اعتادت القراءات السياسية والنظريات المتصلة بالعلوم السياسية على القول إن الانتخابات مفصل أساسي في العملية الديمقراطية، ولكنها ليست محددة لتحققها. وللاستدلال على ذلك نستذكر دائما أن أدولف هتلر وموسوليني وغيرهما من الشخصيات الموغلة في الاستبداد والشمولية، وصلوا السلطة عن طريق الانتخابات. بهذا المعنى تصبح العملية الديمقراطية مناخا متكاملا تتضافر فيه الأبعاد السياسية والإعلامية والتشريعية والقانونية وغيرها، لتصبح الانتخابات مجرد تتويج لهذا التفاعل السياسي المعقد.
الادعاء الإيراني بديمقراطية الدولة والنظام والممارسة والمؤسسات، يمكن دحضه وفق ثلاثة مسارات؛ المسار السياسي والقانوني والدستوري، والمسار الفكري والأيديولوجي، ومسار الوقائع أي آثار “الديمقراطية” الإيرانية على الشعوب الإيرانية وأيضا صداها في الخارج.
ولمقارعة ما تقتضيه الديمقراطية الحقة، مع ما تعيشه الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تزهو كل 4 سنوات باصطفاء رئيس جديد لها، حري بنا التعرف على شكل وطريقة انتخاب الرئيس، أو الاطلاع على الهندسة السياسية الإيرانية لانتخاب الرئيس.
منذ ثورة العام 1979، والتي أسفرت عن وضع دستور “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” والذي تمت الموافقة عليه في العام 1979 من قبل مجلس خبراء القيادة (الهيئة الأساسية في النظام الإيراني الذي عهد إليه الدستور مهمة تعيين وعزل قائد الثورة الإسلامية في إيران) وتم تعديل الدستور في العام 1989 حيث تم دمج منصب رئيس الوزراء مع رئيس الدولة، وسمي المنصب الجديد تبعا لذلك بمنصب رئاسة الجمهورية.
منذ الرئيس أبوالحسن بني صدر، الرئيس الأول بعد الثورة الذي حكم إيران من 4 فبراير 1980 إلى 22 يونيو 1981، (والذي تم خلعه في مفارقة مبكرة من قبل مجلس الشورى الإيراني) تداول على رئاسة إيران سبعة رؤساء، آخرهم الرئيس الحالي حسن روحاني، وقد انتظمت منذ خلع بني صدر 11 مناسبة انتخابية، والقادمة ستكون المحطة الثانية عشرة كما أسلفنا الذكر.
انتخاب الرئيس الإيراني يحصل وفق مسار سياسي يحدده ويرسم معالمه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية. نظريا ينتخب الرئيس وفق “انتخابات وطنية عن طريق الاقتراع العام”، لكن حقيقة الممارسة تقتضي أن اختيار المرشحين يقتصر فقط على من نالوا موافقة مجلس صيانة الدستور (إحدى أهم المؤسسات الإيرانية وغايته ضمان شرعية وإسلامية النظام الإسلامي ووظيفته الإشراف على مجلس الشورى الإسلامي)، والثابت أن مجلس صيانة الدستور، كما مجلس الشورى أو مجلس خبراء القيادة تخضع كلها لسيطرة المرشد الأعلى وتوجيهه. الأخير يمثل عصب السياسة الإيرانية والعمود الفقري للدولة، سياسيا ودينيا (مع وجوب الإشارة إلى أن لا فصل بين الديني والسياسي في هذه الهندسة المعقدة). فالمرشد الأعلى أو قائد الثورة الإسلامية أو “الولي الفقيه” هو رأس هرم السلطة في إيران، رغم عدم التنصيص على ذلك في الدستور الإيراني لما بعد الثورة.
بهذا المعنى، فإن كل مواطن إيراني يحق له الترشح للانتخابات الرئاسية إن توفر على الشروط الضرورية لذلك، لكن ذلك لا يعني شيئا إن لم يوافق مجلس صيانة الدستور على ذلك، ولا شك أن هذا المجلس لا يدرس الترشحات من زواياها القانونية أو من ناحية دستوريتها، بل يدرسها وفق معايير أخرى تهاجر بالعملية السياسية الإيرانية، برمتها، صوب آفق أخرى لا صلة لها بالنظم الديمقراطية المعتادة.
هل من إمكانية للديمقراطية في دولة دينية لا ترى ضيرا في إعلان تمذهبها، بل تؤكده في نصوصها التشريعية
على أن شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، في حد ذاتها تبدو موغلة في التشدد حد الغرابة، ومنها أن المترشح يجب أن يكون رجلا (إقصاء المرأة مضمون بالقانون)، ولا بد من أن يكون مسلما شيعيا اثني عشريا (الانتماء المذهبي محدد أساسي) ويجب أن يكون عمره بين 25 و75 عاما، ويجب ألا يكون قد سبق الحكم عليه، وألا يكون قد خدم البلاد خلال النظام الملكي الإيراني، ولا بد له من أن يكون مخلصا للجمهورية الإسلامية (معايير الإخلاص للجمهورية الإسلامية فضفاضة وقابلة للتمطيط والتوجيه).
وفي ما يتعلق بالمسار الأيديولوجي لدحض الديمقراطية الإيرانية التي يُحرص على ترويجها بعناية، إلى حد القول إنها إحدى الديمقراطيات النادرة في المنطقة بأسرها، فإن الحرص على صون مقولات الثورة الإسلامية وتعاليم الولي الفقيه، وما أفرزته من تعبيرات سياسية تتعلق بالمذهب والطائفية والانتماء الشيعي وتصدير الثورة وغيرها من التعبيرات، هي كلها ثوابت تتعارض مع مقتضيات الديمقراطية الحقيقية كما تواضعت على تعريفها كل المدارس السياسية.
المذهب الشيعي والولي الفقيه والولاء للثورة هي مبادئ السياسة الإيرانية، أما مواسم الانتخابات فهي مجرد محطات لضخ بعض الدماء في شرايين الثورة، أو لمواكبة ما يريده العالم أو لتسويق صورة ما للعالم، وحتى الرئيس الذي يقال إن صناديق الاقتراع اختارته فإنه لن يخرج عن طوع الرئيس الحقيقي (وإن كان من وراء ستار) بل إن الزج به في الانتخابات وتعزيز حظوظه او القضاء عليها كلها مناورات بيد المرشد أيضا.
يقال إن الديمقراطية تمارس في الفضاء العام، والمؤسسات السياسية تعكس صدى هذا الفضاء وما يعتمل فيه عبر القرارات، لكن ما حصل في إيران منذ العام 1979، أنه تم تدجين الفضاء العام وتم أيضا توحيد المسارات بين الفضاء العام والمؤسسات، فالفضاء العام حيث يحصل التعبير والاحتجاج وحتى المظاهر الاحتفالية معسكر ومراقب ومعاقب، أما المؤسسات فهي تحت سطوة المرشد وزمرته الضيقة، بهذا المعنى فإن ديمقراطية “المداولة” وديمقراطية “القرار” تحولتا في إيران إلى ممارسة يتم خنقها وتوحيدها جميعا في يد واحدة؛ دينية ومذهبية وشمولية وثيوقراطية.
يجر هذا إلى التساؤل عن إمكانية تحقق ديمقراطية في دولة دينية لا ترى ضيرا في إعلان تمذهبها، بل تؤكد ذلك في نصوصها التشريعية وتجعل منها معايير للعمل السياسي ومنها شروط الترشح في الانتخابات الرئاسية. الديمقراطية في الدولة الدينية لا تكون إلا زيفا، طالما أنها تعلي وتعتمد وثوابت أخرى من قبيل الشريعة والمذهب الديني، ولذلك فإن ديمقراطية إيران هي سلوك للتسويق أو لإيهام الداخل والخارج بالشرعية والمشروعية، لكن حصاد الممارسة يختلف عن بيدر الأقاويل والادعاءات؛ إيران في الداخل تخنق الأنفاس وتقمع الشعوب غير الفارسية، وتسجل أرقاما قياسية في الإعدامات، وفي الخارج تزرع الفتن وتثير القلاقل وتفرض مذهبها على الآخرين، والآخر المذهبي عندها الجحيم وإن كان مسلما.
الانتخابات في إيران هي مناسبة دورية تحشد لها كل المؤسسات ووسائل الإعلام، وتروج خلالها كل المقولات من قبيل الديمقراطية وصناديق الاقتراع والحملات الانتخابية، لكن الرئيس، مترشحا أو فائزا، هو أولا معلوم (في الحالة الراهنة حسن روحاني هو الرئيس الحالي والقادم) وثانيا هو محدد من قبل المرشد، والأخير يحدد له أيضا مساره وتوجهاته.
الانتخابات لا تحقق الديمقراطية، والانتخابات الرئاسية الإيرانية لن تصنع ربيع إيران القادم.
عبدالجليل معالي
صحيفة العرب اللندنية