الحدود التي رسمها «تشرشل» وسياسيون آخرون في أعقاب الحرب العالمية الأولى شكلت معالم الشرق الأوسط لما يقرب من 100 عام. ورغم ذلك، يشير الاضطراب الطائفي – في الوقت الراهن – جنبا إلى جنب مع انسحاب الولايات المُتحدة من المشاركة يوما بعد يوم إلى أن تلك الحدود يمكن أن يُعاد رسمها نتيجة لتغير ميزان القوى على الأرض. وقد بدأت هذه العملية في شمال العراق ولن تتوقف هناك. وسيكون لعملية إعادة رسم الخرائط آثار عميقة على قطاع الطاقة.
طور التفكك
المعارك الحاسمة التي يتم الإعلان عنها في وقت مُبكر، وكذلك الإشارات المُبكرة من الجيش الأمريكي بأن هناك قريبا معركة كبرى للسيطرة على الموصل قوبلت بترحاب مزج بين الدهشة وعدم التصديق. وقد يكون من المناسب أن يسعى الرئيس «باراك أوباما» إلى تشجيع «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا – والمعروفة أيضا باسم «داعش» – على مغادرة المدينة طواعية قبل الانضمام إلى المعركة. ومن شأن ذلك أن يجنب الحاجة إلى أي قوات أمريكية للعب دور فاعل في النزاع. وهناك تأييد – إن صحت الكلمة – للأكراد من قبل فلول الجيش العراقي الرسمي، ما قد يؤدي إلى استعادة المدن التي فقدوها لصالح «الدولة الإسلامية» خلال الصيف الماضي.
ورغم فشل الاستراتيجية الأمريكية التي تحمل عنوان «القيادة من وراء الستار» في ليبيا، إلا أن هذا المفهوم لا يزال على قيد الحياة ويحظى بقبول داخل الأروقة الأمريكية. ومع هذا، فإنه في هذه الحالة قد تبدو فكرة إخلاء «الدولة الإسلامية» للمدينة غير صائبة بالمرة. ومحافظة الموصل بالنسبة لهم موقع استراتيجي وعاصمة محتملة للخلافة المزعومة التي تريد «الدولة الإسلامية» تأسيسها لتشمل أنحاء مختلفة بالمنطقة. ويمكن للمعركة أن تكون صعبة وقاسية، وربما يكون تدخل الولايات المتحدة أمرًا لا مفر منه.
وبما أن الهزيمة من «الدولة الإسلامية» غير واردة، فإن علينا أن نفترض أن الموصل سوف يتم استعادتها. ولكن النصر لن يؤدي إلى استعادة النظام القديم في العراق. ومن مناقشة طويلة في لندن الأسبوع الماضي مع «فلاح باهر» – رئيس دائرة العلاقات الخارجية لحكومة إقليم كردستان – بدا واضحًا أن النموذج المركزي القديم – والذي كانت تدار به البلاد من بغداد – صار مجرد تاريخ. وبسبب عملية فوضوية، فإن العراق دخل في طور التفكك.
غير قابل للحياة
وتنطوي الحدود الوطنية النهائية على القوة المادية والاقتصادية. فبعد الحرب العالمية الأولى، كانت القوات المنتصرة المتحالفة قادرة على رسم خطوط في الرمال حيث أرادت. وكان «صدام حسين» وغيره من القادة في جميع أنحاء المنطقة خلال القرن الـ20 أقوياء بما يكفي للإبقاء على الأراضي سليمة دون تقسيم. وعلى الرغم الآن من كون الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى بعيدة، إلا إن النظام في بغداد أثبت مرارا أنه يفتقر إلى شرعية القوة الصلبة.
وكانت السهولة التي تفوقت بها «الدولة الإسلامية» على القوات العراقية خلال العام الماضي دليل قاطع على أن المؤسسات الرئيسية للدولة المركزية قد انهارت. والنتيجة الآن هي سيطرة «الدولة الإسلامية» على جزء كبير من الأراضي التي من المفترض أن تكون جزءً من العراق. وفي الوقت نفسه؛ باتت الحكومة في بغداد على وشك الانهيار، كما اعترف وزير المالية «هوشيار زيباري» خلال حديثه مع «فايننشال تايمز» الأسبوع الماضي.
وفي المُجمل، يتردد أن العراق يقوم بتصدير حوالي 2.5 مليون برميل نفط يوميا. وهذا يعني أنه ينبغي أن يكون إجمالي الدخل على الأقل 45 مليار دولار في العام في ظل أسعار النفط اليوم. وربما بمجرد أن ينهى «جون شيلكوت» تحقيقه بشأن الفترة التي سبقت حرب عام 2003، فإنه أو شخص آخر يمكنه أن يبدأ التحقيق بشأن ما حدث منذ ذلك الحين ومكان وجود عشرات المليارات من الدولارات في صورة مساعدات منهمرة، وماذا يحدث لعائدات النفط في البلاد.
أحد نتائج الوضع المالي الحالي في بغداد هي أن السلطات الكردية في الشمال لا يتم إمدادها بمدفوعات الميزانية الأساسية التي وُعدوا بها في نهاية المفاوضات العسيرة العام الماضي. ويتم تصدير النفط الكردي، ولكن هناك خسارة في المدفوعات في جزء ما من السلسلة. وسرعان ما أصبح هذا الوضع غير مستدام. البلد الذي لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وعاجز عن دفع فواتيره يصبح كيانًا غير قابل للحياة، وهناك الآن فرصة متاحة لواقع سياسي جديد سيتم إنشاؤه على أرض الواقع. الأكراد مستعدون لبيع النفط الخاص بهم، ويمكنهم القيام بذلك من خلال خطوط الأنابيب إلى تركيا. ومن شأن هذه الخطوة في الواقع جعل كردستان دولة مستقلة.
سباق النفط والأرض
وتواجه السلطات المركزية في بغداد تحديات متزامنة تضم «الدولة الإسلامية» في الغرب والسيطرة على المناطق الغنية بالنفط في الجنوب. وتشمل المنطقة الجنوبية المنطقة حول البصرة التي تشمل الموارد النفطية غير المستغلة الواسعة في الحقول الرئيسية مثل الرميلة ومجنون، والتي ظلت لفترة طويلة الأهداف الرئيسية لشركات النفط الدولية.
ويمكن لثروة الطاقة في جنوب العراق أن تصبح مصدر التوتر القادم بين المجتمعات السنية والشيعية وموطن التركيز الجديد للصراع المفتوح الذي انتشر في جميع أنحاء المنطقة منذ الاطاحة بـ«صدام حسين». وقد بدأت بالفعل مطالب الانفصال. بعض أنواع الاتحادات الفيدرالية ممكنة، ولكن هذا سباق من أجل النفط والآراضي التي تشمل كل من إيران والدولة الإسلامية. وليس من الصعب تخمين موقف المستثمرين الدوليين بناءً على هذه التطورات.
الاستنتاج الواضح هو أن الزيادة الموعودة منذ فترة طويلة من الإنتاج العراقي الذي كان من المقرر أن يعلن من العراق المورد الرئيسي القادم للنفط في العالم لن تحدث. وقبل بضع سنوات توقعت وكالة الطاقة الدولية أن العراق سيقوم بتوريد ما يصل إلى ثمانية براميل نفط يوميًا بحلول عام 2035م، ما يعني نمو الناتج إلى أكثر من 5.5 مليون برميل يوميًا. وعادوا وسحبوا تقديراتهم ، ولكن ينبغي أن يكون الخفض الواقعي أكبر من ذلك بكثير.
ويبدو أن كردستان باتت أكثر جاذبية للمستثمرين، سواءً كدولة مستقلة أو باعتبارها منطقة حكم ذاتي في اتحاد كونفيدرالي هام. وهذه المنطقة متماسكة ومحكومة بشكل فعال. وكانت إحدى نتائج هجوم العام الماضي الذي شنّته «الدولة الإسلامية» أن الأكراد أضحوا قادرين على توطيد سلطتهم على موارد النفط في شمال العراق من خلال السيطرة على كركوك؛ حيث تم العثور على النفط في البلاد لأول مرة في عام 1927م. والمنطقة برُمتها لا تزال غنية بالموارد في العديد من المناطق التي لم يتم تطويرها أو حتى استكشافها.
ولم يكن العام الماضي سهلاً على الشركات التي اختارت أن تستثمر في كردستان. لقد كان عليهم تخفيض النفقات والانتظار لما ستؤول إليه مجريات الأحداث على الأرض ليتسنى لهم مواصلة عمليات التطوير والاستكشاف. ومع ذلك؛ فإن الصبر والصمود هما أبرز خصائص اللاعبين الناجحين في تلك الصناعة. وهذا يمكن أن يكون عام سداد الرهانات التي راهن عليها الجميع. وعندما تحدت «إكسون موبيل» حكومة الولايات المتحدة وقررت أن تستثمر مباشرة في كردستان بدلاً من العمل من خلال بغداد، نظر الكثيرون إليها على أنها وقعت في خطاً استراتيجي. والآن؛ فإنه في الوقت الذي يُعاد فيه رسم الخطوط، فيبدو أن تحليل إكسون موبيل للديناميكيات السياسية كان أفضل من أي شخص آخر تقريبًا.