يقف تنظيم “داعش” الآن على حافة التعرض لهزيمة مزدوجة. فالموصل؛ أكبر مدينة يسيطر عليها التنظيم، أفلتت كلها تقريباً من قبضته. وفي سورية، تتقدم القوات بقيادة كردية إلى عاصمة التنظيم بحكم الأمر الواقع، الرقة. والآن، كما يقولون، يأتي الوقت الصعب. فقد أنتجت التراجعات التي يشهدها تنظيم “الدولة الإسلامية” أسئلة جديدة عن المستقبل الأساسي للشرق الأوسط. ولذلك، جمعت مجلة “فورين أفيرز” باقة من واضعي السياسات والخبراء الإقليميين للرد عليها.
* * *
الولايات المتحدة لا تستطيع أن تنسحب من الشرق الأوسط
إليوت أبرامز*
سوف تطرح هزيمة “داعش” ونهايته كـ”دولة” سؤالين جدّيين جداً تواجههما الولايات المتحدة. الأول هو: مَن الذي سيملأ الفراغات التي يتم طرد المجموعة الجهادية منها؟ وهناك جهد واضح يبذله تحالف إيران- حزب الله- الميليشيات الشيعية- روسيا ليجبب عن هذا السؤال: “نحن سنفعل”.
وهي إجابة يجب أن ترفضها الولايات المتحدة. فسوف يؤدي مثل هذا التطور إلى تشكيل تحالف مناهض للولايات المتحدة، ويهدد الأردن وإسرائيل، ويترك إيران في وضع القوة المهيمنة على الكثير من أجزاء المنطقة. وسوف يكون رفض هذا التحدي شفهياً بمثابة نُكتة؛ بدلاً من ذلك، يجب رفضه على الأرض، من خلال استخدام قوة تحالف يتحتم أن تقوم الولايات المتحدة ببنائه وقيادته.
لقد دمر الصراع في سورية أي إمكانية للعثور على صيغة سهلة لإعادة ذلك البلد إلى التماسك معاً مرة أخرى. لكن المرء يستطيع أن يستشرف على المدى المتوسط إجراء نقاش مع روسيا حول كيف يمكن التوفيق بين مصالحنا ومصالحهم بينما يتم خفض منسوب العنف إلى مستوى يسمح للكثير من اللاجئين بالعودة إلى ديارهم. لكن ذلك النقاش لن يحقق أي شيء إلا إذا كسبت القوة الأميركية الاحترام الروسي أولاً، وإذا توصل الروس إلى إدراك أن التسوية ضرورية.
وحتى وفق أفضل السيناريوهات، مع هزيمة “داعش” وفقدانه السيطرة على “دولة”، فإنه قد يواصل الوجود كمجموعة إرهابية -وعلى أي حال، لن تختفي القاعدة والمجموعات الجهادية الأخرى. وهكذا، يكون السؤال الثاني هو: كيف يمكننا المضي قدُماً ضد الجهاديين السُنة الذين يواصلون التآمر على الولايات المتحدة؟ يجب أن يكون واضحاً أن الهيمنة الشيعية على المنطقة سوف تساعد على تغذية هذه المجموعات السنية، وتخدمها في التجنيد في الوطن وفي الأراضي السُنية القصية على حد سواء. وسوف يكون من شأن تصوّر وجود رضا أميركي أو تواطؤ مع تلك الهيمنة أن يجعل الولايات المتحدة هدفاً أكبر لتلك المجموعات.
يقود هذا كله إلى استنتاج غير مرحب به -وغير مرغوب بالتأكيد في البيت الأبيض وبالنسبة للكثير من الأميركيين. إن هزيمة “داعش” لن تنهي تورطنا في صراعات الشرق الأوسط، وربما تقود في الحقيقة إلى زيادة هذا التورط. لن تكون هناك إعادة لحروب العراق، حيث توضع جيوش أميركية كبيرة على الأرض، ولكن ينبغي أن تكون هناك استمرارية طويلة لنوع الالتزام الذي نشاهده اليوم: ربما 5.000 جندي في العراق؛ و1.000 في سورية؛ و1.000 إلى 2.000 في الأردن، وأكثر من ذلك بكثير في الأسطول السادس والقواعد التي يمكننا أن نمارس منها السلطة في المنطقة.
طالما استمرت إيران في محاولة الهيمنة على كامل المنطقة، وبينما تواصل الجماعات الجهادية السنية استهدافها الولايات المتحدة، فإن هزيمة “داعش” ستغير -وإنما لن تقلل- حصة الولايات المتحدة في سياسات القوة في الشرق الأوسط.
*إليوت أبرامز: زميل رفيع لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية. سوف يُنشر كتابه الجديد “الواقعية والديمقراطية: السياسة الخارجية الأميركية بعد الربيع العربي” في أيلول (سبتمبر) المقبل.
* * *
الحرب بعد الحرب
روبرت مالي*
بالنسبة لمعظم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لم تكن الحرب ضد “داعش” في أي وقت هي الشاغل الرئيسي. وحتى في حين اعتبرت الدول الغربية هذا الصراع أولوية عالمية، فقد سايرت هذه الدول واشنطن إلى حد كبير، ورددت قلقها، وانضمت إلى تحالفها الدولي -لكنها نظرت إلى الجهة الأخرى. فمنذ البداية تقريباً، كانت نظرتها مركزة على حروب ما بعد الحرب ضد “داعش”.
بالنسبة لتركيا، كان الأمر الأكثر أهمية هو القتال ضد الأكراد؛ وبالنسبة للأكراد كان، الصراع من أجل تقرير المصير؛ وبالنسبة للسعوديين وإيران، احتل تنافسهما الإقليمي الأولوية؛ وفي داخل العالم العربي السني، تم النظر إلى المنافسة بين الدول الأكثر إسلامية (قطر وتركيا) والأقل منها إسلامية (مصر والإمارات العربية المتحدة) على أنها وجودية؛ وبين العراقيين، احتل السباق الطائفي والعرقي على غنائم ما بعد الصراع صدر المكان. وخدمت الحملة ضد “داعش” كل الوقت كغطاء مَعيب للصراعات والتناقضات الإقليمية. ومع ذهاب “داعش” بشكل متزايد إلى مرآة الرؤية الخلفية، سوف تتكشف كل هذه التوجهات.
عندما يهدأ الغبار، سوف تواجه الولايات المتحدة شرقاً أوسط يناضل ما يزال يناضل الشياطين المألوفين. وسوف تواجه أيضاً معضلتها المألوفة الخاصة: إلى كَم من العمق ينبغي أن تتورط في المنطقة؟ سوف يتوسل الحلفاء إليها لكي تقفز إلى حمأة المعركة. وهم يعرفون مكامن ولع واشنطن الحالية وسوف يلبونها، وسوف يُلبسون ألعاب القوة الفجة رداءً أكثر جاذبية. وتبدو إدارة الرئيس دونالد ترامب منشغلة تماماً بمكافحة الإرهاب ومحاربة إيران، و-ما لا يقل أهمية؛ فعل كل شيء لم يفعله الرئيس السابق باراك أوباما. هذه هي الكيفية التي سيؤطر بها حلفاء أميركا مساعيهم المتعاقبة.
وهناك أدلة على هذا مسبقاً. فقد قدمت السعودية والإمارات حربهما في اليمن باعتبار أنها رد فعل على توسع طهران، وقدمتا محاولتهما تركيع قطر على أنها مناورة مناهضة لإيران والإرهاب. والأكراد السوريون، الذين يخشون أن تتخلى واشنطن عنهم بمجرد استنفاد فائدتهم في القتال ضد “داعش”، يطرحون أنفسهم كحصن بعيد الأمد ضد النفوذ الإيراني والإسلاموية المستلهمة من تركيا -في حين تصبغ تركيا هؤلاء الأكراد أنفسهم بفرشاة إرهابية عريضة. ومن جهتها تُخفي مصر عدم تمييزها العشوائي ضد كل الإسلاميين وتعرضه على أنه معركة ضد الإرهاب.
يؤكد الجميع وجوب أن تتعارض العلامة الخاصة للنشاط الأميركي التي يتوقون إلى رؤيتها في المنطقة مع سلبية أوباما المزعومة. وهم يعرفون تماماً جمهورهم المستهدف، ويلعبون على ذلك.
سوف تكون إدارة الرئيس ترامب أمام إغواء الانحياز إلى أطراف وطرح الرهان، لكن ذلك سيكون رهاناً خاسراً. ولعل الوسيلة المثلى لتأمين مصالح الولايات المتحدة في عالم ما بعد “داعش” هي أن لا تنضم إلى -ولا تقوم بتكثيف- الصراعات التي لديها القليل من القول الفصل فيها والتي يمكن أن تطلق العنان لنفس الفوضى والطائفية التي ولدت من رحمها مجموعة “داعش” الإرهابية، والتي تزدهر عليها. وبدلاً من ذلك، يجب عليها العمل على تهدئة الحروب بالوكالة، والتوسط في اتفاق سعودي-قطري، والضغط من أجل وضع نهاية للحرب اليمنية، والتمسك بموقف محسوب تجاه الإسلام السياسي، وخفض التوترات بين السعودية وإيران -وفي الحقيقة، إذا كان ذلك يهم، بين الولايات المتحدة وإيران.
ليس هذا هو ما يريده حلفاء أميركا في الإقليم. لكنهم إذا كانوا يحرصون حقاً على القيادة الأميركية، فإن من الأفضل أن قيادتهم إلى المكان الذي تعتقد الولايات المتحدة أن عليهم الذهاب إليه، بدلاً من المكان الذي يتجهون إليه فعلاً، بعناد وتهور.
*روبرت مولي: نائب الرئيس لشؤون السياسة في مجموعة الأزمات الدولية. عمل في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما كمساعد خاص للرئيس، ومستشار رفيع للرئيس في الحملة المناهضة لتنظيم “داعش”، وكمنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج.
* * *
“داعش” سوف ينجو
كول بونزيل*
كيف ستؤثر خسارات “داعش” للأراضي في مشهد الجهادية السُنية العابرة للحدود الوطنية؟ يقترح الكثيرون أن ذلك ربما يؤذن بتحول جذري: ربما يكون الضرر الذي يصيب ماركة “الدولة الإسلامية” شديداً جداً بحيث يعيد تنظيم القاعدة تأكيد نفسه كزعيم وحيد بلا منازع للحركة الجهادية، أو ربما تضع المجموعتان خلافاتهما جانباً وتسعيان إلى إعادة التقارب من أجل إبقاء شعلة الجهاد حية.
تم إنتاج هاتين النبوءتين -انتصار القاعدة أو اندماج جهادي- بشكل متكرر على مدى العام الماضي على ضوء التراجع الذي يبدو ختامياً لتنظيم “داعش”. ومع ذلك، لم تشرع أي من هاتين النبوءتين في التجسد -وهناك أسباب تجعلنا متشككين في كلتيهما.
تعتمد أولى هاتين النبوءتين على افتراض أن تنظيم القاعدة قوي، مرن، ويسترشد باستراتيجية حكيمة لكسب قلوب وعقول السكان وتحويل الصراعات المحلية لمصلحته الخاصة. ولكن، كم هي هذه الصورة دقيقة حقاً؟ من المؤكد أن تنظيم القاعدة ما يزال يحتفظ ببعض السيطرة على شبكة من المنظمات التابعة، من شمال أفريقيا إلى الهند. ولكنه خسر في الفترة الأخيرة أكثر أتباعه نجاحاً وقوة من بين الجميع، جبهة النصرة في سورية (المعروفة الآن باسم هيئة تحرير الشام)، والتي كان يُنظر إليها باعتبارها المثال لاستراتيجية كسب القلوب والعقول هذه.
عندما قطعت جبهة النصرة روابطها مع المنظمة الأم وراءً في تموز (يوليو) 2016، بدا ذلك للكثيرين مجرد حيلة. ولكن، ظهر لاحقاً أنها لم تتم استشارة زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، وأنه لم يوافق على ما حدث. وجاء ذلك في أعقاب خسارة تنظيم القاعدة، قبل سنتين من ذلك فحسب، تابعه السابق في العراق، تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، الذي ذهب إلى تغيير اسمه وإعلان الخلافة. ولا يتحدث أي من ذلك عن وجود استراتيجية ذكية بعيدة المدى لدى التنظيم.
ثم هناك تراجع قدرات تنظيم القاعدة الإرهابية بوضوح. ويواصل الظواهري الإصرار في تصريحاته العديدة على أن مهاجمة الغرب ما تزال تشكل أولويته العليا. ولكن، متى كانت آخر مرة نفذ فيها تنظيم القاعدة هجوماً رئيسياً في الغرب، أو حتى شيئاً من مستوى الهجمات التي شُنت في مانشستر أو جسر لندن؟ لقد مرت سنوات على ذلك. ويبقى تنظيم “داعش” أكثر قدرة بكثير في هذا الصدد.
بل إن فكرة المصالحة الجهادية أكثر صعوبة على الفهم بكثير من انتصار تنظيم القاعدة. فمستوى العداوة بين “داعش” والقاعدة لا يمكن إغفاله. ويلعن أتباع هاتين المجموعتين بعضهم بعضاً، ويصف الموالون للقاعدة أعضاء “داعش” بأنهم “متطرفون”، و”خوارج” و”تكفيريون”؛ وفي المقابل، يصف جماعة “داعش” أنصار القاعدة بأنهم “يهود الجهاد”، وموالون للزعيم “الصوفي” لطالبان المهرطقة. وهذا الصدع لا يمكن جَسره ببساطة. وربما يبدو وكأنه شيء جديد، لكنه في الحقيقة متأصل في الفروقات الثيولوجية والاستراتيجية الماثلة في الجهاد العالمي، والتي تعود وراءً إلى عقود.
باختصار، سوف تبقى الجهادية مقسمة. ومن شبه المؤكد أن تنظيم “الدولة الإسلامية”، الحاضر في شكل أو آخر منذ العام 2006، سوف يبقى على قيد الحياة. وكذلك سيفعل تنظيم “القاعدة”. لن يبتلع أي منهما الآخر، ولن يجري أي منهما أي تعديلات أيضاً.
صحيفة الغد