لقد ضاهى سقوط الموصل المدوّي في 9/6/2014 -من حيث المفاجأة التي أحدثها والتبعات التي ولّدها- سقوط نظام صدام في 9/4/2003.
وبينما رسّخ الانسحاب الأميركي عام 2011 دائرة النفوذ السياسي والاقتصادي لطهران في بغداد، بلورت خسارة حكومة المالكي لما يقارب ثلث أراضي العراق خلال أقل من (48) ساعة أُسس التغّول العميق للحرس الثوري في المؤسسات الأمنية والعسكرية، لتكتمل بذلك دائرة المشروع الإيراني في العراق، شأنه في ذلك شأن لبنان وسوريا واليمن.
ومما لاشك فيه، أن نجاح إيران في إحكام دائرة نفوذها على المناطق المتاخمة لحدودها (العراق)، قد مكّنها من أحكام دوائر نفوذها في المناطق البعيدة مثل سوريا واليمن، بعد أن كانت قد أكملت مشروعها في لبنان، فكان ذلك أحد أهم الأسباب الجوهرية في تقوية الموقف الإيراني على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبينما لا يزال المجتمع الدولي -وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية- ينطلق من رؤى قديمة لمنطقة الشرق الأوسط، ويحاول الإبقاء على أركان النظام الدولي الذي رسمته القوى العظمى بعد الحربين العالمتين الأولى والثانية، ويحاول أن يستبدل شرطيا بآخر في المنطقة؛ فإن طموحات إيران/خامنئي في القرن الواحد والعشرين تتعدى الأُطر التي رسمها الغرب لإيران/الشاه خلال سبعينيات القرن العشرين.
الحرس الثوري والحشد الشعبي
لقد تعدّت محاور النفوذ الإيراني في العراق مسألة ترسيم حدود العملية السياسية في بغداد، وتفعيل المنفعة الاقتصادية ذات الاتجاه الواحد، إلى تأسيس هيكلية جديدة للمؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، على غرار المؤسسات الأمنية والعسكرية في طهران. مع فوراق عديدة في دواعي التشكيل، والمرجعية المؤسسية، والأبعاد الإستراتيجية لتأثير تلك الهيكلية الجديدة في العراق.
فقد جاء قرار الخميني تأسيس الحرس الثوري (الباسداران/ “سپاه پاسداران انقلاب إسلامی”) بعد نجاح الثورة ضد نظام الشاه، في وقتٍ كانت جميع القوى التي شاركت في الثورة تبحث عن أدوات مسك خيوط الشرعية الثورية ضمن معسكرها.
فجاء تأسيس “الباسداران” ليرجح كفة الخميني والمؤسسة الدينية في مرحلة ما بعد الثورة، وتم التخلص بواسطة هذا التشكيل من بقايا القوى الليبرالية واليسارية التي كانت قد شاركت في إنجاح الثورة. وهكذا فقد ساهم “الباسداران” في تركيز السلطة بيد فئة معينة من الشعب الإيراني (المؤسسة الدينية)، وأسس نظاما ثيوقراطياً تجاوز عمره الآن 35 عاماً.
وقد حرص الخميني على شرعنة الحرس الثوري ضمن المنظومة العسكرية الإيرانية، فتم تشريع الحرس الثوري كمؤسسة موازية للجيش الإيراني ومكملة له، وذلك ضمن المادة (150) من الدستور الإيراني.
وأُضيفت له قوتان عسكرتان مهمتان: أولاهما، “الباسيج” (قوات المقاومة والتعبئة الشعبية) التي أسسها أيضا الخميني في الأشهر الأولى من الثورة، وأصبحت تدير ملف الحفاظ على الأمن الداخلي. وثانيتهما، “فيلق القدس” بقيادة قاسم سليماني، وهو من أهم أدوات السياسة الخارجية لإيران بمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة في العراق وسوريا واليمن وقبلها في لبنان.
ونستطيع القول هنا، إن قاسم سليماني هو وزير الخارجية الإيراني للمنطقة وبمكتب دائم في العراق، وليس السيد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف. حيث أُنيط ملف العراق وباقي دول المنطقة بالحرس الثوري وبإشراف مباشر من قبل المرشد الأعلى، وليس بوزارة الخارجية الإيرانية.
وذلك تعبير واضح عن ماهية الوجه السياسي لإيران في المنطقة، واختلافه بشكل كامل عن ملف السياسة الإيرانية الموجّه إلى القوى الغربية.
مكامن التشابه والاختلاف
وفي عودة للملف العراقي والهيكلية الجديدة التي نراها تتبلور يوماً بعد يوم ضمن المنظومة الأمنية والعسكرية، نجد أن هناك الكثير من نقاط التشابه والاختلاف بين حيثيات تشكيل الحرس الثوري الإيراني وقوات الحشد الشعبي العراقي.
كلاهما تشكلا من خلال فتوى دينية: الخميني في إيران والسيستاني في العراق. وكلاهما قام بعمليات عسكرية وتطور نشاطه قبل أن يتم وضع تأطير قانوني لعمله، فالحرس الثوري بقي عاملا منذ 1979 إلى أن تم إدخاله في دستور إيران ما بعد الثورة عام 1979.
وكذلك الحال بالنسبة للحشد الشعبي؛ حيث إن هذه المجموعات المسلحة تعمل تحت إمرة قاسم سليماني وبتمويل وتسليح من قبل الحكومة العراقية، وبدون وجود أي تشريع قانوني لها، هذا بعد ما يقارب تسعة أشهر من تشكيلها.
وبينما شكل الخميني الحرس الثوري لتأصيل حكم المؤسسة الدينية في إيران، أفتى السيستاني بفتح باب التطوع بعد أن تفكك الجيش العراقي وانهارت تشكيلاته، وتفسخت إدارته التي حرص المالكي على تطويعها لسيطرته.
كما جاءت تلك الفتوى لتعيد مكانة السيستاني وتأثيره بعد أن برزت في السنوات الأخيرة لحكومة المالكي عملية لتحييد صوته، والتقليل من أهمية مواقف المرجعية في التأثير داخل المؤسسة السياسية الشيعية.
وقد أخذت فتوى السيستاني منحنىً آخر عندما تلقف “فيلق القدس” الفتوى وعمل -مع بعض القوى الشيعية الموالية- على تشكيل الحشد الشعبي بقيادة سليماني.
وبالرغم من أن ممثلي السيستاني حاولوا تدارك الأمر بإصدار توضيحات لهذه الفتوى، ومنع المليشيات والحشد الشعبي من الانحدار إلى الممارسات الوحشية ضد المدنيين في القرى والمدن السنية (كما وثقتها تقارير عديدة لمنظمة Human Rights Watch)، فإن الوقت كان قد فات، واستولى -إلى حد كبير- “فيلق القدس” على هذه الهيكلية الجديدة.
ولا بد هنا من ذكر أنه بينما تُدير “الحرس الثوري” -ومرجعيته المباشرة مكتب المرشد الأعلى- قيادة إيرانية أهدت النظام الثيوقراطي البرنامج النووي وقوّت دعائمه إلى عشر سنوات قادمة (لو أخذنا السقف الزمني للاتفاق المتوقع بين أميركا وإيران)، نجد أن الحشد الشعبي ليست له قيادة عراقية ويقع تحت دائرة “فيلق القدس”، مع الإبقاء على قيادات شكلية يعلم جميع مكونات العراق قبل غيرهم أنها تعمل تحت إمرة سليماني وليس معه.
المنظور المستقبلي
من الواضح أن العراق سائر إلى النموذج الإيراني في تأسيس تشكيلات موازية لمؤسسات الدولة التقليدية، لكن المشكلة تكمن في أن هذه التشكيلات تدار من طهران وليس من بغداد. وأن المجتمع الدولي يرغب في إبقاء صورة حكومة عراقية فعّالة لاحتياجه إلى شريك في المعركة ضد داعش.
وبينما تقوم إيران -وبخطى حثيثة- بتحويل مناطق جنوب ووسط العراق إلى محمية تدين بمؤسساتها الأمنية والعسكرية لـ”فيلق القدس” ومنه الحرس الثوري، يتقاعس المجتمع الدولي عن العمل بصورة جدية على تحييد المشروع الإيراني في المنطقة وفي العراق على وجه الخصوص.
وهكذا يتنامى تأثير ومساحة عمل قوات الحشد الشعبي بشكلٍ متسارع، ويترسخ في جسم ما تبقى من الدولة العراقية بشكل حقيقي. وهذا النموذج -الذي يتبلور على مرأى ومسمع من حكومة بغداد والمجتمع الدولي- ليس جديداً على دوائر القرار الإيرانية.
ويتلخص المنظور المستقبلي لهذه القوات -بأبعاده السياسية والعسكرية- في أننا سنجد العراق قد تحوّل إلى محمية إيرانية، ولم يعد محوراً من محاور النفوذ الإيراني فقط، محمية تكون فيها هيكلية المؤسسات الأمنية والعسكرية نسخة طبق الأصل من نظيراتها في طهران وتحت قيادة إيرانية مباشرة، ولا نجد هناك أي عائق يواجه تحقيق هذا السيناريو في المستقبل المنظور.
شهلة والي الكلي
الجزيرة نت