ها هي ثورتنا السورية اليتيمة تستكمل عامها الرابع. سنوات أربع لا يبزها في قسوتها وصعوبتها وخطورتها على سورية والسوريين شيء، دُمّر فيها البلد، دولة ومجتمعاً وبناء وتاريخاً وحضارة ومستقبلاً، وتجرع فيها السوريون جميع صنوف الحزن والأوجاع والمآسي، واختبروا كل صنوف الموت. يتربص الخطر والخوف والجوع بمن بقي منهم في الداخل، ويتربص الذل والتشرد والحاجة بسعيد الحظ الذي خرج، واليأس يستحكم بالكافة، أقلها على المدى المنظور.
تضافرت على السوريين وثورتهم، لسوء الحظ، مجموعة من القوى والعوامل والظروف، أدت، في المحصلة، إلى ما وصلوا إليها:
-فمن طغمة حاكمة مجرمة، أرادت البقاء في الحكم بأي ثمن، وتعاملت مع السوريين كقوة احتلال غاشمة، وواجهت مطالبهم المحقة في الحرية والكرامة بالعنف العاري، منذ اللحظة الأولى، وأصرت على العنف، ورفعت وتيرته طوال الوقت، إلى درجة أنها لم تدخر سلاحاً، أو وسيلةً، لقتل السوريين وتجويعهم وتهجيرهم، وتدمير بيوتهم وبلداتهم، إلا واستخدمته، مستحقة، وبجدارة، لقب أحقر طغمة حاكمة عرفها التاريخ.
-إلى حلفاء لهذه الطغمة، وقفوا معها بشراسة، وبدون تردد، ومنذ اللحظة الأولى، وقدموا لها، بسخاء، كل أسباب القوة والدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، إلى درجة أننا نراهم، الآن، يحاربون ويديرون المعارك، نيابة عن قوات الأسد المتهالكة في غير مكان من سورية.
-إلى تقاعس غربي تتحكم به الإدارة الأميركية، الحريصة على الإدارة عن بعد، والتي لا يعنيها من شؤون المنطقة سوى نجاحها في الملف النووي الإيراني.
-إلى منظمة دولية عاجزة مشلولة، استطاعت روسيا والصين ركنها جانباً عبر سلاح الفيتو، ولم يترك لها سوى حرية التعبير عن القلق.
-إلى أجندات وطموحات ومصالح عربية وإقليمية، صبّت الزيت على النار، ودعمت من يخدم مصالحها من تنظيمات سياسيةٍ أو عسكرية، ما ساهم في تمزيق المعارضة بشقيها، وإضعافها وتناحرها.
-إلى الإضعاف المتعمد والممنهج للجيش الحر الذي يمثل الذراع المسلحة للثورة.
-إلى سيطرة تنظيمات جهادية تكفيرية عدمية على أزيد من نصف الأراضي المحررة، وارتكابها من الجرائم والفظائع ما يعجز العقل عن تخيله، الأمر الذي جعل جرائم النظام، على فظاعتها، تبدو أمراً عاديا أمام العالم، ما أدى إلى تقديم ملف محاربة الإرهاب على ملف استبعاد النظام، وتشكيل التحالف الدولي لهذا الغرض، وحتى بروز أصوات تنادي بالتعاون مع النظام في هذه الحرب.
-وصولاً إلى معارضة سياسية مريضة تافهة، وضيعة في معظمها، أصرت على البقاء متفرقة، رهنت نفسها للخارج، وانخرطت بصراعات داخلية وحروب صغيرة فيما بينها، ولم تستطع تغطية الثورة، أو خدمتها في أي مجال، بل غالباً ما انعكس نشاطها سلباً على الثورة، والمذهل في أمرها أن كل دماء السوريين ومآسيهم، على مدى سنوات أربع، لم تستطع أن تغير شيئاَ من تفكيرها وسلوكها، الأمر الذي أدى إلى سقوطها واحتقارها من السوريين وغير السوريين.
هذه صورة الواقع كما أراها، فما نحن فاعلون؟ هل نتفرج صامتين على هذا المسلسل الحزين المرعب، منتظرين نهاية أكثر حزناً يقررها آخرون؟ وهل لدينا ما نفعله، طالما أننا الطرف الأضعف في معادلة القوة هذه، وتأثيرنا في مجرى الأحداث يداني العدم؟
أرى أن ثمة مجالات أخرى كثيرة للعمل، لا تقل أهمية عما كان يفترض بنا عمله الآن وخلال الثورة، منها العمل على السوريين لجهة دعم قدراتهم المستقبلية على التعايش والتعاون والبناء، فهذا الكابوس الذي نعيشه، اليوم، سينتهي عاجلا أو آجلاً، وسنجد أنفسنا أمام استحقاق ما للتعايش والتعاون، ثم لتجاوز قصة التعايش إلى التعاضد من أجل بناء الدولة، وعلينا الاستعداد لهذا الاستحقاق بكل إمكاناتنا، وبمنتهى الجدية، لأن دخولنا في استحقاق من هذا النوع من دون حد أدنى من الاستعداد والتأهيل يعني تمديداً اختيارياً مفتوح النهاية، هذه المرة، لمأساة شعب مرهق منكوب.
خوفي على سورية مركّب، حيث يضاف إلى الخوف مما يحصل خوف آخر مشروع، سببه ضعف قدرة السوريين على استيعاب هذه المحنة، وهضمها، باعتبارهم، لأسباب معروفة، مجتمعاً غير متماسك بما فيه الكفاية، حيث ما زال الشعور بالمواطنة والانتماء للوطن أضعف من الشعور بالانتماء إلى الطائفة أو العشيرة أو العرق. ما يعني أن المحنة قد تذهب بالبلد إلى غير رجعة، وملامح ذلك تبدو واضحة. لذلك أرى أن العمل على تحصين السوريين تجاه خطر التفتت والاحتراب الأهلي المديد عمل وطني ومهم بكل المقاييس.
الآن، ما الذي يمكننا عمله بشأن المستقبل؟ أذكر، تالياً، بعض المجالات، على سبيل المثال:- تأسيس أحزاب سياسية نوعية ومختلفة، بوصلتها المصالح العليا للشعب والوطن، ترفع ألوية الفكر والسياسة والواقع، بدل الإيديولوجيا التي قتلت الفكر والروح، وحوّلت أحزابنا التقليدية إلى مستحاثات، تتبنى الديمقراطية منهجاً وقيماً وسلوكاً وعملاً، تؤمن بالعمل المشترك مع الآخرين، تعمل بالعقلية المؤسساتية، تقيم حياة حزبية داخلية ديمقراطية، مؤسسة على الشفافية والمحاسبة والنقد والمراجعة. هذا النوع من الأحزاب أصبح أكثر من ضرورة لأنه المكان الطبيعي لتعلم السياسة وممارستها، ولأنه الأساس لأي عملية سياسية مستقبلية.
-نزع فتيل الأزمة الطائفية التي تستعر بشدة، منذرة بأسوأ العواقب. وفي هذا المجال، يمكن عمل الكثير، خصوصاً على صعيد نشر الوعي حول المآلات الكارثية للصراع الطائفي، وحول الجذور الثقافية والاجتماعية والسياسية للمسألة الطائفية، وحول دور ومصلحة النظام في إذكاء الصراع الطائفي، وحول مفهوم المواطنة ودوره المركزي في بناء الأنظمة الوطنية الحديثة.
-إزالة الالتباسات والتشوهات العالقة بقضايا ومفاهيم مهمة وحساسة ومفتاحية كثيرة في بناء دولتنا المقبلة، والتي يوحي الجدل الدائر بعمق الاختلاف حولها، منها مفهوم العلمانية وعلاقتها بالدين والمجتمع، ومفاهيم الديمقراطية والحرية والمواطنة.
– تحضير ما أمكن من برامج وأفكار ومشاريع في مجالات القانون والدستور والاقتصاد وإعادة الإعمار، وكل ما من شأنه المساهمة في دفع عملية بناء الدولة والمجتمع، وتخفيف مدتها وتكلفتها ووطأتها.
– تدريب الناس على الحوار وتقبل المختلف، وزرع وتعزيز ثقافة الحوار والنقاش والاستماع المنفتح المصغي لديهم.
يناط تنفيذ المهمات المومأ إليها أعلاه، بالجميع من دون استثناء، أحزاباً وتنظيمات مدنية وأهلية وأفراداً، حيث في مقدور أي كان أن يقدم شيئاً على صعيد واحد أو أكثر.
طبعاً، تبقى المسألة الأكثر أهمية والأبعد أثراً في قضيتنا أن ننتزع دوراً في تقرير مصيرنا، عبر توافقنا، قوى سياسية وقوى عسكرية، على برامج عمل موحدة، لكن ظاهر الحال يعلن أن ذلك مستحيل، بحكم مستحاثات السياسة وهواتها ومتسلقيها وبلطجيتها، وبحكم أمراء الحرب، ويزداد استحالة بحكم ارتهانهم للخارج. لذلك، علينا أن نبحث عما يمكن أن يقينا قليلاً، ويبقي لدينا شيئاً من القدرة على بناء بلدنا في يوم، نسأل الله أن لا يكون بعيداً.