توحي متابعة التطورات في سوريا بأن الجيش السوري هو الذي يحقق الانتصارات في حلب ودير الزور، وأنه مازال قويا وقادرا على “استعادة سلطة الدولة”. ويستند أنصار هذه الرؤية إلى أحدث تقييمات موقع “غلوبال فاير باور”، المتخصص في الشؤون العسكرية، للجيوش العربية والذي يضع الجيش السوري في المرتبة الرابعة من بين أقوى جيوش المنطقة، وهو تصنيف لا يؤكد الخبارء صحته باعتبار أن الموقع يصنف الجيوش بناء على الفرص المتاحة وليس على الوضع الحالي.
لكن، وكما تشير لينا الخطيب، رئيسة برنامج الشرق الأوسط في المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية “تشاتام هاوس”، فإنه لئن أظهر المشهد الخارجي أن الجيش العربي السوري هو الذي سيخلّص دير الزور والرقة من براثن داعش وسيستعيد سلطة الدولة في شرق سوريا، فإن التدقيق في تفاصيل الصورة يكشف أن المتحكم الفعلي هو الميليشيات التي أنشئت لدعم الجيش، ثم تطور دورها بما يضع مسألة “سلطة الدولة” محل شكوك وتساؤل عن مستقبل هذه الميليشيات وعمّن يقود الآخر في الوقت الراهن؟، وهل للجيش الكلمة العليا على الميليشيات أم العكس؟
الجيش السوري أصبح بيد إيران وهذه الميليشيات ستكون عقبة في وجه أي سلطة ستحكم البلاد على المدى البعيد،
تذهب الخطيب في إجابتها، التي جاءت ضمن متابعة نشرها موقع تشاتام هاوس، إلى القول إن “النظام السوري قد لا يُصبح قادرا على فرض سيطرته الكاملة على الميليشيات التي تقاتل في صفوفه بالمستقبل”، وهو ما يؤكده مجموعة من الضباط المنشقين عن الجيش السوري، كشفوا لـ”العرب”، أن مصدر القلق الرئيسي يكمن في تغوّل الميليشيات، لا سيما الآن في ظل معارك النظام في البادية ودير الزور، وسط خشية من أن تكون هي أكبر مستفيد في نهاية المطاف.
جيش قوي ولكن
كان الجيش العربي السوري يعتبر في حالة جيدة من ناحية عدد الضباط والعناصر والسلاح قبل الثورة السورية. ورغم أنه لم يكن مهيّأ عندما اندلعت الأزمة في البلاد في ربيع العام 2011، ورغم عقود من الفساد التي جرّدت الجيش من احترافه القتالي والعملياتي، فإنه استطاع، وفق خضر خضّور، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن يصمد في وجه ثورة شعبية حاشدة ويخوض حربا متعدّدة الجبهات.
لكن، يؤكد خبراء عسكريون أنه لولا الدعم الخارجي لما تمكن الجيش السوري من الصمود ومن تحقيق أي تقدم، خصوصا بعد أن خسر المناطق والعتاد في السنوات الأولى للحرب. ويشير العقيد المنشق عن الجيش السوري أحمد حمادة إلى أن تعداد الجيش السوري قبل الثورة كان يفوق نصف مليون بين ضباط وضباط صف وأفراد. وكان الجيش يحتكم على أكثر من 6000 مدرعة مختلفة الأنواع وأكثر من 600 حوامة وطائرة ثابتة الجناح.
ويقول حمادة لـ”العرب” كان “أغلب مصادر التسليح من روسيا وهناك تعاون عسكري وتقني مع إيران والصين”. ويضيف أنه “مع بداية الثورة بدأ النظام باستخدام هذا الجيش ومقدراته لقمع الثورة، مما أدى إلى تدهور إمكانياته وتدمير جانب كبير من عتاده وانشقاق وفرار القسم الأكبر من قواته البشرية، وهذا ما أدى إلى انخفاض جاهزيته القتالية إلى 18 بالمئة، وهذا يعني أنه غير قادر على القيام بالمهام المنوطة به”.
ويقدّر خبراء عسكريون أن ما تبقى من الجيش السوري يعادل أقل من ربع ما كان عليه قبل الثورة، فيما يرى آخرون أن نسبة ما تبقى تعادل تقريبا الخمس. ويؤكد العميد المنشق عن الجيش السوري إبراهيم الجباوي أن ما تبقى من الجيش مقسم وموزع على فرق وفيالق وألويات وهمية (باستثناء الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة). ويقول لـ”العرب” “الحقيقة أن ما تبقى عبارة عن مجموعات ملحقة بالميليشيات الطائفية التي جاءت بها إيران لمساندته”.
ويضيف الجباوي “لقد تجاوز عدد الضباط المنشقين عن هذا الجيش في منتصف عام 2013 ستة آلاف وخمسمئة ضابط من مختلف الرتب. وهذا العدد يقدّر بثلث عدد ضباط ذلك الجيش. أما ضباط الصف فتجاوز عدد المنشقين الأربعين ألف منشق منهم من لجأ إلى دول الجوار ومنهم من التحق بصفوف الثوار والجيش الحر. إضافة إلى ما يقارب عشرة آلاف من ضباط وضباط صف وأفراد تم اعتقالهم على مدى سنوات الثورة. وهناك من قتل في المعارك ويقدر عددهم بحوالي خمسين ألفا بين ضابط وجندي يحاول النظام تعويضهم من خلال التجنيد الإلزامي أو من الذين يعتقلهم على الحواجز”.
ويعتقد العميد الركن المنشق عن الجيش السوري مصطفى الشيخ أن ضعف الجاهزية كانت من أهم عوامل انهيار الجيش بعد عسكرة الثورة وتحولها إلى حرب. ويقول الشيخ لـ”العرب” “دخل الجيش عام 2011 بنسبة جاهزية 45 بالمئة أو أقل من هذا، وبالتالي الجيش لا يعتمد على الضباط وإنما على المقاتلين، وهذا من أهم أسباب انهيار الجيش”.
جيش مرن
يصف خضر خضور الجيش السوري بأنه “ضعيف لكنه مرن”، مشيرا إلى مفارقة أن الفساد كان من أسباب بقائه. ويوضح خضور في دراسة نشرها مركز كارنيغي، أن الجيش العربي السوري تأسس في العام 1946، وسرعان ما برز بصفته لاعبا رائدا في التطوّر السياسي في البلاد. وكانت أبرز أدواره في ستينات القرن الماضي حين أدّت الانقسامات السياسية والأيديولوجية العميقة في الجيش إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية، أوصل آخرها وزير الدفاع وقائد القوات الجوية آنذاك حافظ الأسد، العضو في حزب البعث، إلى السلطة في العام 1970.
وبمساعدة طاقم صغير من الضباط، حيّد الأسد خصومه وحافظ على قبضة محكمة على الجيش، جاعلا جنوده معتمدين على زبائنية النظام من أجل الحصول على الترقيات والمنافع المادية. وعقب المواجهة الأخيرة للجيش مع إسرائيل في لبنان في العام 1982، تخلّى عن مهمته الأساسية المتمثّلة في محاربة الأعداء الخارجيين، وتحوّل إلى دور أكثر رمزية تمثّل في تعميم سردية محلّية تقول إن إسرائيل والبلدان الخارجية الأخرى، تشكّل تهديدا وشيكا ومتواصلا. وأصبح التجنيد العام أداة لإدارة المجتمع السوري وتعبئته.
ويشير المحلل الاستراتيجي السوري أحمد غنام بخصوص هذه النقطة إلى أن الجيش السوري كان يتعرض إلى ضربات متتالية من الطرف الإسرائيلي دون أن يكون هناك أي رد. ويقول غنام لـ”العرب” إن “الرد الوحيد هو الاحتفاظ بحق الرد! وهي المقولة المتكررة التي تحولت مع مرور الوقت إلى مادة للفكاهة والمزاح بين أبناء الشعب السوري”.
وعلى مدى سنوات ظل الجيش يسير وفق تلك الاستراتيجية. ولم تحدث تغييرات مهمة في هيكله التنظيمي الرسمي، عندما تسلّم بشار الأسد السلطة في العام 2000. واستمر الضباط في حصد السلطة بشكل زاد من الفساد وقلّص القدرة القتالية للجيش.
وعقب انتفاضة العام 2011، سهّل افتقار الجيش السوري للاحترافية، في الواقع، قدرة النظام على السيطرة وتخطّي أقسام سلك الضباط التي عارضت قمع الجيش للمعارضة؛ وهنا بدأت الانشقاقات تغيّر موازين الجيش، وقد انشق عنه أكثر من 3000 ضابط، معظمهم من السنّة، في خلال العام 2011. ويؤكد الرائد عصام الريس، الناطق الرسمي باسم الجبهة الجنوبية والمنشق عن الجيش السوري، أن الجيش قبل الثورة كان يعاني من الفساد والمحسوبية. ويقول الريس لـ”العرب” “انهيار الجيش كان بسبب إرسال قطعات وتشكيلات كثيرة غير مجهّزة للقتال في مناطق بعيدة عن تمركزها مثل جبل الزاوية وريف حماة الشمالي ودير الزور وهذا كان سببا في حدوث فوضى كبيرة وخرجت الأمور عن السيطرة مع حدوث انشقاقات بأعداد الكبيرة”.
ويشير خضر خضّور إلى أنه حالما تعسكرت الأزمة في العام 2012 كان في مقدور النظام أن يصدر الأوامر عبر نظام فعّال قائم على شخصيات موثوقة ترتبط ببعضها البعض بشكل وثيق عبر صلات عائلية وطائفية، وبمصالح تجارية ومالية مشتركة. ويؤكد ذلك العقيد المنشق عن الجيش السوري مالك كردي، مشيرا في تصريحاته لـ”العرب” إلى أن الطائفية كانت أحد عوامل تفكك الجيش، وظهر ذلك بوضوح في بداية الثورة.
ويذكر كردي أن “النظام عمد في بعض الوحدات إلى سحب السلاح الفردي (المسدس) من الضباط السنّة بينما قام بتعزيز التسليح الفردي للضباط الآخرين وهذا ما دفع باتجاه التكتل والاصطفاف الطائفي مما خلق شرخا في بنية الجيش وصنع أزمة ثقة بين قيادته، ومع زج الجيش في مواجهات مع المتظاهرين ونشر عدد من التشكيلات على الحواجز في مناطق واسعة بدأت عملية الانشقاقات في صفوف الجيش لكنها بقيت محدودة إلى مطلع العام 2012”.
وبعد ذلك، تزايد الانشقاق وبرز التصدع في بنية التشكيلات العسكرية لا سيما أفواج القوات الخاصة، حيث أدى ذلك إلى حل معظم هذه الأفواج منها الفوج 35 والفوج 46. ويضيف كردي أنه “حدث انهيار في القوى الجوية، حيث سقطت عدة مطارات عسكرية منها مطار الطبقة ومرج السلطان وأبوظهور ومنغ وحوصرت أخرى وأخرجت عن الخدمة كمطار كويرس ومطار حماة، وذلك بسبب هجمات الجيش الحر والفصائل الثورية وتهالك الطائرات الحربية منتهية الصلاحية”.
وفي منتصف العام 2013، تغيّرت المعادلات واضطر النظام إلى الانكفاء وإلى سحب معظم قواته لمناطق تجميع مختلفة تمكنه من السيطرة بالأسلحة الثقيلة على الطرقات والممرات الإجبارية.
ويقول كردي “هنا بدأت الحركة الانشقاقية بالتراجع بعد بروز تنظيم الدولة الإسلامية وما شابهه. ونظرا للنقص الحاد ظهر ما يعرف بقوات الدفاع الوطني كقوات رديفة للجيش النظامي، (يعرف أفرادها بالشبيحة). ولكن استمرت قواته في الخسارة، فدخلت على خط المعركة الميليشيات الطائفية الوافدة من العراق وإيران ولبنان”. ويقول أحمد غنام “نظرا لطول الفترة الزمنية للصراع الداخلي حوالي السبع سنوات، ارتسمت علامات الضعف والتفكك داخل هذه المؤسسة العسكرية (المتطيّفة). فتحولت إلى ميليشيات يقودها أمراء حرب وتجار معابر وحواجز”.
تغول الميليشيات
مع ترهل الجيش السوري تزداد قوة وعدد الميليشيات وتنظيمها وهيكلتها وتبعيتها للقيادة الإيرانية التي تمثلها قيادات من الحرس الثوري. ويوضح الرائد عصام الريس الترتيب القيادي في الجيش بالقول “يأتي في المرتبة الأولى قادة إيران، يليهم قادة حزب الله أو الميليشيات الشيعية ثم يأتي الضابط السوري في المرتبة الأخيرة. وبالتالي الهيمنة في المعسكرات والجبهات التي تتواجد فيها ميليشيات تكون إيرانية”.
ويقدر العقيد أحمد حمادة عدد أفراد الميليشيات الموالية لإيران بحوالي 107 آلاف وعدد الميليشيات بحوالي 66 ميليشيا أبرزهم زينبيون وفاطميون وحزب الله اللبناني والإبدال والنجباء وعصائب أهل الحق. ويقول العقيد كردي “أصبح الإيرانيون العنصر الأكثر وثوقية لبشار الأسد، فأوكلت إليهم حراسته الشخصية وأصبحوا المتنفذين في فرض قراراتهم. وظهر ذلك جليا في عمليات التهجير التي قادها حزب الله وفي نقل قافلة لداعش من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق”.
ويرى خبراء أن ابتعاد الضباط السوريين أعطى فرصة أكبر للميليشيات الإيرانية لتملأ النقص الحاصل في جيش النظام. وهناك آراء متناقضة حول أي مدى يمكن أن يستطيع النظام أن يهيمن على الميليشيات الإيرانية بعد الحرب؟ ويرى خبراء أن الجيش أصبح بيد إيران وهذه الميليشيات ستكون عقبة في وجه أي سلطة ستحكم البلاد على المدى البعيد، فيما يقول خبراء آخرون إن النظام يمتلك من الحنكة ما يتيح له القدرة على إعادة السيطرة على هذه الميليشيات بعد الحرب. وبعض الخبراء يقولون إن هناك حالات من عدم الثقة بين عناصر الجيش من مكون السنة مع غيرهم من المكون العلوي والمكونات الموالية للأسد، مما جعل الجيش قاصرا على القيام بما يطلب منه وأتاح الفرصة للميليشيات لتملأ الفراغ.
وتجذب الميليشيات الشباب الموالين للنظام بدلا من الانضمام إلى الجيش لأنها أكثر مرونة بالنسبة إليهم وغالبا ما يؤدون خدمتهم العسكرية في مناطقهم المحلية وتعطيهم صلاحيات وتسلّط على المدنيين، بالإضافة إلى أن الرواتب أعلى بكثير لأنها تُدفع بسخاء من إيران.
وباتت لدى هذه الميليشيات صلاحيات أكبر من الجيش وليس عليها أي مسؤوليات رسمية ولا تخضع لأي قوانين، حتى أن صلاحياتها تقيّد تحركات الجيش، فأحيانا عندما يحاول الجيش الدخول إلى مناطق الميليشيات يجد من يمنعه، مما يعني أنه أصبح يحتاج إلى إذن من هذه الميليشيات.
ويُذكر العميد مصطفى الشيخ “المشكلة أن بنية الجيش طائفية، فلا المتحكمون كالضباط العلويين مؤهلين لأن يكونوا جيشا بمعنى مؤسسة الجيش ولا العناصر الأخرى مؤهلة لذلك، وبالتالي الأمر المنطقي أن تكون إيران هي المسيطرة على الجيش وهذه تعتبر مشكلة وعقبة أمام الروس لفرض حل سياسي يتجلى في شكل عقدة حقيقية بين الروس والإيرانيين وخاصة بمدينة دمشق وحمص وحماة”.
وفشلت روسيا في إقامة الفيلق الخامس نظرا للدور الإيراني الذي عمل على المضاربة على الدور الروسي بهذا الخصوص، حيث سعت إيران لتقديم رواتب عالية لجذب المقاتلين إلى ميليشياتها بدلا من الدخول في الجيش السوري أو حتى الفيلق الخامس الذي كانت تسعى روسيا لإنشائه كوسيلة لإعادة هيكلة الجيش وتبني نواة جديدة له بالإضافة إلى خلق مكون عسكري من قوات برية رديفة لسلاح الجو الروسي، ولكن القلق الإيراني من إقصاء نفوذها كان العامل الرئيس الذي دفع طهران بشكل غير مباشر لعرقلة هذا الفيلق والحيلولة دون توفر القوى البشرية لتشكيله.
ويقول مقرّبون من الجيش السوري إن النظام السوري يخطط بعد انتهاء الحرب لعرض فرصة الانضمام على الميليشيات المحلية إلى الجيش أو تسليم سلاحها.
ولكن يرى خبراء عسكريون أن هذه الميليشيات لن تعود إلى الجيش السوري نظرا لضعف الرواتب والمزايا المحدودة بالمقارنة مع عملها كميليشيات، ولو أرادت العودة إلى الجيش لكانت انضمت إليه في الأصل ولم تشكّل ميليشيات. كما أن هناك أزمة معقدة تعود إلى التمويل الخارجي، فإيران تمول الميليشيات ولن تسمح بتفكيكها، بالإضافة إلى أن روسيا تموّل جهاز المخابرات السوري وبعض القطع العسكرية في الجيش، مما يجعل هذه المؤسسات أمام أزمة ولاء للممول والذي يتحكم بمصيرها.
وتذكر لينا الخطيب تحدّيا آخر يواجه الجيش السوري، وهو أنه أصبح أقل انتشارا وأكثر محلية في الطريقة التي يُدير بها المواجهات، حيث فقد الجنود الحافز الذي يدفعهم للقتال في المناطق البعيدة عن مواطنهم الأصلية، ناهيك عن الانقسامات التي تتسع داخل المؤسسات العسكرية السورية.
ويعزو ذلك جزئيا إلى تأثير مختلف الممولين الأجانب على المكاتب والكيانات العسكرية المختلفة، وهذا يجعل من الصعب على تلك المؤسسات أن تثق ببعضها البعض وأن تتقاسم المعلومات والنفوذ في المستقبل، مما سيمهّد الطريق أيضا أمام الميليشيات للتلاعب بتلك الثغرات والاستفادة منها لصالحها.
صحيفة العرب اللندنية