خلال زيارته التي قام بها إلى إسرائيل مؤخراً، صنع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أقوى صلة علنية حتى الآن بين مبادرتين مهمتين: إحياء السلام الإسرائيلي-الفلسطيني؛ وخلق تحالف إسرائيلي-عربي لمواجهة إيران. وفي اجتماعه الرئيسي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال ترامب كلاماً مرتجلاً عن الدور المحتمل للملك السعودي سلمان في التوسط لاتفاق سلام، قائلاً إن الملك “سوف يحب رؤية سلام مع إسرائيل والفلسطينيين”.
في قلب هذه الأجندة، ثمة استراتيجية “من الخارج إلى الداخل” لإنعاش المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية. وسوف تكون المفاوضات مرتبطة بتطور تحالف شرق أوسطي أوسع لمعارضة توسع نفوذ إيران المتواصل في الشرق الأوسط، والتحضير ليوم الحساب عندما ينتهي أمد الاتفاق النووي.
وفي الأثناء، يقال إن الفكرة الكبيرة لإدارة ترامب تقوم بشكل أساسي على أن البلدان العربية ذات الأغلبية السنية يمكن أن تقوم بتشكيل تحالف على غرار حلف الناتو. ويمكن أن تكون لهذا التجمع عندئذٍ علاقة تعاونية أقل رسمية، وإنما تعاونية إلى حد كبير مع تركيا. والأهم من ذلك كله هو أنه يمكن أن ينخرط في تنسيق وتعاون يعتد بهما مع إسرائيل، لتشكيل تكتل إقليمي موحد ضد أي عمل إيراني سيئ إضافي، أو سعي إلى الهيمنة.
سوف يكون القصد من خلق توافق استراتيجي جديد بين العرب وإسرائيل -واحد يقدم للأخيرة شرعية إقليمية واعترافاً ودوراً رئيسياً جديداً في جبهة موحدة ضد عدوها الأزلي، إيران- هو تزويد إسرائيل بحافز جديد للتصالح مع فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة. وفي المقابل، سوف تقوم إسرائيل والدول العربية بمنح الفلسطينيين غطاء سياسياً ودعماً دبلوماسياً ومساعدات اقتصادية للمساعدة في تقديم التنازلات الضرورية لإبرام اتفاق سلام نهائي.
من الناحية النظرية، تبدو هذه فكرة كبيرة. وهي النهج الوحيد الذي يطرحه أي أحد في سنوات عديدة، والذي ربما يكسر طوق الجمود وينطوي على عرض سيناريو “كسب-كسب-كسب” لإسرائيل، والفلسطينيين، والدول العربية. وهناك أدلة على أن إسرائيل، وبعض البلدان العربية الرئيسية والفلسطينيين قد يكونون منفتحين على مثل هذه الدينامية -إذا ما قُدر لها أن تقلع أبداً عن الأرض.
لكن صانعي السلام المستقبليين المحتملين لا يجب أن يكون بصدد الاستعداد لالتقاط صورهم في حديقة البيت الأبيض بعد. فما تزال العوائق الدبلوماسية والسياسية في المنطقة مثبطة على الأقل بقدر ما هي المكاسب مغوية.
يكمن التحدي الرئيسي في من هو الذي سيذهب -أو ربما الذي سيرمش- أولاً. وتمتلك إسرائيل أصلاً معاهدات سلام مع مصر والأردن. وبذلك يكون اللاعبون الحاسمون في الجانب العربي هم السعودية والإمارات العربية المتحدة، وأي بلدان عربية أخرى يستطيعان جلبها معهمما. ولعل أكثر تطور واعد هو مسودة “ورقة بحث” تقوم بتوزيعها كل من السعودية والإمارات، والتي تصف طائفة من إجراءات بناء الثقة بين إسرائيل والبلدان العربية. وتتضمن هذه الإجراءات إيماءات مثل الاتصالات الهاتفية وإقامة علاقات تجارية وطيران مع إسرائيل، في مقابل خطوات إسرائيلية تجاه الفلسطينيين، مثل الحد من النشاطات الاستيطانية أو تخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة.
ما يزال موقف الاتجاه العربي السائد متجسداً في “مبادرة السلام العربية” التي كانت السعودية قد طرحتها وتبنتها الجامعة العربية بالإجماع في العام 2002، ثم أعيد تأكيدها مرتين منذ ذلك الحين. وتقدم المبادرة بشكل أساسي وعوداً لإسرائيل بإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية طبيعية بالكامل مع البلدان العربية بمجرد أن تصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. وكانت إسرائيل قد رفضت المبادرة العربية منذ البداية. وترسل السعودية ودولة الإمارات الآن إشارات على أنهما مستعدتان لتحسين العلاقات مع إسرائيل وراء الشروط التي حددتها المبادرة العربية. وستكون إسرائيل حكيمة إذا هي أدركت أن ثمن التعاون الاستراتيجي مع البلدان العربية والاعتراف الإقليمي بشرعية الأمر الواقع لها، لم يكن أقل مما هو الآن في أي وقت مضى.
ربما يجد القادة الإسرائيليون إغواء في الاعتقاد بأنهم إذا انتظروا فترة أطول، فإن التنازلات المطلوبة منهم ستنخفض أكثر. وسيكون هذا خطأ. ولن تكون كلفة الروابط الدبلوماسية الطبيعي صفراً أبداً. وتظل هذه البلدان مقيدة بمواقفها الدبلوماسية والسياسية القائمة منذ وقت طويل، وبقيمها الأصيلة والتقييم النزيه للأثر السياسي المزعزع للاستقرار الذي يُحدثه الاحتلال المتواصل الذي بدأ في العام 1967 (والذي يدخل عامه الخمسين من دون أي نهاية في الأفق).
في الماضي، كان حدوث حركة رئيسية بين إسرائيل والبلدان العربية يتطلب اتفاقية على الوضع النهائي بين إسرائيل والفلسطينيين. ولعدد من الأسباب، خاصة الحذر المتبادل من إيران -لم يعد هذا واقع الحال. والمطلوب الآن هو إحراز تقدم يستطيع بث حياة جديدة في الآفاق طويلة الأمد لحل الدولتين. وكلما اتخذت إسرائيل خطوات أخرى زادت الخطوات التي تستطيع البلدان العربية أن تتخذها في المقابل. وفي ظل الظروف الراهنة، ربما يكون أفضل سيناريو هو التوصل إلى نوع من اتفاق مؤقت يبقى على سيطرة إسرائيل الأمنية الكاملة، بينما يحد أيضاً من النشاط الاستيطاني الإسرائيلي ومن وقائع الاحتلال الآخر، بالإضافة إلى توسيع الامتيازات الفلسطينية ومناطق سلطته.
يبدو أن ترامب يدرك أن هذا النوع من الاتفاقية الجزئية هو أفضل ما يمكن تأمينه، وهو ما قد يكون السبب وراء عدم تطرقه إلى ذكر حل الدولتين أو الاستقلال الفلسطيني. وإذا كان يهدف فعلاً إلى تحقيق اتفاق مؤقت -والذي سيكون في الحقيقة أول تقدم رئيسي يتم إحرازه منذ العام 1993، والذي لن يكون بذلك شيئاً قليلاً- فإنه وصفه بأنه “سلام” سيكون متساوقاً مع أسلوب “الغلو الصادق” الذي يستخدمه للتوصيف من خلال المبالغة.
سوف يكون مثل هذا الاتفاق بالكاد مثالياً بالنسبة للدول العربية. لكن من المؤكد أنه سيكون كافياً للسماح بقدر أكبر من التعاون مع إسرائيل. وحتى إعادة إحياء العملية نفسها، ناهيك عن إبرام اتفاق مؤقت، قد يسمح باتخاذ خطوات كبيرة. وبالنسبة للفلسطينيين، يبدو الأفق أكثر إيلاماً -لكن الخيار قاتم أيضاً.
لا شيء من هذا هو ما يريده الفلسطينيون الذين يريدون دولة فلسطينية تحل محل الاحتلال. وبالإضافة إلى ذلك، يقدم لهم احتمال التوصل إلى اتفاقية مؤقتة خياراً مقيتاً، لكنه مألوف. وهذا أمر مفهوم تماماً: تبدو خمسون عاماً من الاحتلال و24 عاماً من اتفاقيات أوسلو، وكلاهما كان يفترض أن يكون مؤقتاً، دائماً بشكل تطرف. ومع ذلك، وكما حدث كثيراً في الماضي، قد تُعرض على الفلسطينيين طائفة صغيرة جداً وغير مرضية بشكل كبير من المكاسب المحدودة، والتي تأتي كلها بثمن مُصاحِب. أو أنهم قد يرفضون ما يعرض عليهم ويتمتعوا بما لديهم أساساً الآن، وهو ما يرقى إلى لا شيء.
يبدو هذا لغزاً مثيراً للأعصاب. لكنه ينطوي على جواب عقلاني واحد: هو “نعم” مغيظة ومثيرة للسخط. سوف يجبر الفلسطينيون على المقارنة بين فرصة عقد صفقة وبين الوضع الذي كانوا عليه قبل شهور قليلة. وقد وجدوا أنفسهم في الأعوام الأخيرة معزولين ويتم تجاهلهم، وينتابهم قلق عميق من أن تكون قضيتهم قد أهملت -وليس من جانب المجموعة الدولية وحسب، بل وأيضاً من جانب العالم العربي. والآن، فجأة مع ترامب، يعودون إلى دائرة الضوء، على الأجندة وفي اللعبة.
بالنسبة لعباس وحلفائه القوميين العلمانيين، يشكل هذا كله هبة سياسية إلهية. إنها لا تحيي آمالهم بإمكانية أن تحرز استراتيجيتهم الدبلوماسية نتائج ملموسة فحسب، وإنما تعيد أيضاً تأكيد دورهم على المسرح الدولي والإقليمي. وكل ذلك يضيف إلى حافز قول نعم –على الرغم من كل التحفظات الواضحة.
قد يكون تحويل إسرائيل أكثر صعوبة. وقد أعرب نتنياهو عن الحماس لوجود علاقات أقوى مع البلدان العربية -لكنه متشكك إلى حد كبير فيما يتعلق بالتوصل إلى اتفاقية أوسع مع الفلسطينيين. ولو أنه يُترَك وحده، فإن أفق إقامة علاقات أقوى مع السعودية والإمارات قد يحفزه على تقديم تنازلات. لكن بعض شركائه في الائتلاف، وخاصة نفتالي بينيت من حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف، ينتظرون للقفز على أي تحركات قد يقدم عليها تجاه الفلسطينيين. وتعتمد فرص بينيت بعيدة الأمد على تحدي نتنياهو من يمينه، إلى حد كبير عبر إدانته بالتنازل عن طموحات إسرائيل وأمنها في الأراضي المحتلة. وتقوم ستراتيجية نتنياهو لمنع ذلك على إبقاء بينيت قريباً في المجلس الوزاري -لكنه إذا أراد التحرك في الاتجاه الذي يدفعه إليه ترامب، فإن عليه أن يسمح لبينيت بمغادرة المجلس الوزاري لصالح مجموعات الوسط أو يسار الوسط. وقد يجد نتنياهو المناهض للمخاطرة بشكل عميق نفسه أمام الخيار الذي لا يحسد عليه، والمتمثل بتحدي الرئيس الأميركي الذي أمل أن يكون أقوى حليف له، أو المخاطرة بأن يلتف عليه من اليمين منافسون أقوياء.
تذهب هذه المعضلة الإسرائيلية إلى قلب السبب في أن هناك مثل هذا الجمود في العملية السلمية -والسبب الذي قد يجعل نهج مقاربة “من الخارج إلى الداخل” يعمل. في ظل الظروف الراهنة، يشعر معظم الإسرائيليين بالقليل من الألم في الوضع القائم، بينما يفتقر الفلسطينيون إلى أي شيء يمكن أن يحملهم على دراسة التنازل. لذلك، يبدو من غير العقلاني بالنسبة لمعظم الإسرائيليين اليهود وساستهم خوض أي مخاطر سياسية أو متعلقة بالأمن القومي. ويؤدي جلب العرب والمكون الإقليمي إلى داخل العملية الإسرائيليين بالسياق الأوسع -بما في ذلك التهديد من إيران والمزايا العديدة التي ستأتي من الاعتراف والتعاون الأكبر من جانب العالم العربي.
مع ذلك، ربما يرقى التحدي الأكبر إلى سؤال الدجاجة والبيضة: أيهما ستأتي أولاً؟ هل ستتحرك إسرائيل إلى الدخول في عملية جادة مع الفلسطينيين على أمل إقامة علاقات أقوى مع العرب؟ أم أن البلدان العربية ستشرع في بناء المزيد من التعاون المفتوح والقوي مع إسرائيل على أمل أن يكون الإسرائيليون أكثر تعاوناً في شأن السلام. لكن من غير المرجح أن يتحرك أي من الطرفين حسب المواصفات.
وهنا حيث يصبح عامل ترامب حاسماً. وتستطيع واشنطن دفع الجانبين معاً، لكن العملية ستنطوي على بعض المصاعب. وقد يتطلب الأمر تقديم الجزر والعصي على حد سواء للإسرائيليين، وهو ما قد يأتي بثمن سياسي في الوطن، وخاصة في صفوف الجمهوريين. ولتحريك الدول العربية، ربما تعمد الولايات المتحدة إلى عرض بعض التقدم الحقيقي على صعيد كبح نفوذ إيران في بلدان مثل سورية والعراق واليمن ولبنان. ويبقى موضع تساؤل كبير ما إذا كان هذا متساوقاً مع أجندة ترامب “أميركا أولاً”، أو النفور الشديد بين الأميركيين من احتمال جرهم مجدداً إلى مزيد من الشؤون الشرق أوسطية شديدة التعقيد.
لإنتاج هذه القنبلة المدمرة للتحصينات، سوف يحتاج ترامب، رجل تلفزيون الواقع السابق، إلى صياغة نص للإسرائيليين والفلسطينيين والعرب، والذي يجمع بطريقة ما بين -دعونا نعقد صفقة- مع فكرة “الثمن مناسب”. وحتى لو استطاع إنتاجها، فإنها لن تكون حقاً تلك “الصفقة النهائية” كما درج على وصفها. لكنها ستكون قريبة بما فيه الكفاية.
حسين آيبش
صحيفة الغد