في وقت سابق من هذا الشهر، زار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مدينة الموصل للإعلان عن نجاح كفاح جيشه لمدة تسعة أشهر في استعادة المدينة من براثن تنظيم “داعش”. وفي كلمة له بثها التلفزيون الرسمي في اليوم التالي، أعلن العبادي “نهاية وفشل وانهيار دولة الزيف الإرهابية التي كان قد تم الإعلان عن قيامها من الموصل”. وحتى مع بقاء جيوب من المسلحين في البلدة القديمة، فإن الحكومة تسيطر فعلياً على شرق وغرب الموصل. وقد شكل الاستيلاء على مسجد النوري الكبير الذي يقع في قلب البلدة القديمة على الضفة الغربية من نهر دجلة نصراً رمزياً، نظراً لأن الإعلان عن قيام دولة الخلافة الإسلامية تم من هذا المسجد على لسان أبو بكر البغدادي، زعيم “داعش”.
لكن المسجد يجسد أيضاً مدى التحدي الذي يواجه العراق حالياً. فقبل الاستيلاء عليه، قام مقاتلو “داعش” بنسف مئذنته الحدباء الأيقونية -في إجراء وصفه العبادي بأنه “إقرار رسمي بالهزيمة”. وكان “داعش” قد سيطر في أوج قوته على 40 في المائة من الأراضي العراقية، ونثر الرعب في قلوب نحو 10 ملايين مواطن عراقي. وشهدت استعادة تلك الأراضي، باستثناء بلدتي الحويجة وتلعفر اللتين ظلتا بيد “داعش”، تشريد 3 ملايين شخص وأكثر من 13.000 ضربة جوية نفذها التحالف الدولي. ونتيجة لولع “داعش” في زرع العبوات الناسفة بشكل منهجي، فإن مساحات شاسعة من العراق، بما فيها مسجد النوري، سويت بالأرض.
قبل سقوطها في يد “داعش” في حزيران (يونيو) من العام 2014، كانت مدينة الموصل مركزاً للصناعات العراقية متوسطة الحجم. وضمت المدينة مصانع دوائية ووفرة من الحرفيين الذين صنعوا الأثاث والأدوات والسلع الجلدية والأنسجة. لكن “داعش” حول العديد من ورشات المدينة لانتاج أجهزة التفجير البدائية. ولذلك، دمرت هذه الورشات في القتال. وعلى سبيل المثال، قامت قوات التحالف بقصف مصنع الأدوية الحديث في الموصل في العام 2016 بعد ربطه باستخدام “داعش” له لإنتاج أسلحة كيميائية. وتشكل استعادة هذه الصناعات شأناً حاسماً لإعادة المدينة مجدداً إلى الحياة.
سوف يحدد ما يظهر من الركام سوف مستقبل العراق. فإذا فشلت الحكومة في توفير الخدمات والأمن من المليشيات الساعية إلى الانتقام، فإن استعادة الموصل يمكن أن تبدأ ببساطة جولة ثانية من التمرد السني. أما إذا استطاعت الحكومة حفز الاستثمار وإعادة إحياء اقتصاد الموصل المحلي، فيمكن أن يشكل تحريرها نقطة انعطاف وخروج من واحد من أحلك الفصول في تاريخ العراق.
في وقت سابق من هذا الشهر، عقدت الحكومة العراقية مؤتمراً صحفياً في لندن، والذي جمع معاً أصحاب شركات وأعمال تجارية عراقيين وأجانب، سوية مع مسؤولين وخبراء حكوميين، من أجل بحث الفرص والعوائق أمام تطوير اقتصاد البلد. وأعلن إبراهيم الجعفري، وزير الخارجية العراقي، في كلمة افتتاحية: “نحتاج الآن إلى خطة مارشال” في إشارة إلى البرنامج الأميركي الضخم لإعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية. وقال إن هذه الخطة لن تكون سياسة معقولة فحسب، وإنما التزاماً لكل المجموعة الدولية. وقال: “لقد جاءت إلى العراق أكثر من مائة من الجنسيات في شكل إرهابيين. والعراق يقاتل لحماية نفسه ونيابة عن العالم بأسره”.
لا شك في أن المسؤولين الغربيين متعاطفون، على الأقل بسبب فوائد السلام؛ حيث يشعر المواطنون في المناطق المحررة بالمزايا المباشرة لعودة سيطرة الحكومة، وهو ما يعد أمراً ضرورياً لمنع تجدد الانتفاضة السنية. وقال غريغ هاندز، وزير الدولة البريطاني للتجارة والاستثمار، رداً على ملاحظات الجعفري: “إن الخطر يكمن الخطر في كسب الحرب وخسارة السلام”.
بينما يبدو أن كل الأطراف تدرك أن التوصل إلى سلام دائم يعتمد على سرعة تأسيس الحكومة العراقية للخدمات في المناطق المحررة، كانت المساعدات والاستثمارات الدولية نادرة ومتفرقة. وكانت الأمم المتحدة قد دعت إلى جمع مبلغ 985 مليون دولار لتوفير الاحتياجات الإنسانية الفورية -وليس لتمويل إعادة الإعمار. وحتى الآن، تم التعهد بتقديم مبلغ 423.5 مليون دولار. وتتفاوت تقديرات كلفة إعادة الإعمار بشكل كبير، لكن المسؤولين العراقيين يبحثون خطة سوف تكلف حوالي 100 مليار دولار -حوالي نصف الكلفة الكلية لخطة مارشال، معدلة بمعدل التضخم، التي دعمت إعادة إعمار أوروبا الغربية.
ينبع تردد المجتمع الدولي، في جزء منه، من تشككه في قدرة بغداد على توزيع الأموال بشكل مناسب. وكانت خطة مارشال قد شهدت إشرافاً أميركياً موسعاً على العملية من أجل ضمان إنفاق الأموال بشكل فعال، وبما يتماشى مع المصالح الأميركية في بداية الحرب الباردة. أما في العراق، فتحول المخاوف الأمنية دون تمكن المسؤولين الغربيين من الحفاظ على تواجد مستدام للإشراف على تنفيذ المشاريع.
وفي المقابل، تتطلع الحكومة العراقية إلى ملء الفجوة بالاستثمار الخاص، لأن من شأن هذا التوجه أن يساعد على تأسيس علاقات عمل تجارية طويلة الأمد مع البلدان الأجنبية، ولأن المستثمرين الأفراد، الشغوفين بجمع المال، سوف يكونون من الناحية النظرية حذرين في التأكد من أن أموالهم تنفق في الوجه الصحيح. وتسعى بغداد إلى ترويج شراكات بين الشركات الأجنبية والمقرضين ومع الشركات العراقية من أجل إعادة تطوير البنية التحتية للبلد. وكانت هذه الجهود قد لقيت استقبالاً جيداً في الخارج. فقد وفرت المملكة المتحدة 12 مليار دولار لدعم الاستثمار الخاص في البنية التحتية العراقية من خلال تمويل صادرات المملكة المتحدة، وكالة ائتمان الصادرات لديها. لكن الاستثمار الخاص ليس عملاً خيرياً. وقال لويس تيلر، رئيس الوكالة في مناسبة ضمت مالكي شركات تجارية عراقية مؤخراً: “ما من شك في أننا حريصون على دعمهم، لكننا نحتاج مشروعات تجلب لنا عائداً مالياً”.
ما يثير قلق المستثمرين البريطانيين هو أنه يترتب على شركائهم التجاريين المحتملين في العراق تقديم اقتراحات مفصلة بما يكفي لإقناعهم بأنهم سوف يجمعون مالاً. ويخشى المستثمرون من أن تسمح الاقتراحات التجارية الغامضة بذهاب الأموال إلى جيوب المسؤولين المحليين. وقد شرح لي رائد حنا، مدير مؤسسة التمويل المتبادل التي تدعم مشروعات الاستثمار في العراق، فقال: “تجب حماية الوثائق والاتفاقيات والعمل المكتبي القانوني. نحن نحتاج إلى معرفة الجهة التي نعمل معها”.
لعل إحدى الحقائق غير المواتية -لكنها مقبولة عموماً- هي أن تنفيذ عمل تجاري في مناطق ما بعد النزاع وفي سوق صاعدة يتطلب بالضرورة وجود قدر ما من الفساد. وفي أحاديث خاصة، يقر أصحاب الأعمال التجارية بأنه من غير الممكن ببساطة القيام بعمل في العراق من دون دفع الرشاوى. فما يزال البلد عرضة للمحسوبية، فيما يعود في جزء منه إلى هيمنة القطاع العام على بيئة الأعمال التجارية في العراق. وتكون النتيجة هي استقرار السلطة السياسية غالباً في جانب من يستطيع تقديم عقود حكومية مربحة لأنصاره ومؤيديه. كل هذا أسهم في حلول العراق في المرتبة 166 من أصل 176 بلداً على مؤشر الشفافية الدولية الخاص بالفساد في العام 2016.
في حين أن من السهل نسبياً أن تأخذ الشركات الضخمة في مجال النفط والغاز عامل كلفة الفساد بعين الاعتبار في استثماراتها، فإن الكلف بالنسبة للمستثمرين في أعمال تجارية صغيرة ومتوسطة الحجم يمكن أن تكون معيقة. وقد تفوق تكاليف الحصول على كل التصاريح الضرورية لبدء العمل قيمة أي أرباح محتملة، خاصة إذا كان هناك مسؤول محلي له عميل يعد منافساً محتملاً. ومع ذلك، فإن شركات التصنيع والأعمال متوسطة الحجم هي التي تتوافر على إمكانية توفير التوظيف في الأماكن المحررة.
وبالإضافة إلى ذلك، يحتاج العراق إلى ازدهار الصناعة الخاصة من أجل توسيع قاعدته الضريبية وتنويع اقتصاده؛ حيث تشكل الصناعة النفطية ما نسبته 99 في المائة من العوائد الحكومية. وتتسبب التقلبات في أسعار النفط في تقلبات ضخمة في الأموال المتوفرة لموازنات الدوائر الحكومية. وفي الوقت الراهن، حيث سعر برميل النفط أقل من 45 دولاراً، “توقفت الحياة تقريباً من الناحية الاقتصادية. لقد أخذت بيروقراطيتنا الكثير من مواردنا فقط لتقوم بإهدارها”، كما شرح لي سامي العراجي، رئيس لجنة الاستثمار الوطني في العراق.
جاك واتلينغ
صحيفة الغد