعم العسكري من أجل إحراز النصر، وهنا سيبرز سؤال جدي وبحروف كبيرة: ما هي إستراتيجية الولايات المتحدة في العراق؟ ولمن ستسلم الموصل وسائر المدن التي ستستردها؟ ومن سيمسك بالملف الأمني في الموصل خاصة؟ هل هم المنتصرون من الأكراد والشيعة كما حصل في ديالى؟ أم سيتم تسليم الموصل لمحافظها ويصار إلى تشكيل قوة محلية لحمايتها وإشاعة أجواء الطمأنينة والاستقرار فيها؟
يرجح مراقبو المشهد العراقي أن الحشد الشعبي الشيعي والبشمركة الكردية سيتقاسمان السيطرة على الموصل كما حصل في مناطق أخرى، وعندها لا بد من طرح تساؤل مرير عما إن كانت الولايات المتحدة قد قررت تسليم الموصل والمدن السنية للمليشيات الشيعية وبالتالي لإيران؟ وعندها سنسأل: هل قاتلت الولايات المتحدة داعش من أجل أن تسلم نتائج معاركها نصرا مجانيا لإيران كما فعلت في بداية احتلال العراق عام 2003؟
أما الدول العربية التي كانت طرفا فاعلا في التحالف الدولي فإنها ستجد أنها قد اختارت العمل ضد أمنها القومي عندما تحملت تكاليف مالية في التحالف، لتؤول نتائجه لصالح إيران من أجل أن تحقق قفزة كبرى جديدة على تخوم الخليج العربي، وعندها سيكون من حق المراقب أن يسأل: هل هناك دولة ذكية واحدة في العصر الحديث تعمل ضد مصالحها؟
نزار السامرائيالجزيرة