المشهد اليمني في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ يشهد حالة انحدار مهولة، وإذا لم يتدارك المجتمع الدولي -وفي مقدمته دول الخليج- الوضع اليمني، فإن التيار الشيعي الجارف سيتجه شمالاً ويضرب الخليج نفسه.
واليمن من الناحية الجغرافية هو المركز أو القاعدة التي تستند إليها الجزيرة العربية، ومن المناسب جداً أن يكون المنصة التي ينطلق منها المشروع الأميركي/الإيراني، وسيتلاقى مع خلايا شيعية نائمة في الخليج العربي تتوزع بين فكرية وسياسية واقتصادية وأمنية، كما سيلتقي يوماً بنظيراته القادمة من منصة الانطلاق (اليمن) ليبدأ العمل على تفكيك دول الخليج.
خيارات السلاح
المشهد اليمني في هذه اللحظة لا صوت فيه يعلو على صوت الرصاص، والتحاور بين المكونات السياسية -برعاية الأمم المتحدة ومبعوثها جمال بن عمر- تحاور شكلي لا قيمة له، لأسباب أهمها أن الشواهد السابقة تقول بوضوح إنه لم يحدث مطلقاً أن التزم “الحوثيون” بأي اتفاق سابق، ودائماً يختلقون لأنفسهم الأعذار، وعلى المجتمع الدولي أن يغض الطرف لأنه من ألقى إليهم بإشارة الضوء الأخضر.
والسبب الآخر هو عدم تكافؤ أطراف الحوار، فأي حوار هذا الذي سيكون متكافئاً والجميع يتحاورن وفوق رؤوسهم زناد القوة الحوثية، ومِن جانبهم بن عمر وهو موظف مع الكبار وعليه أن يؤدي دوراً فقط؟
ولا أدل على ذلك من حديث بن عمر عن قرب التوصل إلى حل مرضٍ قبيل انتهاء مهلة الـ15 يوماً التي حددها مجلس الأمن للحوثيين بسحب مسلحيهم من المدن وتطبيع الحياة السياسية قبل 4 مارس/آذار الجاري، وحتى الآن لم يفعلوا شيئاً…، وربما تكون تصريحات بن عمر هي التي دفعت الإمارات والسعودية إلى انتقاد سلوكه ووصفه بالمشرعن للانقلاب الحوثي.
لا أستطيع أن أخفي تحمل النخبة السياسية اليمنية لجزء كبير من المسؤولية، فهي نخبة رخوة لم تستلهم التاريخ ولا استشعرت خطورة اللحظة الراهنة ولا استشفت المستقبل، بل ظلت تراهن على جوادين خاسرين هما بن عمر والرئيس هادي، وكلاهما يعمل موظفا عند “الكبار”، لكن سياستهما أنتجت وضعاً قدّم خيارات السلاح على خيارات السياسة.
وهذه الخيارات التي أنتجها سلوك هادي وبن عمر ليست بمنأى عن نظر الشارع اليمني، فالشعب صاحٍ وفي حالة يقظة تامة، ولكنه مجروح في كبريائه…، الشعب واعٍ تماماً ويدرك خطورة ما تفعله الحركة الحوثية، ويرصد ويتابع كل صغيرة وكبيرة.
ومن حسن الحظ أن الحوثيين يفعلون ما يفعلون والشعب لا تزال ذاكرته طرية وهمته متعالية القيمة، فهو خرج بالأمس من ثورة فبراير/شباط ولا يزال في حالة ثوران، ومن الصعب تهدئته أو المساومة على حريته رغم البطش الشديد الذي تبديه الجماعة الحوثية، ورغم سكوت جميع السفارات الغربية عن حقوق الإنسان المنتهكة في اليمن.
خطوات هادي الفاعلة
إذا أعلن الرئيس هادي الانفصال من عدن فسيكون قد منح الحوثيين فرصة ذهبية للذهاب إلى الجنوب مسلحين دفاعاً عن وحدة التراب اليمني، وسكوته على هذا النحو يمنحهم كثيراً من الفرص، وعليه أن يكون رجلاً إيجابياً، يعمل ويتواصل مع الرؤساء والملوك بنفس القدر الذي يتواصل به مع قادة المؤسسات العسكرية والمدنية.
وعلى هادي الشروع فوراً في خطوات فعالة لتحجيم القدرات العسكرية والسياسية للحوثيين، ومنها:
- التعجيل بإصدار قرار بتعيين نائب له، وأن يمنحه صلاحيات واسعة تعيد لمؤسسة الرئاسة هيبتها وقيمتها، فهادي مرهق بسبب السن وشرايين القلب الاصطناعية، ثم إنه رئيس بلا حضور أو خبرة أو كاريزما.
- تغيير بعض القادة العسكريين والأمنيين الموالين للحوثيين، وتشكيل وحدات عسكرية لحماية مأرب وتعز والجنوب.
- أن يطلب من السفراء المغادرين -وفي مقدمتهم سفراء أميركا والخليج والاتحاد الأوروبي- العودة إلى عدن، وهنا ستصبح صنعاء أقل حضوراً في الدبلوماسية الخارجية.
- أن يطلب من شركات النفط الغاز الأجنبية توريد إيراداتها المالية إلى البنك المركزي/فرع عدن، وهنا ستصبح صنعاء بلا قوة مالية يتحكم فيها الحوثيون.
- أن يوجه بصفته الرئيس الشرعي باعتماد البنك المركزي/فرع عدن بنكاً مركزياً مؤقتاً، وعلى مؤسسات الدولة الإيرادية التعامل معه.
- أن يوجه الحكومة بالانتقال إلى عدن، ويرأسها أحد الوزراء مؤقتاً حتى يتم الإفراج عن رئيس الوزراء خالد بحاح المحاصر من قبل الحوثيين في منزله بصنعاء.
- إعلان الجماعة الحوثية منظمة إرهابية لا يجوز التعامل معها، ويسمي عشرين من قيادتها مطلوبين للعدالة، ويضغط على مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والأمم المتحدة لاستصدار قرارات مماثلة.
- إعلان وكالة سبأ وصحيفة الثورة وقنوات الدولة الثلاثة “اليمن وسبأ والإيمان” إعلاماً محتلاً، وإبلاغ إدارة نايل سات بإيقاف بث القنوات التي هي خارج سيطرة الدولة.
- هادي بحاجة ماسة إلى ملء الفراغ الذي حوله بذوي الخبرة والكفاءة الوطنية، بدلا من مجاميع المنتفعين والبراغماتيين.
كل ما يفعله هادي الآن هو خارج المطلوب منه سياسياً وميدانياً، مما يضع علامات استفهام وخطوطا مبهمة حول نواياه المستقبلية، واتخاذه تلك الخطوات لا يعني أنه لا يبحث عن حلول للأزمة، لكن يجب أن ينطلق من موقع القوة، ومن موقع رئيس الدولة الشرعي، وليس رئيس الدولة المنتظِر لمقترحات واشنطن.
أخطاء الأحزاب وصوابها
من الإجحاف القول إن نتائج المرحلة الراهنة كانت نتيجة تعاطٍ سيئ وإفراز خاطئ فعلته الأحزاب اليمنية، إذ إن الرئيسين الحالي والسابق (هادي وصالح) يتحملان الجزء الأكبر من المسؤولية، وبعدها يأتي الدور على الأحزاب التي لم تتنبه جيداً لرغبة صالح الانتقامية، وتماهي هادي مع المقترحات والتوصيات القادمة إليه من سفارات واشنطن ولندن.
فالرئيس السابق ضرب خمسة أهداف بحجر واحد، وهي: العضلة الحوثية الباطشة، حيث أمدها بالمال والرجال والسلاح، ومن خلالها انتقم من آل الأحمر واللواء علي محسن وحزب الإصلاح والرئيس هادي، واختتم انتقامه من دول الخليج والسعودية تحديداً التي ضغطت عليه للتوقيع على المبادرة الخليجية، والخروج من السلطة.
صحيح أن الأحزاب السياسية كانت ضعيفة وتصرفت بلا رؤية ولا أفق أو خيال، وظلت متناحرة أو مستخفة بالوضع السياسي ومركزة على الصغائر، أو تنظر للنتائج من زاوية واحدة، لكنها أصابت حين اجتمعت على كلمة سواء في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، ونتائجه لو تحقق منها 50% فقط لتحول اليمن إلى دولة قوية.
وأصابت الأحزاب أيضاً عند جر الحوثيين إلى ميدان السياسة، لكنهم تنمروا وتعنتروا لأنهم يدركون أن من خلفهم أميركا والغرب داعمين وساندين، وظلوا يمارسون الضغط على الآخرين مقابل تحقيق نجاحات وقفزات كبيرة للحوثيين.
وأخطأت الأحزاب السياسية في التعويل على المبعوث الأممي بن عمر، ومنح الرئيس هادي ثقة مطلقة وتصفيقها كثيراً لقراراته، وهي قرارات كاذبة وخادعة، فمثلاً حين أصدر هادي أول قراراته بتغيير قائد المنطقة العسكرية الجنوبية اللواء مهدي مقولة، قام بترقيته إلى نائب لرئيس هيئة الأركان، وهنا قام الإعلام الموالي وإعلام الثورة بامتداح ذلك القرار، وعرضت القنوات والصحف خبراً عنوانه “إقالة اللواء مهدي مقولة من منصبه”!!
من قال لكم إنه أقيل..، هذا رجل ترقى إلى منصب أعلى، لمَ تضللون أنفسكم وتضللون الآخرين بقرارات وهمية.
وأخطأت الأحزاب حين لم تمنح شباب الثورة دورهم الحقيقي، بل ظلت تمارس التضليل والكذب والعنصرية والحزبية.
وكان خطؤها الأعظم حين قبلت بتقسيم الثورة مناصفة بين الضحية والجلاد..، ومنطق الثورات لا يقبل القسمة على اثنين، إما أن تنجح الثورة مثلما حصل في مصر عام 1952 وفي إيران عام 1979، أو تفشل كما حدث في كوريا الشمالية عام 1955.
ومنطق التاريخ يقول إن الثورات الناجحة التي تقضي على الأنظمة الفاسدة لها نتيجتان: إما أن يكون رموز النظام السابق في المقاصل والسجون، أو في المنافي. أما أن يتشاركوا مع الثورة في نصف مقاعد الحكومة فهذه مهزلة.
ولو أن قادة الأحزاب السياسية التقطوا الفرص التاريخية التي منحها القدر لشباب الثورة، وتركوهم يزحفون إلى القصر، لكانت الكلفة أقل مما هي عليه الآن، فالدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت في عهد هادي في ثلاث سنوات تفوق ما أزهق في عهد سلفه خلال ثلاثين سنة.
لقد كانت هناك فرصة أهدرت في جمعة الكرامة 18 مارس/آذار، وفرصة يوم انضمام اللواء علي محسن إلى الثورة يوم 21 مارس/آذار، وفرصة يوم تفجير جامع النهدين وإصابة صالح ورجال نظامه يوم 3 يونيو/تموز، وكلها في عام الثورة 2011، وكان الساسة يقولون لشباب الثورة: الدماء غالية علينا ولا نستطيع دفع كلفتها.
أما خطأ المؤتمر الشعبي العام (حزب صالح) في هذه اللحظة فهو التحالف مع المليشيات الحوثية المسلحة من أجل الانتقام من خصوم صالح وتفكيك سلطة هادي، مع ضرورة الإشارة إلى أن هادي لم يبن نظامه الخاص طوال فترة حكمه، وظل مستنداً إلى رجال نظام صالح.
المشكلة الآن هي فرض خيارات السياسة بقوة السلاح، والتعويل على الخارج وخاصة الغربي منه.. هناك مؤامرة كبيرة تحدث الآن، و”نظرية المؤامرة” تتجلى في الداخل اليمني، فالغرب قلق من تنامي نشاط تنظيم القاعدة في اليمن، والحوثي قدم نفسه للغرب في دور المقاول.
ولذلك يرى المراقب السياسي أن الطرف الذي يملك السلاح -وهو جماعة الحوثي- يقدم إملاءات اعتباطية تتنافى مع القانون والدستور وحتى مع طبيعة النظام الجمهوري، وتقوض بنية الدولة اليمنية، ومع ذلك لا تعترض أي من السفارات الأجنبية الراعية للمبادرة الخليجية.
وربما يكون أفضل الحلول الآن أن تضغط دول الخليج على هادي ليعين نائباً قوياً له، ويضغط المجتمع الدولي على الحوثيين ليقبلوا بنتائج حوار تحتضنه الرياض، ويكون الجميع أمام “اتفاق طائف” بنسخة يمنية..، لأن ذلك هو الأقل كلفة من الحروب والتشرذم، وعلى الخليج والأمم المتحدة رعاية ذلك الاتفاق على الأرض.
عارف أبو حاتم
الجزيرة