في الوقت الذي تدعو فيه منظمات دولية إلى منع انتشار الأسلحة النووية والتوقيع على المعاهدة ذات الصلة، تسعى المؤسسة الإسرائيلية بشكل دؤوب إلى تطوير القدرات العسكرية، والاستئثار بخيار نووي.
وقد بررت الإدارات الأميركية المتعاقبة امتلاك إسرائيل لكافة صنوف الأسلحة -ومن بينها السلاح النووي- بذريعة الهواجس العسكرية والأمنية من المحيط العربي. وتبعًا للتوجه الأميركي، لم توقع إسرائيل على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية رغم مرور سبعة وأربعين عاما على توقيعها (1968-2015).
مقدمات إسرائيل النووية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، خاطب ديفد بن غوريون (أول رئيس للحكومة الإسرائيلية) بعض العلماء اليهود المهاجرين من ألمانيا إلى فلسطين قائلاً: “أريد منكم أن تهتموا منذ الآن بالأبحاث الذرية، وبإنجاز كل ما يمكن إنجازه من أجل تزويد الدولة اليهودية المنشودة بأسلحة نووية”.
وكان شمعون بريز (الرئيس الإسرائيلي السابق) قد قال في الكنيست الإسرائيلي عام 1966: “إنني لا أرى سببًا لإقدام دولة إسرائيل على طمأنة عبد الناصر من هذا المنبر، والسماح له بأن يعرف ما نفعله أو ما لا نفعله، إنني أعرف أن العرب يشكون في نوايانا النووية، وأعرف أن هذا الشيء قوة رادعة، فلماذا نخفف من هذه الشكوك، ولماذا نعمل على إيضاحها”.
أما أفرايم كاتسير (الرئيس الإسرائيلي آنذاك)، فقد أعلن في عام 1972 أن “إسرائيل لن تكون البادئة في إدخال الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط، ولكنها تمتلك القدرة على صنع مثل تلك الأسلحة، بل في مقدورها أن تفعل ذلك في فترة زمنية معقولة”.
وتبعًا لذلك، بدأت إسرائيل منذ إنشائها استقبال العديد من العلماء اليهود من خلال الهجرات المتتالية، خاصة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وكان لهجرة اليهود الكثيفة من دول الاتحاد السوفياتي السابق ومن باقي دول العالم -خاصة في بداية التسعينيات- بالغ الأثر في رفع نسبة العلماء الخبراء في المجالات المختلفة، بمن فيهم علماء الفيزياء والتطبيقات الكيميائية، إذ كان هناك عدد كبير منهم، يملكون شهادات أكاديمية عالية في المجالات المذكورة، وفي مجالات أخرى مثل الطب والرياضيات.
وبالنسبة لتأسيس إسرائيل لقدرات نووية، فإن الباحثين والمتخصصين فيها بدؤوا في البحث عن اليورانيوم في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة. ومنذ السنوات الأولى لإنشائها وبالتحديد في عام 1949، تم إنشاء معهد وايزمان للأبحاث النووية، وجرت عدة محاولات لإيجاد طرائق جديدة لإنتاج الماء الثقيل واستخلاص اليورانيوم من الفوسفات، وقد واكبت تلك المحاولات مخططاتٌ حقيقية لتطوير وبناء السلاح الكيميائي بكافة أنواعه، بما في ذلك السلاح المحرم دوليًّا.
التوزع الجغرافي للمفاعلات
لقد أدت المخططات الإسرائيلية والنشاط الدؤوب لإنجاح تلك الخطط وإخراج الأفكار الصهيونية والإسرائيلية بشأن ضرورة امتلاك خيار نووي، إلى بناء إسرائيل لسبعة مفاعلات نووية، أهمها مفاعل ديمونة الذي أسسه بن غوريون عام 1957 في صحراء النقب باتفاق مع فرنسا.
وفي عام 1960 تم إنشاء مفاعل نووي إسرائيلي في أسدود جنوب فلسطين المحتلة بمساعدة أميركية، والمفاعل المذكور قادر على إنتاج البلوتونيوم، وقد سبق ذلك بناء مصانع السلاح الكيميائي بمعونة بريطانية.
وثمة مواقع مختلفة للأسلحة النووية من أهمها: موقع “بالميكيم” للتجارب شمال صحراء النقب، وهو مخصص لإجراء تجارب على الصواريخ النووية مثل صاروخ “أريحا”، أما موقع “يوديغات” فهو مخصص لتجميع الأسلحة النووية وتفكيكها.
في حين يقوم الخبراء الإسرائيليون في موقع “بئر يعقوب” ببناء قواعد إنتاج صواريخ “أريحا” ذات الرؤوس النووية، أما موقع “كفار زكريا” فيعتبر قاعدة للصواريخ النووية ويحوي ملاجئ لتخزين القنابل النووية، وفي قرية عيلبون شرق منطقة الجليل الفلسطينية مواقع لتخزين الأسلحة الإسرائيلية النووية التكتيكية.
وإضافة لذلك، استطاعت إسرائيل بناء عشرة مصانع كيميائية، وأكثر المناطق والمدن التي تتركز فيها الأنشطة الكيميائية الإسرائيلية هي: مدينة حيفا ومدينة عكا المحتلتان على ساحل البحر المتوسط، حيث تعمل شركة “حيفا كميكليم” وشركة “وكفرقاروم”.
وتتركز صناعة الذخائر الكيميائية بمنطقة “بيتاح تكفا”، في حين تتركز صناعة الغازات السامة في منطقة “حولون” و”ريشون لتسيون”، أما مصانع الكلور وغاز الأعصاب فقد تمّ بناؤها في منطقة تل أبيب التي تستحوذ على ثلث مجموع اليهود في إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة, وهي من أعلى المدن كثافة بالسكان.
فضلاً عن ذلك، تتوزع مصانع كيميائية في المدن الفلسطينية المحتلة الأخرى لصناعة غاز الخردل وغاز الباروم، وكذلك صناعة الذخائر، وهناك برامج وخطط إسرائيلية وموازنات ضخمة لتطوير المفاعلات النووية، والمصانع الكيميائية الإسرائيلية، والمحاولات متسارعة لتطوير أداء البحث العلمي في المجالات المذكورة بسرية فائقة.
وعلى الرغم من الإشارات التي تبرز بين فترة وأخرى في الصحف ومراكز البحث الغربية والإسرائيلية على حد سواء والتي تؤكد امتلاك إسرائيل لأسلحة كيميائية ونووية متطورة، فإن الدوائر الإسرائيلية المختلفة سرعان ما تنفي ذلك للإبقاء على سياسة الشك التي اتبعتها إسرائيل منذ أكثر من ستة عقود.
وعلى سبيل المثال، أعلنت صحيفة ألمانية في نهاية عام 2006 -على لسان رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت- أن “إسرائيل تمتلك قدرات نووية”، وقد نفى الإعلام الإسرائيلي ذلك الخبر مباشرة، لكن قادة عسكريين كبارا في إسرائيل ألمحوا إلى أن إسرائيل لن تكون البادئة في إدخال السلاح النووي إلى الشرق الأوسط.
واللافت أن إسرائيل اعتمدت -من خلال الشك والإيحاء في تصريحات وتلميحات بعض القادة الإسرائيليين ورؤساء حكومات إسرائيلية متعاقبة- مدخلاً للإعلان غير المباشر عن وجود إمكانيات الردع الإسرائيلية.
وقد استهدفت تلك السياسة إقناع مهاجرين يهود جدد من دول العالم بالهجرة إلى فلسطين المحتلة، باعتبار الهجرة ركيزة أساسية في زيادة أعداد اليهود في فلسطين المحتلة، هذا فضلاً عن محاولات إسرائيل إقناع الدول العربية بأن إسرائيل تملك السلاح النووي، وبالتالي هناك خلل في التوازن في الأسلحة غير التقليدية لصالحها في منطقة الشرق الأوسط.
ومما لا شك فيه أن البرنامج النووي الإسرائيلي كان -منذ الخمسينيات- تحت إدارة وزارة الحرب الإسرائيلية، مما يؤكد الطابع العسكري لإنشاء وامتلاك القدرة النووية من قبل الجيش الإسرائيلي، وقد كانت تلك السياسة غير المعلنة بمثابة قرار سياسي إسرائيلي بالدرجة الأولى، للإخلال بالتوازن العسكري مع الدول العربية.
وكافة الدلائل باتت تؤكد امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية، حيث أكد فريق صحفي في صحيفة الصنداي تايمز في أوائل التسعينيات أن مردخاي فعنونو (الفني الإسرائيلي الذي قضى حكمًا إسرائيليا بالسجن لمدة 18 عامًا في إسرائيل)، قد أكد -عبر صور ووثائق- أن إسرائيل تمتلك ما بين 100 و200 رأس نووي بقدرات تدميرية متفاوتة، بما في ذلك قنابل نووية حرارية.
وقد عرض الفريق الصحفي في الصفحة المذكورة آنذاك شهادة الفني الإسرائيلي على علماء متخصصين مثل ثيودور تايلر الذي عمل رئيسًا لبرنامج الأسلحة الذرية لدى البنتاغون، كما تم استجواب فعنونو من قبل الدكتور فرانك بارنابي الذي عمل رئيسًا لبرنامج الأسلحة الذرية لدى البنتاغون.
وأشارت الصحيفة بعد ذلك إلى أن إسرائيل ليست قزمًا نوويًّا، بل لا بد للعالم أن ينظر إليها على أنها قوة نووية رئيسية تأتي في المرتبة السادسة على قائمة الدول النووية، ولديها مخزون لا يقل عن 100 قنبلة نووية، بل إنها تمتلك المكونات والقدرات على صنع قنابل ذرية ونتروجينية، أي أن النتيجة هي امتلاك إسرائيل قدرات عسكرية غير تقليدية.
رفضت إسرائيل منذ عام 1968 التوقيع والانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية بدعم أميركي مباشر، وأصبح عامل الردع العسكري غير التقليدي هاجسًا لكافة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام المذكور، وتبعًا لذلك استطاعت إسرائيل جعل الأفكار حول امتلاك أسلحة غير تقليدية حقيقة وأمرا واقعا يفرض نفسه بقوة.
تشير الدراسات المختلفة إلى أن إسرائيل استطاعت بناء عشرة مصانع لإنتاج وتطوير وتخزين الأسلحة الكيميائية، فضلاً عن سبعة مفاعلات نووية أهمها مفاعل ديمونة في جنوب فلسطين المحتلة، حيث تبلغ طاقته 24 ميغاواط.
وللمفاعل المذكور قدرة كبيرة على إنتاج البلوتونيوم بمقدار تسعة كيلوغرامات سنويًّا، بحيث تكفي لإنتاج قنبلة ذرية بقوة تفجيرية قدرها 20 كيلوطن، وهي نفس القوة التفجيرية للقنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة ناغازاكي اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية.
ويلحظ المتابع أن للولايات المتحدة الأميركية دورا محوريا وأساسيا في دعم إسرائيل وامتناعها عن التوقيع على معاهدة منع انتشار السلاح النووي، وقد سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى عدم مطالبة إسرائيل بالتوقيع على تلك المعاهدة.
بل ذهبت تلك الإدارات -بما فيها إدارة جورج بوش الابن- إلى أبعد من ذلك، حيث أشارت أكثر من مرة إلى تفهم الولايات المتحدة لامتلاك إسرائيل أسلحة غير تقليدية، وثمة إشارات وتصريحات من بعض أركان إدارة باراك أوباما تمّ التأكيد من خلالها على العلاقات الإستراتيجية مع إسرائيل بما فيها العلاقات العسكرية.
ومع استمرار التوجهات الأميركية الداعمة لإسرائيل في عدم التوقيع على منع انتشار الأسلحة النووية،فإن أمن منطقة الشرق الأوسط سيتعرض لخطر كبير، وسيفسح ذلك المجالَ لدول عديدة لامتلاك تلك الأسلحة.
ولهذا باتت الضرورة تتطلب أكثر من أي وقت مضى التركيز على السلاح النووي الإسرائيلي والمطالبة بنزعه، وإجبار إسرائيل على الانصياع للتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة غير التقليدية في أسرع وقت ممكن، حيث إنها تشكل خطراً زاحفاً على المنطقة برمتها.
نبيل السهلي
الجزيرة