فتحت استعادة قضاء الحضر بجنوب مدينة الموصل بعملية عسكرية خاطفة لقوات الحشد الشعبي لم تستغرق أكثر من ثمان وأربعين ساعة الطريق أمام الفصائل الشيعية التي تمثّل المكوّن الأساسي للحشد للتقدّم غربا باتجاه الحدود مع سوريا، تلك المنطقة التي يتوقّع أن تجعل منها أهميتُها جيوسياسية. مدارَ صراع شرس بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في المرحلة الأخيرة من الحرب ضدّ داعش استعدادا لما بعد تلك الحرب. فقد لاحت، بوادر صراع جديد بين الدولتين المتنافستين على النفوذ في البلاد، وهذه المرة ستكون الحدود العراقية – السورية الميدان الجديد للصراع بينهما.
فمن جانبها بدأت القوات والأميركية تسير دوريات في صحراء الأنبار الغربية لاستطلاع المنطقة استعداداً لإطلاق معركة في أعالي الفرات لاستعادة آخر ثلاث بلدات يسيطر عليها «داعش» في المحافظة، وهي راوة وعنة والقائم، وتعد معاقله الأخيرة في الصحراء الغربية التي يشترك فيها العراق مع سوريا والأردن. ولكن بدء العملية رهن بانتهاء معركة الموصل، حيث ما زالت قوات الأمن تواجه تحديات. وكانت الحرب التي تفجّرت بعد سيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة العراق أواسط سنة 2014، قد فتحت الباب لتواجد عسكري إيراني في العراق بالوكالة عن طريق جيش رديف يتكوّن من أكثر من مئة ألف من المقاتلين الشيعة المرتبطين بإيران عقائديا وماليا وتنظيميا، والذين استطاعوا أن يملأوا الفراغ الذي خلّفه انهيار القوات العراقية أمام زحف داعش بشكل مفاجئ. وضمن الحشد وجودا لإيران بالوكالة في مناطق سنية عراقية تقع بمحافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار حيث لا تزال قوات الحشد تشارك في مسك الأرض التي كانت قد شاركت بفاعلية في استعادتها من تنظيم داعش.
وفي تشرين الثاني “نوفمبر” الماضي قال رئيس الوزراء حيدر العبادي خلال مؤتمر صحافي ان “الحدود العراقية – السورية تحتاج الى إجراءات أمنية لمنع عودة المتطرفين الى العراق بعد طردهم في الموصل”، وارسل العبادي وفدا إلى سورية برئاسة مستشار الأمن الوطني فالح الفياض لمناقشة ذلك مع الرئيس السوري بشار الأسد. وبعدها أعلن عدد من قادة الفصائل الشيعية استعدادهم لانتشار مقاتليهم على الحدود مع سورية، وقدموا طلبا الى رئيس الوزراء حيدر العبادي لمنحهم هذه المهمة، ولكن العبادي لم يوافق على هذا الطلب حتى الآن. منظمة “بدر” بزعامة هادي العامري التي تمتلك فصيلا مسلحا قويا ولها تمثيل سياسي في الحكومة والبرلمان والعراقي طالبت بان تقوم قوات “الحشد الشعبي” في حماية الحدود مع سورية.وفي هذا السياق قال النائب عن “بدر” في البرلمان رزاق الحيدري ” ان “حماية الحدود مهمة لقطع إمدادات داعش، والحشد الشعبي يستطيع مساعدة القوات الأمنية في تحقيق ذلك لأنها قوات مدربة جيدا على قتال المتطرفين”.كما ان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المعروف بعلاقته الوثيقة مع “الحشد الشعبي” اعلن ان “بامكان الحشد الشعبي عبور الحدود والتوجه إلى سورية لمساعدة إخواننا في القضاء على هذا التنظيم”.
هذه التصريحات اثارت قلق الولايات المتحدة الأمريكية وسرعان ما خططت لتنفيذ عملية عسكرية على الحدود العراقية – السورية في محافظة الانبار، لمواجهة خطة ايران بدفع قوات “الحشد الشعبي” نحو الحدود العراقية – السورية عبر محافظة نينوى. كما بدأت تدخل على خطّ التواجد بغرب العراق بشكل متزايد رغبة في التحكّم بالحرب على داعش على طرفي الحدود؛ في الجانب السوري حيث أوجدت لها قاعدتين عسكريتين على الأقل في كل من عين العرب والحسكة، وفي الجانب العراقي، حيث رفعت عدد قواتها في عدّة قواعد من بينها القيارة وعين الأسد.
لذا تبدي القوات الأميركية الموجودة في قاعدة «عين الأسد» في الأنبار اهتماما شديدا بالمشاركة في معارك أعالي غرب الفرات “غرب الأنبار” ضدّ تنظيم داعش لما يحقّقه ذلك لواشنطن من أهداف متعدّدة أوّلها دعائي يضمن لإدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب تسويق صورته كمحارب شديد للإرهاب. فيما تضمن الولايات المتحدة من المشاركة في الحرب بغرب العراق وشرق سوريا موطئ قدم كانت فقدته بتراجع دورها أثناء حكم الإدارة السابقة بقيادة باراك أوباما، في مقابل تقدّم الدورين الإيراني والروسي.والأهم أن المشاركة في المرحلة النهائية من الحرب تضمن لواشنطن لعب دور في ترتيب أوضاع المنطقة ما بعدها، ومن ضمن ذلك إعادة رسم خارطة النفوذ فيها. حيث يهدف الجهد العسكري لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المنصبّ على العراق، بالتوازي مع انخراطها بشكل متزايد في الحرب على داعش في منعطفها الأخير، لتوفير البيئة المناسبة لمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل فاعل في ترتيب أوضاعها في مرحلة عراق ما بعد داعش وإعادة توزيع خارطة النفوذ داخله باتجاه تحجيم الدور الإيراني والحدّ من تأثيراته.
ويتضح من ذلك أن التنافس بين ايران والولايات المتحدة على الحدود العراقية السورية سيكون شديدا بعد معركة الموصل، وسيستخدم كل طرف حلفاءه المحليين في هذا التنافس، تستخدم ايران حلفاءها من الفصائل الشيعية، بينما تستخدم الولايات المتحدة حلفاءها من مقاتلي العشائر السنية. وعليه يبدو أن معركة غرب الأنبار ليست عسكرية فحسب وانما سياسية ايضا ، اذ تسعى ايران لايجاد طريق بري بينها وبين حليفتها سورية منذ سنوات، بينما تعمل الولايات المتحدة وحلفائها على منع حصول ذلك بأي ثمن. بينما يلعب سلاح الطيران والرقابة عبر الأقمار الصناعية دورا حاسما، الأمر الذي يجعل ميزان القوى في معركة التحكّم بالمناطق الغربية العراقية يميل لمصلحة الولايات المتحدة على حساب إيران.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية