لم يغب أبداً واقع ضرورة قدوم يوم الحساب في نهاية المطاف. فعندما بدأ الرئيس أوباما الحرب ضد “داعش” في العام 2014 –في خطوة متأخرة، لكنها ضرورية، لوقف هجوم “داعش” المباغت على عموم العراق- كان ثمة سؤال يلوح في الأفق: ثم ماذا؟ عندما نلحق الهزيمة بـ”داعش” في العراق وسورية، ما التالي؟ في الوضع المثالي، سوف يهزم تحالف الولايات المتحدة أكثر إرهابيي العالم شراسة، وعندها ستتوفر للأطراف المتحاربة في سورية الفرصة للتوصل إلى تسوية سياسية وسوف تنتهي حرب الإبادة الأهلية في نهاية المطاف.
لكن المثاليات عندما تواجه الكراهية والاضطرابات في الشرق الأوسط، فإنها تمنى بالخسارة. وهكذا، وبدلاً من التحديق في السلام في الوجه، فإننا لسنا بصدد رفع منسوب خطر حدوث مواجهة مباشرة ومستمرة مع سورية (وحليفتها الرئيسية روسيا) وحسب، وإنما نتقدم نحو غزو مباشر واحتلال متمدد لشمالي سورية. وكل ذلك يتم من دون موافقة الكونغرس ومصادقته. وهو يتم من دون نقاش عام يعتد به. ولفهم المخاطر المحدقة في الأمام، من المهم أن نفهم أين نقف. وأمام خطر المبالغة في تبسيط الأمور، دعونا نقسم تورط أميركا العسكري في سورية إلى ثلاث محطات رئيسية تعكس التطور التدريجي للصراع.
مثلت المرحلة الأولى الانتشار الطارئ للقوة العسكرية لمنع انهيار كل من حلفائنا الأكراد في العراق والحكومة المركزية العراقية في بغداد. وفي أوج هجوم “داعش” المباغت في صيف العام 2014، كان هناك قلق فعلي من احتمال أن تمنى أميركا بكارثة عسكرية لا تختلف عن كارثة سقوط سايغون، سوى أن غزاة “داعش” هم أكثر تعطشاً لإراقة الدماء وأكثر خطراً مباشراً على الأميركيين مقارنة بما كان عليه الفيتناميون الشماليون. وفي المرحلة الأولى، لم يكن هناك أي صراع مباشر مع نظام الأسد، لأن الأسد كان يترنح على الحبال ويكافح من أجل الحياة في مدن بعيدة عن مراكز قوة “داعش”.
في الأثناء، اشتملت حلبة الحرب الأهلية السورية على صراعات متعددة -الأسد في مقابل الثوار المدعومين أميركياً؛ والأسد في مقابل الجهاديين (حيث الخط بين الثوار المدعومين أميركياً والجهاديين غامض في الحقيقة)؛ والثوار في مقابل الثوار؛ و”داعش” في مقابل الجميع فعلياً؛ والائتلاف الذي تقوده أميركا في مقابل “داعش”.
بدأت المرحلة الثانية مع دخول فلاديمير بوتين الحاسم إلى حلبة الصراع. وكان المغفلون فقط هم الذين اعتقدوا بأنه جاء لقتال “داعش”. وفي حين كانت أهداف الولايات المتحدة ضبابية ومثالية نوعاً ما: (اضرب داعش واصنع السلام بطريقة ما)، كانت أهداف بوتين وحشية وبسيطة: (اسحق أعداء الأسد واكسب الحرب). وقد شرع في إنجاز أهدافه بفعالية لا تعرف الرحمة. وترك “داعش” وشأنها، وقام بدلاً من ذلك بقصف الثوار المدعومين أميركياً وقصف المليشيات الأخرى المعادية للأسد وسوّاهم بالتراب. وقد استقر وضع الجبهة تدريجياً. وتدريجياً كسب الأسد معارك رئيسية واستعاد مدناً رئيسية. وفي الأثناء، أحرز الحلفاء المدعومون أميركياً تقدماً في الشمال. وتقدمت المليشيات الكردية والعربية نحو تخوم الرقة –بفضل الدعم الأميركي على الأرض ومن الجو.
مع بدء انكماش “داعش” وانتصار الأسد في الجنوب والغرب، أصبح واضحاً أنه بدلاً من خليط الجيوش والمليشيات والصراعات، أصبحت الحرب الأهلية تسير نحو حل العقدة، حيث ثمة قوتان بارزتان وحسب تتنافسان على السبق وضبط ميزان القوى -النظام السوري المتحالف مع روسيا؛ والقوات المتحالفة مع الولايات المتحدة، التي تمسك بزمام الأمور في الشمال. ويجلبنا ذلك إلى المرحلة الثالثة، وإلى اليوم الحالي.
الآن، تواجه الأطراف المتحاربة الرئيسية على نحو متزايد خياراً صعباً -الموافقة على تقسيم الوضع القائم للبلد؛ أو الذهاب إلى صراع بين القوى الكبرى. وتسير الأمور على النحو التالي: بينما تواصل القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة وقوات نظام الأسد بثبات هزيمة وإضعاف أعدائها، تتوسع مناطق سيطرتها. وهكذا يرتفع احتمال حدوث صراع مباشر. وبينما تتقدم القوات الأميركية مع حلفائها المحليين، فإنهم يزيدون أيضاً من فرص وقوع المواجهات المباشرة مع قوات الأسد. ورداً على ذلك، يختبر الأسد التزام أميركا بالدفاع -ليس فقط عن قواتنا الخاصة، وإنما أيضاً (وهذا أيضاً مهم تماماً) عن حلفائنا أيضاً.
تظهر خريطة للصراع نشرتها صحيفة “الواشنطن بوست” واقع السيطرة على المناطق. وكانت القوات الأميركية قد انخرطت مع القوات السورية أربع مرات في الشهر الماضي، والتي كانت تهدد إما القوات الأميركية أو القوات المتحالفة معها. وكانت المواجهة الأكثر درامية قد حدثت عندما قامت طائرة أميركية مقاتلة من طراز أف/ إيه 18 بإسقاط طائرة حربية سورية بعد قصفها لقوات مدعومة أميركياً. وكان البيان الأميركي الرسمي كاشفاً: إن مهمة الائتلاف هي هزيمة “داعش” في العراق وسورية. ولا يسعى الائتلاف إلى قتال النظام السوري والقوات الروسية أو القوات الموالية للنظام المتشاركة معها. لكنه لن يتردد في الدفاع عن الائتلاف أو القوات الشريكة معه أمام أي تهديد.
دعونا نضع هذا القول بلغة واضحة. إن القوات الأميركية وحلفاء أميركا لا يستولون على الأراضي من “داعش” وحسب، بل إنهم سيحتفظون بتلك الأراضي ضد قوات النظام. وثمة كلمة تصف ما يحدث عندما تستولي قوة أجنبية وتحتفظ بأراض من دون موافقة ورضا الدولة صاحبة السيادة -وهذه الكلمة هي “الغزو”. وبعدة طرق، فإن السياسة الأميركية الراهنة هي موطئ قدم أخف، ونسخة أقل طموحاً من الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. فنحن نستخدم حلفاء محليين، لكن قواتنا موجودة على الأرض. ونحن ندافع مباشرة عن قواتنا وعن حلفائنا أمام التهديدات القادمة من حكومة سورية.
يساورني اعتقاد بأن استراتيجية لإلحاق الهزيمة والاحتفاظ بالأرض والتفاوض تشكل أفضل أمل للتوصل إلى حل مرضٍ للأزمة السورية. وبعبارات أخرى: اهزم “داعش”، وساعد حلفاءنا على الاحتفاظ بالأراضي التي استولوا عليها (بينما يتم بوضوح إبلاغ نوايانا لروسيا وسورية)، ثم تفاوض على حل دائم يحمي مصالحنا. وستكون روسيا والأسد غير عاقلين إذ حاولا إخراج الأميركيين بالقوة. كما أن الوضوح سوف يقلل من فرص حدوث صراع بين القوى الكبرى. وقد فات الوقت على إجراء تصويت حقيقي في الكونغرس حول الانخراط الأميركي في سورية. وكما هو واقع الحال، فإننا لم نعلن (علانية على الأقل) عن أهدافنا الاستراتيجية في سورية. ومن المعروف أن الغموض يولد الارتباك. والارتباك يزيد من خطر سوء الحساب. وبينما لا توجد بعد أزمة بين روسيا والولايات المتحدة، فإن خطر وقوع حادث مميت هو في تزايد. وبينما لا يشكل قرار روسيا اعتبار طائرة الائتلاف “أهدافاً” عندما تعمل طائرة التحالف غرب الفرات بينما تكون طائرات القتال الروسية في الفضاء بالضبط وعداً بإسقاطها، لكنه يرقى إلى مستوى التدليل على تزايد مأزقنا.
لقد فات الوقت على إجراء تصويت في الكونغرس على الانخراط الأميركي في سورية. وأي طرح لفكرة أن القرارات السابقة باستخدام القوة التي سرت على العراق أو تنظيم القاعدة تسري أيضاً على الصراع الحالي، إنما يتجاهل حقيقة أن تجد القوات الأميركية نفسها وهي تحتفظ بأراضٍ أجنبية في موقف معادٍ لسيادة دولة أجنبية. ولا يوجد أي طرح معقول يفيد بوجود أي تخويل راهن يسمح للقوات الأميركية باحتلال شبر مربع واحد من سورية من دون موافقة حكومتها. ولا يمكن تجاهل الدستور عندما لا يكون مواتياً، وليس القصور الذاتي بديلاً عن الاستراتيجية.
إن حرب أميركا الضرورية ضد “داعش” تتحول إلى غزو لسورية. وبالتعامل معه بالشكل الصحيح، يمكن أن يفضي هذا التطور إلى محصلة أفضل في الصراع (نحن بعيدون عن أي حل مثالي). لكن هذا التطور يتطلب نقاشاً عاماً وموافقة من الكونغرس. فالمخاطر كبيرة. ويلوح في الأفق احتمال تورط طويل الأمد. فدعونا نجري النقاش الذي يطلبه الدستور.
]ديفيد فرينش
صحيفة الغد