بعد يومين تحل الذكرى الخمسون لهزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967. إنها الحدث الذي كان الامتحان الأكبر للأنظمة العسكرية والراديكالية التي ظهرت في المنطقة بوصفها الرد على هزيمة 1948. هزيمتها كانت أفدح من هزيمة سابقتها، ليس فقط بسبب الفارق في مساحات الأرض التي احتُلت وأعداد البشر الذين خضعوا للحكم الإسرائيليّ، بل أيضاً لسبب آخر أهم: ففي 1948 كانت الدول العربية المستقلة قد استقلت لتوّها. جيوشها كانت لا تزال صغيرة وضعيفة، والكثير منها كانت لا تزال تربطه اتفاقات تسليح وتدريب مع البلدان الاستعمارية والانتدابية السابقة. وكذلك، هي كانت ذات صوت إيديولوجي خفيض وادعاءات تحريرية متواضعة.
هذا كله بدأ يتغير نوعياً مع ثورة 23 يوليو 1952، وخصوصاً مع «انتصار» جمال عبد الناصر في 1956 في «حرب السويس» والهالة العربية التي بات يتمتع بها حينذاك، والتي تأدى عنها قيام الوحدة المصرية- السورية و«الجمهورية العربية المتحدة» في 1958.
الوجهة التي بدأت تشق طريقها من مصر عام 1952 ما لبثت أن تعززت بانقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في العراق عام 1958، ثم بانقلابي حزب «البعث» في العراق وسوريا عام 1963.
الجيوش العربية، في هذه الغضون، كانت قد كبرت وتضخّمت. وعلاقاتها العسكرية والتقنية بالبلدان المستعمِرة كانت قد انقطعت تماماً، والبلدان المحاربة التي حكمها العسكر باتت تتزوّد، سلاحاً وتدريباً وعقيدةً عسكريةً، من الاتحاد السوفييتي. الصوت الإيديولوجي الناصري، وخصوصاً البعثي، كان مرتفعاً جداً، والآمال الممنوحة للجماهير البائسة خلت من كل تواضع.
في هذا المعنى، لا تنفصل هزيمة 1967 عن التحطيم الذي أنزلته الأنظمة العسكرية- العقائدية بمجتمعاتها عاماً بعد آخر: تدمير التعليم، تأميم الصحافة، حل الأحزاب، تعطيل البرلمان، هجرة الكفاءات.
لقد كتب عدد من المثقفين العرب البارزين الذين حللوا «نكسة» 1967 وعلقوا عليها بأن الحياة العربية هي التي هُزمت في سائر أوجهها حينذاك، وليس الأنظمة الحاكمة والجيوش وحدها. فالبنية الفكرية والثقافية كانت، بحسب المثقف السوري الراحل ياسين الحافظ، أكثر تردياً وتخلفاً من البنية العسكرية. وهكذا فإن مسؤوليتها أكبر.
وتصورٌ كهذا تنطوي نقديته على الكثير من عناصر الوجاهة، إلا أنه يقفز فوق حقيقة بالغة الأهمية: إنها دور الأنظمة السياسية في تشكيل البنية الثقافية والفكرية وفي تكييفها، وبالتالي في تردّيها. فمعروف جداً كم كانت الأنظمة الناصرية والبعثية تدخلية في ما خص الأنشطة التي يُفترض أن تتركّز خارج نطاق الدولة وسيطرتها، وأن تستقل عنهما.
هذا لا يعني بالضرورة أن الأنظمة الاستبدادية لا تستطيع أن تكسب حرباً، بدليل أن الاتحاد السوفييتي في العهد الستاليني انتصر في الحرب العالمية الثانية. كذلك هو لا يعني بالضرورة أن أنظمة تحترم إرادة شعوبها وتُقرّ بحرياتها لابد أن تنتصر في جميع حروبها. لكن المؤكد، بين هذين الحدين الأقصيين، أن الشعوب الحرة التي تمارس السياسة وتنتقد وتعترض وتناقش تبقى أقدر على مواجهة الأسئلة المصيرية من الشعوب التي يُفرض عليها الإذعان والتصفيق.
لقد انقضى نصف قرن على الهزيمة العربية الكبرى، ولا تزال مسألة الحرية أمّ المسائل في العالم العربي. ويُخشى، بعد النتائج السلبية التي أفضت إليها الثورات العربية، والضربات التي أصابت الطلب على الحرية، أن نكون قد ابتعدنا أكثر عن الشروط التي تحول دون هزائم مُرّة كهزيمة 67.
حازم صاغية
صحيفة الاتحاد