بعد جفاء استمر سنواتالرياض وطهران لا سيما بعدقطع العلاقات الدبلوماسيةبينهما؛ التقطت كاميرات المصورين في إسطنبول مصافحة نادرة بين وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ونظيره الإيراني جواد ظريف، على هامش الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي.
هذه المصافحة -التي أتت في خضم توتر وصراعات بين البلدين على أكثر من ساحة- لم تكن خطوة يتيمة تشير إلى تغيير ما أو ليونة في الموقف السعودي، إذ سبقتها زيارة للزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر إلى الرياض بدعوة من ولي العهد الأميرمحمد بن سلمان، حيث لاقى الصدر حفاوة بالغة منذ وصوله.
وإذا كانت العلاقة بين الصدر وطهران قد شابها توتر في الآونة الأخيرة؛ فإنها لا تزال متينة في العمق. ولا شك في أن قضايا مثل الموضوع اليمني وإعادة العلاقة بين بغداد والرياض -التي تتحسن باطراد- كانت في صلب المحادثات التي أجراها الصدر مع السعوديين.
وكذلك كانت هذه الموضوعات في صلب مباحثات الزيارات التي أجراها مسؤولون عراقيون كبار آخرون، من بينهم وزير الداخلية قاسم الأعرجي الذي صرح بأن الرياض طلبت من بغداد إجراء وساطة مع طهران، مثيرا بذلك عاصفة من الجدل.
إشارات ومؤشرات
وعلى أي حال؛ فقد سبقت المصافحةَ المذكورة إزالةٌ لكل العقبات والالتباسات التي أدت إلى مقاطعة الحجاج الإيرانيين للحج العام الماضي؛ فقد وجّه وزير الأوقاف السعودي دعوة إلى رئيس هيئة الحج الإيرانية لزيارة السعودية، وألغيت الشروط المتعلقة بسفر الحجاج الإيرانيين وتم تسهيل دخولهم من دون عوائق عبر السفارة السويسرية بطهران التي ترعى المصالح السعودية، كما حُلّت مسألة مظاهرات الإيرانيين للبراءة من الكفار.
“وكان لافتا أيضا عدم صدور أي إشارة سلبية من السعودية أو من أصدقائها على العملية العسكرية التي نفذها حزب الله والجيش اللبناني في الجرود الشرقية للبقاع، حيث جرى اقتلاع مسلحي جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية. وقد سبقت ذلك معلوماتٌ متطابقة عن اتفاق ضمني إيراني/سعودي أنتج وصول ميشال عون إلى رئاسة لبنان”
وتزامنت هذه الإجراءات مع دعوة محمد علي الحوثي رئيس اللجنة الثورية العليا في جماعة الحوثي (المقربة من إيران) السعوديةَ إلى التوقيع على هدنة فعلية في البيت الحرام، تلزم الجميع في كل الجبهات بعدم القتال، وبفك الحصار والسماح لليمنيين بالحج حتى تنتهي هذه الأشهر. وهذا ما يؤكد وجود مُرونة سعودية إيرانية مشتركة.
وكان لافتا أيضا عدم صدور أي إشارة سلبية من السعودية أو من أصدقائها على العملية العسكرية التي نفذها حزب الله والجيش اللبناني في الجرود الشرقية للبقاع، حيث جرى اقتلاع مسلحي جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية.
وقد سبقت ذلك معلوماتٌ متطابقة عن اتفاق ضمني إيراني/سعودي أنتج وصول الرئيس ميشال عون المتحالف مع حزب الله إلى سدة الرئاسة اللبنانية وتولي حليف السعودية سعد الحريري رئاسة الحكومة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أعقب المصافحةَ بين الوزيرين بيانٌ صادر عن وزارة الخارجية الإيرانية، أشار إلى قرب تبادل الزيارات الدبلوماسية بين طهران والرياض.
ونقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية (إسنا) عن ظريف قوله إن الزيارات الدبلوماسية المتبادلة بين البلدين قد تبدأ أوائل سبتمبر/أيلول المقبل، أي بعد انقضاء موسم الحج؛ مشيرا إلى أنه قد صدرت فعلا تأشيرات للدبلوماسيين من الجانيين، وأن العمل جارٍ لإتمام الخطوات الأخيرة التي تمكن دبلوماسيّي البلدين من دخول سفاراتهم وقنصلياتهم.
واللافت أن الرياض كانت مبادرة إلى تخفيف التوتر مع طهران، وهو ما يتناقض مع التصريحات التي أدلى بها ولي العهدالجديد الأمير محمد بن سلمان في مايو/أيار الماضي، واتهم فيها إيران بمحاولة الاستيلاء على مكة المكرمة والمدينة المنورة.
لا بل أكثر من ذلك؛ فإن ظريف استخدم العبارات ذاتها التي كانت ترد في البيانات الرسمية السعودية عند الحديث عن إيران، ولا سيما مطالبته الرياض بتغيير سلوكها، مما يعكس إدراك طهران للحاجة السعودية إلى تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، بعدما كادت أن توصلها سياساتها الأخيرة -باشتباكاتها المتكررة مع أكثر من طرف وحصادها الفشل في أكثر من ملف- ليس فقط إلى طريق مسدود بل وأيضا إلى ما هو أسوأ من ذلك.
عوامل الاستدارة
ولعل ما عجل في الاستدارة السعودية للبحث عن مخرج جديد للوضع القائم والانفتاح على عدوها اللدود إيران، هو خروج الأزمة في البيت الخليجي عن سيطرتها، وفشلها في فرض الانصياع على الدوحة، وعدم قدرتها على تحقيق أي من مطالبها الـ13، مما أفرز توازنا جديدا في الخليج ليس لمصلحتها.
وخصوصا بعدما حظيت قطر بتضامن دولي وإقليمي لا سيما مع دخول تركيا على الخط، وهي الدولة التي تعتبرها السعودية ضمنا منافسا إسلاميا وإقليميا لها. ومع تطور هذه الأزمة بات على الرياض أن تركز على تحييد إيران عن هذا الصراع لإبعادها عن الدوحة، حتى لا تُجْبَهَ بحلف قوي جديد في عقر دارها الخليجي.
أضف إلى ذلك أن أزمة اليمن بلغت حدا خطيرا لم يعد بإمكان السعودية أن تقفز فوقه، خاصة بعد تفاقم الأزمة الإنسانيةفي هذا البلد المنكوب، وتصاعد الحملة الدولية المنددة بالانتهاكات الحاصلة هناك، وفشل التحالف الذي تقوده الرياض في تحقيق إنجاز ميداني يعتد به في مواجهة تحالف الحوثيين مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
“ما عجل في الاستدارة السعودية للبحث عن مخرج جديد للوضع القائم والانفتاح على عدوها اللدود إيران، هو خروج الأزمة في البيت الخليجي عن سيطرتها، وفشلها في فرض الانصياع على الدوحة، وعدم قدرتها على تحقيق أي من مطالبها الـ13، مما أفرز توازنا جديدا في الخليج ليس لمصلحتهاخصوصا بعدما حظيت قطر بتضامن دولي وإقليمي لا سيما مع دخول تركيا على الخط، “
هذا إلى جانب وصول الصواريخ الحوثية إلى عمق الجنوب السعودي، وبقاء حكومة الرئيس عبد ربه منصور هاديبعيدا عن صنعاء وحتى عن عدن، وبالتالي كان لا بد من حل يحفظ ماء وجه السعودية، وهذا لا يكون إلا بعقد صفقة مع طهران الراعي الأول للحوثيين.
وقد ترافق فشل المشروع السياسي السعودي باليمن مع فشل مماثل في سوريا، حيث تراجع الدور السعودي كثيرا، وتعزز موقع النظام السوري بقيادة بشار الأسد سياسيا وماديا بعدما كانت الرياض أبرز المطالبين برحيله، في حين لم يعد هذا الأمر بندا على جدول أعمال كثير من أصدقاء الشعب السوري، وفي مقدمتهم واشنطن التي سلمت -إلى حد كبير- الأمر السياسي في هذا الملف إلى الروس حلفاء الأسد.
وجاء تراجع أسعار النفط وتزايد تكلفة الحروب التي تخوضها السعودية في أكثر من بلد، والصفقات المالية الضخمة التي أبرمتها الرياض مع واشنطن الرئيس دونالد ترمب؛ لتستنزف الكثير من الاحتياطات السعودية، وتجعلها تبحث عن مخارج لهذا الاستنزاف والحد من تراجع الإمكانات المالية السعودية. وهذا يتطلب البحث عن تسويات للأزمات السياسية المستفحلة والمسببة للنزف المالي.
ولا شك في أن تسوية كهذه تتطلب بالضرورة حوارا مع إيران الدولة الإقليمية الكبرى المنخرطة أيضا في هذه الأزمات. كما تتطلب إعادة رفد الخزانة بالأموال والمورد الأساسي فيها هي أموال النفط، وأي اتفاق من شأنه أن يرفع الأسعار يحتاج إلى توافقات من المنتجين الكبار وفي طليعتهم إيران.
وإذا كانت البراغماتية الإيرانية من شأنها أن تساهم في تطوير الانفتاح السعودي الجديد ودفعه خطوات إلى الأمام؛ فإن جبل المشكلات المتراكم بين الطرفين -منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979- قد يكبح هذه الاندفاعة، لا سيما أن الأجواء الإقليمية المحيطة بالعلاقات بين طهران والرياض لا تشير ربما إلى انفراج قريب.
وذلك في الوقت الذي تزدحم فيه هذه الأجواء بالعديد من الملفات الصعبة، بدءا من الحرب في اليمن وسوريا وانتهاء الوضع في العراق ولبنان، كما أن رؤوسا حامية لا تزال تتصدر الواجهة والقيادة في البلدين.
لكن ذلك لا يحول دون البحث -في أدنى الأحوال- عن هدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس من الطرفين اللذين باتا في حاجة ماسة إليه، أو التأسيس -في أفضل الأحوال- لمخارج توقف الحروب بالوكالة التي يخوضها الطرفان في أكثر من ساحة، وكلفت المنطقة أثمانا باهظة. وفي الحالتين؛ لا يُستبعد أن نرى تبادلا للزيارات بين البلدين على أعلى المستويات، بعد إعادة التطبيع الدبلوماسي بينهما.
أمين خليل قمورية
الجزيرة