أبوظبي – لا يكشف الهدوء المهيمن في أروقة مقر هيئة الرقابة النووية في أبوظبي وتيرة العمل الدؤوب والكثيف الذي يجري خلف مكاتبها، حيث ينهمك مهندسون وخبراء من النساء والرجال في وضع اللمسات الأخيرة على برنامج ضخم سيدخل الإمارات قريبا في النادي النووي، ويعزز موقعها خليجيا ودوليا.
وعلى بعد نحو 300 كيلومتر غربا، عند الضفة المقابلة لإيران التي تمتلك برنامجا نوويا مثيرا للجدل، يعمل موظفون آخرون، إماراتيون وأجانب، في محطة براكة النووية للإجابة عن مئات الأسئلة التي تطرحها هيئة الرقابة، آملين في أن ينالوا في 2018 رخصة تشغيل أول المفاعلات الأربعة.
كان من المفترض أن يبدأ تشغيل المفاعل الأول من المفاعلات الأربعة في أكبر مجمع لتوليد الطاقة في العالم خلال العام الحالي، لتصبح الإمارات أول دولة خليجية وعربية تدخل النادي النووي.
لكن أبوظبي ارتأت رفع سقف التدقيق والمعايير العالمية وقررت أن تفحص جميع الأسئلة بدرجة غير مسبوقة قبل منح “مؤسسة الإمارات للطاقة النووية” المسؤولة عن تشغيل المفاعلات رخصة التشغيل في العام المقبل.
ويقول كريستر فيكتورسن المدير العام للهيئة الاتحادية للرقابة النووية المخولة منح الترخيص، إن مؤسسة الطاقة النووية “تقدمت بطلب الحصول على رخصة تشغيل المفاعل الأول في مارس 2015، وكان ملفا ضخما يتضمن أكثر من 15 ألف صفحة”.
وأكد أن الرخصة لن تمنح قبل الإجابة عن تلك الأسئلة، والتأكد من أن خطط الطوارئ وضعت في مكانها وهي كافية للتعامل مع أي حادث.
خلدون خليفة المبارك: تركيزنا منصب على الجودة والسلامة والكفاءة طوال عملية التطوير والإنجاز
وأضاف لوكالة الصحافة الفرنسية “أرسلنا لهم حتى الآن أكثر من ألف سؤال ومازلنا نرسل الأسئلة”. وأكد مشددا على أن الرخصة لن تمنح قبل الإجابة عن تلك الأسئلة، والتأكد من أن خطط طوارئ كافية للتعامل مع أي حادث وضعت في مكانها.
وأشار فيكتورسن الذي يحمل الجنسيتين الفنلندية والسويدية إلى أن “المسألة قد تتطلب أشهرا”، لكنه أكد أن عام 2018 “هو بلا شك عام التشغيل”.
وبحسب مؤسسة الطاقة النووية، فإن النسبة الكلية لإنجاز المفاعلات الأربعة وصلت إلى نحو 82 بالمئة، في حين وصلت نسبة إنجاز المفاعل النووي الأول إلى أكثر من 96 بالمئة.
قد تبدو مسألة امتلاك برنامج نووي سلمي أمرا طبيعيا في مناطق أخرى من العالم، لكن المفارقة في الخليج أن دولة الإمارات تبني مشروعا نوويا في منطقة تعصف بها الأزمات السياسية والأمنية منذ عقود.
ويدفع هذا الواقع المسؤولين الإماراتيين ومديري البرنامج إلى التشديد على الطبيعة الآمنة لهذا المشروع الذي تقررت إقامته في عام 2009 ضمن مشروع ضخم بلغت قيمته أكثر من 25 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يساهم البرنامج النووي في إنتاج نحو 25 بالمئة من حاجة الإمارات للكهرباء بحلول عام 2020 من خلال إنتاج 5600 ميغاواط، إضافة إلى تعزيز مكانة الإمارات كدولة مؤثرة إقليميا وعالميا.
وفي ظل أزمة الثقة بين دول الخليج وإيران، والأحداث الأمنية والهجمات التي شهدتها دول مجاورة بينها المملكة السعودية والكويت، يؤكد المسؤولون الإماراتيون والأطراف المشغلة للبرنامج النووي أن هذا المشروع لن يسبب المزيد من التوترات كونه منحصرا بخطط محلية لتنويع الطاقة.
ويقول دبلوماسي كوري جنوبي مقيم في الإمارات فضل عدم الكشف عن اسمه، إن مشـروع محطـة بـراكة “سيكـون له دور مهم في اقتصاد الإمارات، لكنـه سيكـون أيضا مثالا ممتازا للدول العربية الأخرى لحيازة الطاقة النووية واستخدامها في المجالات السلمية”.
وسبق أن أعلنت عدة دول عربية بينها السعودية ومصر والأردن في الأعوام السابقة عن نيتها بناء محطات نووية مماثلة.
ويضيف الدبلوماسي “لا نعتقد أن المفاعلات النووية ستتسبب بمشاكل في المنطقة. تعاوننا مبني على جهود التطوير، والدول العربية الأخرى ستتفهم هذا الأمر”.
كريستر فيكتورسن: أرسلنا لمؤسسة الإمارات للطاقة النووية أكثر من ألف سؤال ومازلنا نرسل الأسئلة
حقائق وأرقام البرنامج النووي الإماراتي
* تأسست مؤسسة الإمارات للطاقة النووية في عام 2009 وهي مؤسسة حكومية تتولى تصميم وإنشاء وتشغيل البرنامج النووي. كما أنها تعمل، بصفتها ذراعا للاستثمار لحكومة أبوظبي، على جذب استثمارات في قطاع الطاقة النووية على الصعيدين المحلي والدولي.
* شركة “نواة” للطاقة مملوكة بالشراكة بين مؤسسة الإمارات للطاقة النووية والشركة الكورية الجنوبية للطاقة الكهربائية (كيبكو) التي فازت بعقد بناء المفاعلات، وهي المسؤولة بشكل مباشر عن تشغيل البرنامج.
* الهيئة الاتحادية للرقابة النووية: جهة حكومية تأسست في 2009 وتتولى مسؤولية وضع اللوائح وإصدار التراخيص الخاصة بكافة الأنشطة النووية في دولة الإمارات، وفي الجهة الوحيدة المخولة بإعطاء الضوء الأخضر لبدء إنتاج الطاقة النووية في موقع براكة.
* أعلنت دولة الإمارات في نهاية 2009 توقيع العقد الرئيسي بقيمة 20.4 مليار دولار، الذي أوكلت بموجبه إلى تحالف بقيادة “كيبكو” مسؤولية بناء المفاعلات النووية.
* وقعت الحكومة الإماراتية أيضا عقودا تصل قيمتها إلى 3 مليار دولار مع أكثر من 1400 شركة إماراتية محلية تعمل في عدد من القطاعات المساندة.
* تشارك 6 شركات عالمية في قطاع توريد الوقود النووي، بينها أريفا الفرنسية وريو تينتو البريطانية من أجل تزويد المفاعلات بالوقود النووي لمدة 15 عاما، ضمن عقود تقدر قيمتها بنحو 3 مليارات دولار.
* تقول الحكومة الإماراتية إن الدولة بحاجة إلى مصادر جديدة للحصول على الكهرباء، حيث أنه من المتوقع أن ترتفع ذروة مستوى الطلـب الـوطنـي السنـوي إلى أكثر من 40 ألف ميغـاواط بحلـول عـام 2020.
* تشير الخطط الموضوعة إلى أن المفاعلات الأربعة ستتمكن من توليد ما يصل إلى 25 بالمئة من حاجة الإمارات إلى الكهرباء بحلول عام 2020.
* المفاعلات النووية التي يجري بناؤها من طراز “أي.بي.آر 1400” وهي تعمل بالماء المضغوط وتصل القدرة الإنتاجية للمفاعل الواحد إلى نحو 1400 ميغاواط من الكهرباء ويصل العمر التشغيلي للمفاعل الواحد إلى نحو 60 عاما.
* تم استخدام أكثر من مليـون و70 ألف متر مربع من الخـرسانة في إنشـاء المفـاعلات الأربـعة، وهـي كميـة تمثـل ثـلاثـة أضعاف إجمالي كمية الخرسانـة المستخدمة في بناء برج خليفة، أطول برج في العالم.
* كما تم حتى الآن استخدام أكثر من 250 ألف طن من حديد التسليح وهي كمية تفوق كمية الحديد المستخدم في برج خليفة بنحو 6 أضعاف.
* يبلغ عدد موظفي مؤسسة الإمارات للطاقة النووية وحدها أكثر من 1700 موظف. وتقول المؤسسة إنها ستحتاج بحلول عام 2020 إلى نحو 2500 موظف وموظفة في مختلف التخصصات مثل المهندسين والتقنيين وموظفي الدعم.
* يعتمد البرنامج النووي الإماراتي في الأدوار الإدارية والرقـابية وصولا إلى أدوار التشغيل المباشرة على مـوظفين من جنسيات مختلفة بينها السويدية والروسية والبريطـانية والكـورية الجنوبية، لكن مـؤسسـة الطـاقة النـووية تـؤكد أنهـا ملتـزمة بنسبة توطين لا تقل عن 60 بالمئة.
* أسست دولة الإمارات برامج تدريب ومنح باسم برنامج “رواد الطاقة” لاستقطاب طلبة الثانوية العامة المتفوقين وخريجي الهندسة والخبراء من مختلف التخصصات لكي ينضموا إلى قطاع الطاقة النووية. ويمكن لكل من يرغب بالانضمام إلى البرنامج الذي يشمل منحا دراسية في الداخل والخارج أن يقدم طلب التسجيل عبر الإنترنت.
وتقع المنشآت النووية الإماراتية في نطاق صلاحيات جهاز حماية المنشآت الحيوية والسواحل. وحاليا، يتلقى السكان الذين يعيشون في دائرة قطرها 50 كيلومترا من المحطة تعليمات حيال كيفية التعامل مع الحوادث.
لكن الأمان النووي لا يتعلق بالإمارات فقط. فالمحطة تبعد نحو 50 كيلومترا عن السعودية غربا، وحوالي 320 كيلومترا عن سلطنة عمان ونحو 350 كيلومترا عن إيران. ولذلك أقيمت مؤتمرات إقليمية جمعت أطرافا مختلفة في المنطقة لمناقشة الأمان النووي، وفقا لمدير هيئة الرقابة.
ويؤكد فيكتورسن أن “الأمان مسألة مهمة جدا، وقد وضعنا قوانين تتعلق بعدة مجالات في هذا الشأن”، بينها إقامة تمارين مستمرة تحاكي وقوع حوادث في محطة براكة للطاقة النووية تشمل الموظفين في البرنامج وأجهزة وزارة الداخلية الإماراتية.
وبهدف تفادي أي شكوك مستقبلية حيال طبيعة برنامجها النووي، عمدت الإمارات، التي تضم نحو 8 بالمئة من احتياطات النفط العالمية، إلى الابتعاد عن أكثر المسائل إثارة للجدل مثل تخصيب اليورانيوم.
وقطعت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية الأسبوع الماضي خطوتين كبيرتين نحو إكمال المشروع الرائد عالميا، حين كشفت عن تركيب مولدات البخار وحاوية المفاعل الرابع في محطة براكة، لتصل نسبة الإنجاز في المفاعلات الأربعة إلى 82 بالمئة.
وأعلنت استكمال عمليات تركيب مولدات البخار في المحطة الرابعة وتركيب حاوية المفاعل الرابع، الذي قالت إنه خطوة حاسمة في مسيرة البرنامج النووي السلمي الإماراتي. وتزن الحاوية التي تعد من أكبر وأهم مكونات المحطة النووية أكثر من 500 طن ويصل ارتفاعها إلى نحو 15 مترا.
ويعتبر مشروع براكة أكبر موقع إنشائي لمحطات الطاقة النووية السلمية في العالم، حيث يجري بناء 4 محطات متطابقة في آن واحد، متقدما على المواقع النووية في الصين والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا، بحسب بيان سابق للمؤسسة الإماراتية.
وقال خلدون خليفة المبارك رئيس مجلس إدارة مؤسسة الإمارات للطاقة النووية إن “البرنامج النووي السلمي الإماراتي يدعم تحقيق خطة أبوظبي لتنويع مصادر الطاقة لتعزيز النمو الاقتصادي على المدى البعيد”.
وأشاد “بالالتزام اللامتناهي والمستوى المهني العالي لكافة فرق العمل، حيث ظل تركيز مهندسينا من الكوادر الوطنية والخبراء العالميين وشركائنا من كوريا الجنوبية منصبا على الجودة والسلامة والكفاءة طوال عملية التطوير والإنجاز”.
وأكد جاسم محمد بوعتابة الزعابي رئيس مكتب اللجنة التنفيذية وعضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي أن “الطاقة النووية تلعب دورا إستراتيجيا في صناعة مستقبل الإمارات وتوفر فرص عمل في مجال الطاقة النووية للشباب الإماراتي”.
وقال محمد إبراهيم الحمادي الرئيس التنفيذي لمؤسسة الإمارات للطاقة النووية إن المؤسسة التزمت بتطوير البرنامج النووي السلمي الإماراتي وفق أعلى معايير الجودة والسلامة وتكريسه نموذجا عالميا سواء خلال العمليات الإنشائية أو التشغيلية.
وأشار إلى أن استكمال تركيب آخر حاويات المفاعلات ومولدات البخار في براكة يعكس مدى الجهود والمثابرة التي حرصت على تقديمها فرق العمل خلال الفترة الماضية وعزمها مواصلة هذا العمل حتى إنجاز المشروع بالكامل.
وقال محللون إن تأجيل تشغيل المفاعل الأول يكشف ارتفاع المعايير التي تعتمدها المؤسسات الرقابية الإماراتية في أكبر مشروع لتوليد الطاقة النووية السلمية في العالم.
وأعلنت المؤسسة أن “تمديد موعد العمليات التشغيلية إلى عام 2018 يهدف لضمان وقت كاف لإجراء عمليات التقييم الدولية والالتزام بأعلى معايير السلامة العالمية فضلا عن تعزيز الكفاءة التشغيلية للمحطة ومشغليها”.
ومن المقرر أيضا أن يقوم خبراء من الوكالة الدولية للطاقة الذرية والرابطة العالمية للمشغلين النوويين بتقييم هيكل محطة براكة والعاملين بها.
وتندرج مفاعلات محطة براكة ضمن الجيل الثالث من مفاعلات الطاقة النووية التي تتميز بأحدث التقنيات المتطورة بين تصاميم مفاعلات الطاقة النووية في العالم.
العرب اللندنية