التوصيف التاريخي
بعد مئات السنين، تزول هذه المنارة العالية المنحنية نحو الشرق، والتي اعتبرت الأعلى في العالم الإسلامي عبر تاريخ طويل، إذ وصل ارتفاعها إلى أكثر من 50 مترا منذ مئات السنين. ويعد جامعها النوري الكبير من جوامع العالم القديمة، بناه الأمير نور الدين زنكي في عام 1172- 1173م، أي قبل 850 سنة، وهو ثاني جامع يُبنى في الموصل بعد الجامع الأموي في الكوازين الذي بني بعد فتح الموصل في عام 17هـ/ 638 م، وقد أعيد إعمار الجامع النوري عدة مراتٍ، كانت آخرها عام 1363هـ/ 1944م.
الأمير نور الدين هو الابن الثاني لمؤسس الدولة الزنكية، عماد الدين زنكي، الذي قام بتأسيس أتابكيته في الموصل، أما ابنه فقد تحوّل إلى بلاد الشام التي كانت تعاني طويلا من الصليبيين ومن الفتن الداخلية. وقد اقترنت الموصل الأتابكية بعهد تاريخٍ مزدهر بثقافاتها وصناعاتها وعمارتها ومنتجاتها وتعايش مجتمعها وكثرة القادمين والزائرين لها، ما جعل الجامع على مرأى ومسمع العالم كله.
حكم نور الدين زنكي (511 – 569 هـ / 11 فبراير 1118 – 15 مايو 1174) موسعّا إمارته تدريجياً، كما ورث عن أبيه مشروع محاربة الصليبيين، والقضاء على الفتن المهلكة في بلاد الشام، ونشأ السلطان صلاح الدين الأيوبي في قصره، وهو الذي أرسله نور
الدين وزيراً في مصر التي كانت تعاني من انهيار الحكم الفاطمي وهجمات الصليبيين عليها، فكان أن أسس صلاح الدين دولته الأيوبية هناك، وقاد جيشه لتحرير القدس وقلاع أخرى في بلاد الشام، وعدّه الدارسون والمستشرقون والمؤرخون من أعظم القادة في التاريخ.
يتوّسط الجامع النوري الكبير، بمنارته الطويلة ومآذنه العديدة، قلب الموصل القديمة، وقد زاره رحالةٌ وبلدانيون وآثاريون ومستشرقون وسفراء ورؤساء دول عديدون، ومنهم من صلى فيه.. والجدير بالذكر أن زعيم تنظيم داعش الدموي الملقب “أبو بكر البغدادي”، قد أعلن الخلافة من على منبر هذا الجامع، وخطب الجمعة في 6 رمضان 1435هـ / 4 يوليو/ تموز 2014 م. وبعد ثلاثة اسابيع، بدأ “داعش” مشروعه الهمجي بنسف جوامع النبي يونس والنبي شيث والنبي جرجيس وغيرها من الأضرحة والمقامات والنصب، وأقدم على تفجير الجامع النوري ومنارته الحدباء، لكن بعض أهالي الموصل تصدّوا لهم، ومنعوا المسلّحين من القيام بذلك، باعتصامهم في الجامع الكبير الذي تعرّض للقصف مرات في معركة الموصل (2016–2017)، ما هدّد بانهيار المنارة، وفي يوم 25 رمضان 1438هـ 21 يونيو/ حزيران 2017 م دُمر الجامع ومنارته الحدباء بعد تفجيرها.
رمز تاريخي
وصف الرحالة ابن بطوطة الجامع الكبير ومنارته وصفاً دقيقاً، وهو أول من سماها الحدباء، في القرن الرابع عشر، إذ كتب إثر زيارته الجامع: “بداخل المدينة جامعان، أحدهما قديم، والآخر حديث. وفي صحن الحديث منهما قبةٌ في داخلها خصة رخام مثمنة، مرتفعة على سارية رخام، يخرج منها الماء بقوة وانزعاج، فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس، فيكون له مرأى حسن”. أما المؤرخ ابن الأثير فأكد أن نورالدين أمر ابن أخيه فخرالدين ببناء الجامع، وأن نورالدين جاء إلى موقع الجامع لتفقده، وأمر بمصادرة الأراضي المحيطة به، بعد تعويض مالكيها تعويضا مجزيا. أما الرحالة الإنكليزي، غراتان جيري، فقد زار الموصل في القرن الـ 19، وقال عن المئذنة الحدباء “إنها تميل عن الزاوية القائمة بعدة أقدام، على الرغم من أنها تنتصب من الأرض بشكل سليم، كما تسترد استقامتها عند قمتها، شكلها يشبه رجلا وهو ينحني”.
كان هذا الجامع قد دمّره المغول عام 660 هـ / 1260م، ولكن المنارة بقيت شاهقة وصامدة تتحدّى كلّ الفجائع.. وقد رمّم الجامع ومنارته عدّة مرات، حيث بقيت ثابتة لم تتزعزع منذ مئات السنين. وتمّ تفسير ميلان المنارة نحو الشرق بعدة تفسيرات أسطورية، فقال بعضهم إنها انحنت إكراما وإجلالا للرسول محمد، عندما عرج إلى السماء (كذا)! أما المسيحيون في الموصل فقالوا إنها اتجهت شرقا نحو قبر السيدة مريم العذراء الموجود قرب أربيل! وقدّر الميلان بـ 253 سم قبالة محور عمودي. وعليه، لم تكن المنارة مستقرّة منذ قرون خلت، ما كان يشكّل مصدر قلق بسقوطها يوماً، ولكنها صمدت قرابة ثلاثة عصور (900 سنة). لم تسقط، بل انهارت اليوم، بفعل تفجيرٍ بالألغام عمداً وعن سبق إصرار. وعليه، يتحمل من فعل ذلك مسؤولية جريمته التاريخية. والمؤكّد أن المنارة التي عاشت تسعة قرون كانت ستعيش طويلا لو تمّت صيانتها دوليا بإشراف من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) التي اعتبرتها من عشرة أماكن تاريخية في العالم بحاجة إلى ترميم.. وكانت “يونسكو” قد بدأت عملها منذ يونيو/ حزيران 2014 للحفاظ على هذا الرمز الحضاري، لكن المدينة احتلتها “داعش” بعد أيام.
حكاية التاريخ الأتابكي
عندما زار نور الدين زنكي الموصل، أنجز عدة إصلاحات فيها، منها الأمر ببناء جامع جديد وكبير، لحاجة الناس إليه، إذ لم يعد الجامع الأموي القديم يتسع، إثر ازدياد نفوس الموصل. كتب ابن خلكان في “وفيات الأعيان”، نقلا عن العماد الأصبهاني في كتابه “البرق الشامي” أن أحد شيوخ نور الدين، واسمه معين الدين عمر الملاء، وهو من الزّهاد الصالحين، قد اقترح
على سيده بناء هذا الجامع، فوكّله لصلاحه وزهده ونظافة يده، فأنفق أموالا طائلة وأتم بناءه في سنتين، وأوقف عليه إحدى ضياع الموصل. وقد حدثني المؤرخ الراحل الذي اشتهر بكتبه عن تاريخ الموصل، سعيد أفندي الديوه جي، رحمه الله، وكان قد ألف كتابا عن الموصل في العهد الأتابكي، قال إن اسم الملاء جاء من ملئه التنانير بالآجر. ويعود الفضل إليه في بناء هذه المنارة، خصوصاً أنها بنيت على مراحل بالآجر، ومن النورة (مادة بناء تستخدم في صنع أنواع من الملاط والشيد والطلاء. وهي مادة كيميائية “هايدروكسيد الكالسيوم” قلوية بشكل مسحوق أبيض اللون)، وكانت تخلط بالبيض، وقد استخدم الملايين من بيض الدجاج كي يتماسك الآجر، ويغدو صلبا جدا بعد البناء.. باشر الشيخ عمر بناء الجامع سنة 566 هـ. وكان يملأ تنانير النورة بنفسه، وبقي يشتغل في عمارة الجامع ثلاث سنوات، حتى انتهى منه سنة 568 هـ. وقد ألحق بالجامع مدرسةً، عرفت بمدرسة الجامع النوري.
شهدت الموصل نهضة عمرانية وفنية وإنتاجية واسعة على عهد الأتابكة الزنكيين، وكان لمنارة الحدباء طرازها الفريد، إذ اشتهرت بالزخارف الجبسية، والمحراب قديم جدا، وكان محفوظا حتى عام 2003 في متحف القصر العباسي ببغداد. وقد تأثر طراز المآذن عصرذاك بالنمط الفارسي السلجوقي، كما حال منائر أربيل وماردين وسنجار، وبالذات المنارة المظفرية في أربيل. استخدمت أعلى فنون البناء في منارة الحدباء التي زركشت بأنواع الفنون عهد ذاك، وبنيت دواخلها بأسلوب مغاير. تتألف المنارة من قسمين، أحدهما أسطواني في الأعلى، يقوم على قسم آخر منشوري. ويشتمل الأول على سبعة أقسام زخرفيه أجرية نافرة مرتبة حلقات. وللمنارة مدخلان يصل كل منهما إلى درجٍ إلى الأعلى، من خلال سلمين يعلوان في باطن المنارة وبنيا بشكل حلزوني، منفصلان، يلتقيان عند منطقة الحصن في الأعلى، فالصاعد إلى الأعلى لا يرى النازل إلى الأسفل، وكان الهدف الأساسي من ذلك تخفيف ثقل المئذنة الكبير على القاعدة.. وهذا لا نجده إلا نادرا. من نجح في الصعود إلى أعالي صحنها الأعلى هالته إطلالتها على مدينة الموصل قاطبة. عاد نور الدين زنكي إلى الموصل سنة 568 هـ لافتتاح جامعه وصلى فيه، وأوقف عليه عدة أوقاف، منها “العقر الحميدية” و”قيسارية الجامع النوري” و”أرض خبرات الجمس”. كانت تكلفة بناء الجامع غير معروفة، ولكنها تراوحت بحدود ثلاثمائة ألف دينار. وكتب ابن كثير في “البداية والنهاية” إن أول مدرس في المدرسة كان أبي بكر البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي.
كثرت الآراء بشأن احتداب المنارة وانحنائها نحو الشرق، فثمة من قال إنها حدثت بسبب هبوب الريح الغربية في الموصل، حيث تؤثر الرياح الهابّة على الآجر والجصّ المبنية منه المنارة، فكان أن أدّت إلى ميلانها شرقا.لا أميل إلى هذا الرأي، فقد وجدها ابن بطوطة حدباء منذ زيارته لها. وثمة من يقول إنها بسبب تغيراتٍ في درجة الحرارة، وحدوث تفاوتٍ في أسس بناء المنارة، مع تفاسير أخرى، إذ لا يُعلم السبب الحقيقي في حدوث هذا الميلان أو الاحتداب.. وكان هاجس الانهيار واردا، بسبب زيادة نسبة المياه الجوفية واهتراء القاعدة، إذ أدرجت مؤسسة الصندوق العالمي للآثار والتراث في قائمة الأكثر مائة أثر مهدّد في العالم.
وبعد مرور أقل من مائة سنة على التأسيس، جاء الاحتلال المغولى للموصل 660 هـ/ 1260م بقيادة سنداغو الذي خرّب الجامع وأهمله، لكن منارته بقيت قائمة، بعد أن دُمرت الموصل تدميرا شبه كامل.. وفي سنة 1146هـ / 1733م، تولى الوزير الحاج حسين باشا الجليلي ولاية الموصل، واهتم بالجامع النوري، وفي عام 1150 هـ/ 1737م، انتشر في الموصل طاعون شديد، مات فيه كثيرون من أهلها. وفي السنة نفسها، أعيد إعمار الجامع وتنظيفه. وفي أثناء حصار الموصل من نادرشاه عام 1156ه/ 1743م، رشقت الموصل بآلاف القنابل، ولكن لم تصل واحدة منها إلى المنارة العالية فبقيت سليمة. وحاول محمد بن الملا جرجيس القادري النوري ترميم الجامع، واتخذ له في الجامع تكية عام 1281هـ / 1864م.
الجريمة التاريخية
كتبت مراسلة صحيفة واشنطن بوست، لوفيداي موريس، إن المنارة تحولت أنقاضاً بعد أن ظلت رمزا تاريخيا منذ مئات السنين.. وأن تفجير الجامع النوري الكبير ومنارته الحدباء تمّ والقوات العراقية على بعد 50 ياردة من المكان. ويظهر فيديو لقيادة العمليات المشتركة في العراق انفجارا هائلا في الجامع. وادّعت وكالة أنباء أعماق التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية
(داعش) أن الجامع برمته قد دمرته غارة جوية أميركية، وهو ما نفاه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، إذ قال قائد القوات البرية للتحالف، الجنرال جوزيف مارتن، في بيان “هذه جريمة ضد شعب الموصل وكل العراق.. ومسؤولية هذا الدمار وضعت في رقبة داعش”. وكانت داعش، عند احتلالها الموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014، قد هدّدت بتفجيره، عندما قامت بتفجير عدة جوامع ومراقد لأنبياء وأولياء، ولكن عشرات من الناس اعتصموا فيه ورفضوا الخروج منه، محتجّين على هذا التصرّف الذي جاء بعد شهر على إعلان “الخلافة” المزعومة من قلب هذا الجامع.. ويبدو أن مشروع “داعش” كان قد تأجل في وضع نهاية حقيقية للمنارة بالذات.
قصة الأمس واليوم
عندما تهدمت أجزاء من منارة الجامع النوري الكبير الحدباء في الموصل في سنة 1940، طلبت الحكومة العراقية من عبودي الطنبوره چي (أو الطمبوغه چي بلهجة أهل الموصل)، وهو أشهر بنّاء ومعماري في الموصل في القرن العشرين إصلاح ما كان قد تهدّم، وإعادة بناء أجزاء ما تهدم، خصوصا أنها في مكان عال وله خطورته. وافق وجهز العدة والعدد، وقد أنزلوه من أعلى المنارة بصندوق خشبٍ مربوط بحبال قوية، وأكمل بناء الجزء المهّدم، وأعاد النقوش إلى حالتها الأولى والناس متجمعة في الأسفل تترقب متخوفة، وقد أكمل مهمته ونزل.. فتقدّم متصرف الموصل شاكرا له صنيعه، وسأله عن أجوره في ما قام به، فأجابه الطنبورجي: هذا جامع، وهو من بيوت الله، وأجري عند الله، علما أن المعمار عبودي الطنبوره چي مسيحي موصلي. وهذه قصة حقيقية شهيرة، يردّدها الناس دلالةً على قوة التعايش بين المسلمين والمسيحيين في الموصل قديما.
في عام 1401هـ/ 1981م، حاولت شركة إيطالية تثبيت المنارة، بسبب تسرّب المياه في جوف قاعدة المنارة، ما أضعف بنيتها، وزاد احتدابها حوالي 40 سنتيمترا. كما جرت محاولة أخرى لوزارة السياحة والآثار العراقية لترميم المنارة، بضخ كميات من الإسمنت المسلح إلى قاعدتها للحفاظ عليها، وكانت مجرّد حلّ مؤقت، ولكن مخاطر انهيارها كانت قليلة، وربما كانت ستعمّر طويلا، لو جرت استعادة بنيوية كاملة لهياكلها الداخلية والخارجية. ولكنها ذهبت ضحية لا تقدر بأي ثمن، بعد تفجيرها ظلما وعدوانا، وجريمة تاريخية لا يمكن أن يغفرها التاريخ أبدا.
تمّ التفجير يوم الأربعاء 21 يونيو/ حزيران. وكان مقرّراً أن يتم تحرير الجامع الكبير يوم الخميس، ما يعني أن استعادة الجامع النوري الكبير سليما من الجيش كانت سيعدّ ضربة هي الأكثر رمزيةً في القضاء على “داعش” في معقلها نهائياً، فكان أن تمّ التفجير قبل ساعات من اقتحامها.. وقد ثارت شكوك، ولم تزل بشأن المسؤول الفعلي عن تدمير هذا الصرح، ليس لأنه مجرّد مئذنة عادية، بل لأنه كان وسيبقى رمز مدينة عريقة اكتسبت اسمها منه. ويمكن القول إن المستقبل سيكشف أوراقا جدّ خفية عمّا جرى في تلك اللحظات الصعبة، وستتضح الصورة الحقيقية للجريمة عن الفاعل، ومع من جرى تعامله، ما صلته بجماعات معيّنة أو دولة ما، أو جهات لها مصلحة حقيقية في سحق الموصل ورموزها التاريخية والحضارية.