بأي معنوياتٍ يستعد الجيش اللبناني للمعركة التي يقال إنه سيخوضها ضد تنظيم (داعش)، بعد الدور الهامشي الذي تُرك له في المعركة التي خاضها حزب الله، في الأيام الماضية، ضد جبهة فتح الشام (أو جبهة النصرة) المتمركزة في المناطق الجردية على الحدود اللبنانية – السورية، مثل “داعش”. وقد زاد من الفضيحة غياب الحكومة اللبنانية عن أي قرار، وشكر أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الجيش على “مساندته المقاومة” في العملية العسكرية ضد “النصرة”، في وقتٍ من المفترض أن تكون هذه المهمة منوطة فقط بالجيش اللبناني، رمز سيادة الدولة وشرعيتها. ففي عرسال، وقف الجيش على أطراف المنطقة، وقام عملياً بدور المسعف للمدنيين الهاربين من المعارك.
عسكرياً، لم تكن “معركة أم المعارك”، أو من التي يعتد بها أن عناصر “فتح الشام” كانوا عمليا محاصرين في الجرود منذ نحو ثلاث سنوات، غير أنها من الممكن أن تفي بالغرض المطلوب، لتضاف إلى “السجل الذهبي” لروائع حزب الله القتالية في سورية واليمن. وهي أكثر ملاءمة للظرف السياسي، بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الروسي-الأميركي في غرب سورية، وإبعاد إيران عن خط تحقيق حلمها بوصل طهران ببيروت، عبر بغداد ودمشق. كما بدا لافتا تزامن معركة جرود عرسال مع زيارة رئيس الحكومة، سعد الحريري، واشنطن. ففي وقت كان الأخير يلتقي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، كان حزب الله يعلن انتهاء المعارك وتحرير المواقع التي كانت تحت سيطرة “فتح الشام”.
كان المشهد سوريالياً. يطالب الحريري ترامب بدعم الجيش اللبناني، وتزويده بالأسلحة
المتطوّرة، ليتمكّن من مكافحة الإرهاب، ويسعى إلى إقناعه بضروة عدم شمول العقوبات الجديدة على حزب الله والمؤسسات المصرفية والمالية اللبنانية، ونصرالله في بيروت يقول “الأمر لي”. يعلن النصر في معركةٍ تفرّد هو بقرار خوضها، على الرغم من أنه شريك في حكومة الحريري، ويذل الجيش بالقول إن مقاتليه سيسلمونه المواقع بعد تطهيرها بالكامل. وفيما يعلن ترامب على مسامع الحريري، في المؤتمر الصحافي المشترك، أن الحكومة اللبنانية تتصدّى للمنظمات الإرهابية مثل “داعش” وجبهة النصرة وحزب الله، يرد نصرالله باللعب على حساسية الشارع المسيحي، معلنا إهداء النصر لكل الشعب اللبناني، حاصداً تعاطفا لم يحظ بمثله من قبل، إلى درجة أن بعض سكان مدينة جبيل (بيبلوس) المسيحية العريقة جابوا في شوارعها يحملون أعلام حزب الله، احتفاء بـ”النصر”.
وقد أظهر حزب الله قدرة عالية على ممارسة البروباغندا والتجييش الإعلامي، بحيث تمكّن من استمالة معظم وسائل الإعلام، فكان هو المصدر الوحيد للمعلومات، خلال أيام المعركة، يوزّع ما يريد من أخبار وصور عبر “إعلامه الحربي”، ويتحكّم بحركة الصحافيين والمراسلين الذين توجهوا إلى التغطية الميدانية المباشرة. لم يكن، بطبيعة الحال، من مجال للتدقيق في صحة الأخبار والمعلومات. أعلن هزيمة “النصرة”، ولكن وسائل الإعلام لم تنشر أي صور لمن قتل منهم، وعددهم بحسب “الإعلام الحربي” يفوق المائة، ولا عن مصابين أو أسرى. فيما يعلن حزب الله بالقطارة عن وضعه الميداني، فقد علم أن 25 عنصرا سقط من مليشياه. تفضحهم جنازات التشييع في القرى البقاعية والجنوبية، غير أن ما يريد إرساله وصل بشكل موفق، أي أن كثيرين باتوا يرون فيه الطرف الذي يقاتل عناصره ويستشهدون، لدرء خطر الإرهاب عن لبنان!
كشفت هذه المعركة عورة السلطة السياسية، وعجز الحكومة التي يمثلها عن أن تكون سيدة نفسها وصاحبة الحق الحصري في اتخاذ أي قرارٍ على أراضيها، وخصوصا قرار خوض معركة، بغض النظر عن صحة الهدف ونبله. في حين أن حزب الله يمارس دور الدويلة ضمن الدولة، يتخذ قراره ويمشي. وطبعا، يعظّم المعركة في سبيل تعظيم نفسه، فقد شبّه معركة جرود عرسال بمعارك حلب والموصل والرّقة…
كان الإرباك سيد الموقف عند الحريري الذي لم يعرف كيف ينتشل نفسه من الإحراج الذي
وضعه فيه ترامب. فكيف لرئيس حكومة بلد ذات سيادةٍ، مثل لبنان، أن يقول ما قاله في واشنطن: “ثمّة خلاف كبير مع حزب الله، وكنت أفضل أن يقوم الجيش بهذه المعركة. لكن الحكومة حيّدت نفسها عن النزاع معه من أجل الاستقرار الداخلي”. أو محاولته رمي المسؤولية على الخارج، كما جاء في محاضرة ألقاها في معهد كارنيغي في واشنطن، عندما اعتبر أن “حزب الله مشكلة إقليمية، وحلها يجب أن يأتي من المجتمع الدولي، لا من لبنان”. أما لماذا كل هذا الإرباك؟ علما أن قاعدة الحريري الشعبية لا تكن أي ود لحزب الله، لا بل إن قسما كبيرا منها معاد للحزب، كما أن جميع حلفائه الخارجيين من عرب وغربيين يعتبرون حزب الله تنظيماً إرهابياً.
الإرباك والميل إلى المهادنة لم يقتصرا على الحريري، وإنما طاولا أكثر معارضي حزب الله وأشدّهم، رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الذي اعتبر أن “نتيجة معارك جرود عرسال ستكون إيجابية على لبنان، بمعنى أن مجموعة القرى الحدودية سترتاح، كما أن الجيش سيرتاح… إنما في الحسابات الاستراتيجية، الأمور تختلف”. حسابات رئاسية مستقبلية؟ وعلى الرغم من أنه ليس أكثر من كلام لبق، وجعجع هو من يؤكد باستمرار على سيادة الدولة، وحصرية امتلاكها السلاح، فقد أثار كلامه ردود فعل سلبية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفعه إلى التصويب، مستعينا بقولٍ يحاكي ما قاله السيد المسيح: “ماذا ينفع لبنان، لو ربح الخلاص من جيب المسلحين في الجرود على الحدود، وخسر مفهوم الدولة… وخسر نفسه”، فيما بقي التيار الوطني الحر (العوني) ملتزما الصمت، وكان رئيسه وزير الخارجية، جبران باسيل، إلى جانب الحريري، وسمع مثله كلام ترامب عن حزب الله الإرهابي، فيما كان بعض مناصريه في بيروت يعبرون عن فرحتهم بنصر عرسال.
ولكن أخبث تعبير ربما عن المأزق الذي يحيط برئيس الحكومة محاولة وزير داخليته، وأقرب المقربين إليه، نهاد المشنوق، الذي دخل على خط “إصلاح ذات البين”، معلنا، في تصريحٍ له، إن “جزءا كبيرا من أرض المعركة في جرود عرسال مختلف عليه بين لبنان وسورية، ومن يطالب بالجيش اللبناني، لا يشتم الآخرين، ولا ينال من جهدهم”. وهي رسائل في أكثر من اتجاه، من بينها أيضا تبرير للنظام السوري الذي شارك في المعركة، وهو لا يعترف بلبنانية هذه الجرود وما زال يرفض ترسيم الحدود مع لبنان.
المفارقة الأظرف أن نصرالله طلب من اللبنانيين، في نهاية خطاب النصر، “عدم الإزعاج”، لأن المعركة لم تنته بالكامل، كاشفاً عن أن التفاوض مع الإرهابيين قائم، لكي ينسحبوا من المنطقة! فلماذ عاد حزب الله إلى التفاوض؟
سعد كيوان
صحيفة العربي الجديد