يُرجع بعض المراقبين الفضل في فوز ترامب في الانتخابات الرئاسة الأمريكية إلى موقع تويتر، وهو تحليل يوافق عليه ترامب نفسه. فقد صرّح أكثر من مرة بأن وسائل الإعلام التقليدية تعمل ضده منذ بداية ترشحه للانتخابات، وتعمل على تشويه تصريحاته، ولهذا فهو يفضّل التغريد عبر موقع تويتر لمخاطبة العالم على الإدلاء بتصريحات عبر وسائل الإعلام التقليدية.
اهتمام ترامب بالتغريد دفع وسائل الإعلام إلى الاهتمام بتغريداته، وصارت تقتبس منها، فصرنا نقرأ عناوين صحافية من قبيل:»تغريدات ترامب بشأن قطر تثير استياء في مجلس الشيوخ»، أو «تغريدات «سعيدة» لترامب وميلانيا من الرياض»، بعد أن كنا نقرأ عناوين من أمثال:»تصريحات أوباما تغضب حلفاءه». فاستبدلت «التصريحات» بـ»التغريدات»، فما الفرق بين كتابة ترامب تغريدة عبر تويتر وإدلائه بتصريح عبر وسائل الإعلام؟
عادة ما تكون التصريحات الإعلامية مجتزأة من مقابلة صحافية أو خطاب سياسي أو مؤتمر صحافي، فلا تذكر وسائل الإعلام التقليدية عادة كل ما قيل في هذه المناسبات، بل تختار منها ما تراه مهماً ومفيداً لجمهورها. هذا يعني أن الأمر مرتبط بالانتقائية الصحافية، وهي من أدوات تسلط الصحافيين، فيأخذون ما يشاؤون ويتركون ما يشاؤون. كما أن سياق التصريحات الإعلامية يظل مجهولاً بالنسبة للمتلقي، ما يسمح بفهمها فهماً مغايراً لما هو بالواقع، بالإضافة إلى أن الصحافيين لا يتركون التصريحات الإعلامية كما هي، بل يحولونها في أحيان كثيرة إلى اقتباسات غير مباشرة، يصيغونها بلغتهم وفهمهم الخاص، وهو فهم لا يكون بالضرورة متوافقاً مع فهم المتلقي، فيما لو سمع التصريحات في سياقها الكامل. من الأمثلة على ذلك تصريح لحسن فيروز آبادي المستشار الأعلى لدى خامنئي، ظهر على شاشة الجزيرة في 30.11.2016 مكتوباً بين علامتي تنصيص، ما يعني أنه اقتباس حرفي لأقواله، يقول فيه: «إيران لم ترسل الصواريخ إلى اليمن، حيث أن اليمن كان أكبر حليف لروسيا ويمتلك الصواريخ منذ القدم، وما دعمنا له إلا من منطلق واجب ديني وإنساني»، فلم يُعِد مذيع النشرة الإخبارية ما قاله فيروز آبادي حرفياً، بل صاغه صياغة غير مباشرة، حيث قال: «إن إيران لم ترسل الصواريخ إلى اليمن حيث إن اليمن كان أكبر حليف لروسيا وتمتلك الصواريخ منذ القدم وما دعمنا لليمن إلا من منطلق الواجب الديني والإنساني».
لقد أصاب المذيع في إعادته غير المباشرة وأخفق: فقد غيّر حرف النصب «أن» إلى «إن» بعد «حيث» وهو الأصح لغوياً، إلا أن تأنيثه للفعل «يمتلك» العائد إلى اليمن إلى «تمتلك» العائدة إلى روسيا قد غير المعنى. فمن التصريح الأول يُفهم منه أن اليمن من يمتلك الصواريخ منذ القدم، أما من التصريح الثاني فيفهم أن روسيا التي تمتلك الصواريخ منذ القدم. لقد لاحظنا هذا التغير لأننا شاهدنا التصريح الحرفي مكتوباً أمامنا على الشاشة، وسمعنا تحويله إلى تصريح غير مباشر ببث حي ومباشر، فكم من تصريح لم نعرف نصه الحرفي وحُرَف عند صياغته صياغة غير مباشرة بحيث تغيرّ معناه؟
هذا التغيّر في التصريح يمكن اعتباره خطأ مهنياً غير مقصود، إلا أن هناك تحريفا متعمدا لكثير من التصريحات السياسية.
من أمثلة ذلك تصريح للرئيس الراحل ياسر عرفات باللغة الإنكليزية نشرته وكالات الأنباء العالمية، عندما كان محاصراً في مقر إقامته عام 2001.
لقد أعادت كل من القناة الألمانية الأولى ARD وقناة «الجزيرة» صياغته مترجماً. إن ترجمنا ما قالته المحطة الألمانية لوجدنا أن تصريح عرفات كان يقول هكذا:» هل هذا مقبول؟ لا أستطيع حتى الخروج من الباب. إلى متى سيظل هذا الحال؟ هذا الحصار يجب أن يكون له تأثير على استقرار الشرق الأوسط برمته». أما قناة الجزيرة فترجمت ما قاله عرفات هكذا:» هل هذا مقبول أنني لا أستطيع الخروج من الباب؟ هل هذا مقبول؟ إلى متى سيظل هذا الحال؟ ألا تعتقدون أن هذا الأمر سيكون له آثار على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط؟».
فالسامع لترجمة مراسل القناة الألمانية لتصريح عرفات يفهم منه أن الرئيس يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط برمته. وهذا ظاهر من عبارة:» هذا الحصار يجب أن يكون له آثار على استقرار الشرق الأوسط برمته». فكلمة «يجب» تحمل في طياتها تهديداً مستقبلياً مؤكداً لزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وكلمة «برمته» تبين ضخامة هذا التهديد، التي ستتجاوز الحدود التاريخية لفلسطين لتشمل منطقة الشرق الأوسط بكاملها.
أما السامع لترجمة قناة «الجزيرة» لتصريح عرفات يفهم أمراً آخر ويتكون لديه انطباع آخر. ففي هذه الترجمة يلاحظ السامع نسقاً واحداً من عبارات التساؤل، ولا يوجد من بينها عبارة مؤكدة واحدة. وهذا يعني أن الرئيس كان يطرح تساؤلات متكررة يفهم السامع منها أنه يشكي حاله تحت الحصار وما آل إليه. ولا يُفهم منها أنه كان يهدد بزعزعة أمن واستقرار الشرق الأوسط. هذا المثال يوضح أن احتمال إخراج تصريح سياسي من ثوبه الحقيقي بأيد صحافية وإلباسه معنى مغايراً أمر وارد.
أما التغريدة فلا سيطرة للصحافي عليها، فهي تصل للمتلقي مباشرة بلا واسطة صحافية وبلا تشويه أو تلاعب، ومخلوقة بذاتها بلا سياق خطابي، ويمكن لصاحبها حذفها أو تصليحها أو شرحها بتغريدة أخرى مباشرة، والأهم من كل هذا كله أن الصحافي لا يملك سوى أخذها كما هي ولا يجد مجالاً لمناقشتها، وهذا ما يفسر اقتباس وسائل الإعلام التغريدة مصورة كما هي. فهل يلام ترامب على ولعه بالتغريدات بدلاً من التصريحات؟
د.فايز شاهين
صحيفة القدس العربي