الفوضى العالمية في صعود. فما الذي تستطيع الولايات المتحدة فعله بهذا الخصوص؟ ثمة نهجان مختلفان من الناحية الأساسية، يستطيع المرء تبنيهما -ويعتمد الأمر كله على فلسفتك ونظرتك إلى الطريقة التي يعمل بها العالَم.
تفكر المدرسة الأولى بشكل رئيسي على أساس مفاهيم القانون والنظام والسلطة. وهي تقبل فكرة الحاجة إلى وجود رجل شرطة عالمي. أما المدرسة الثانية، فأكثر رغبة في جعل الدول الإقليمية تأخذ زمام المبادرة وتقوم بإصلاح الأمور في نهاية الأمر فيما بينها. وتنطوي كلتا المدرستين على مزايا ومضار. وثمة شيء يدعى سياسة القوة، والذي يقف في المنتصف بين المدرستين.
يرشح الشرطة العالميون أنفسهم من بين صفوف دول العالم الأكثر قوة -وطموحاً- في العالم. وعلى مدار نصف القرن الماضي، لعبت الولايات المتحدة هذا الدور، لكن ثمة تحولاً أكبر يختمرفي الوقت الراهن. في واشنطن، تقول هذه المدرسة إن تنامي عدم الرغبة الأميركية في فرض النظام يشكل سبباً رئيسياً لقدوم عالم أكثر فوضوية. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط اتحاد الجمهريات السوفياتية الاشتراكية في العام 1991، تقاسمت واشنطن، بتردد، ذلك الدور مع الاتحاد السوفياتي. وكانت الدولتان متخاصمتين، لكنهما لم تكونا راغبتين في أن يفلت العالم من زمام السيطرة ويسقط في أحضان الفوضى واحتمال نشوب حرب نووية. ثم بعد سقوط اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، تولت الولايات المتحدة، بروح المنتصر، دور “القوة العظمى العالمية الوحيدة”. وكانت الإمبراطورية البريطانية قد اضطلعت في قرن سابق بنفس الدور، على الرغم من منافسة ألمانيا وفرنسا وآخرين لها.
في واشنطن في الوقت الحالي، يقود المحافظون الجدد وأنصار نزعة التدخل من الليبراليين (أنصار فكرة تصدير الديمقراطية، باستخدام التهديد بالسلاح عند الضرورة) الحملة ضد ما يرونه تخلي الولايات المتحدة عن واجبها الأخلاقي، مما يترك العالم في حالة بؤس وحرج. وتطول قائمتهم التي تذكرالواجبات التي أخفقت أميركا في أدائها: لو أننا تحركنا في وقت سابق لإزاحة سلالة عائلة كيم في كوريا الشمالية، أو الأسد في سورية، أو منعنا إجراء الاستفتاء الذي أعاد ضم القرم إلى روسيا، أو غيرنا النظام في إيران، أو وظفنا قوة كافية لوضع حد للصراع الأهلي في أفغانستان، أو دعمنا أوكرانيا بقوة ضد روسيا، أو ضغطنا بقوة أكبر في فنزويلا، أو أسسنا خطوطاً أكثر حزماً في بحر الصين، أو حذرنا الرئيس الفلبيني دوتارت من سياساته الإجرامية ضد تجار المخدرات، أو تدخلنا لمنع نشوب حرب أثيوبية– صومالية- أريتيرية في القرن الإفريقي الاستراتيجي التي كانت تلوح في الأفق… إلخ، لكانت الأشياء ستتغير. ولا تنتهي قائمة الواجبات الأميركية المهملة، وفق رؤية مدرسة التدخل “الحميد”.
مجموعة من الأسئلة المقلقة:
– هل ترغب الولايات المتحدة في إهدار دماء أبنائها وثرواتها بشكل دائم في أنحاء العالم من خلال تدخلات عسكرية وسرية لإزاحة قادة غير ديمقراطيين -أو ببساطة قادة لا نحبهم؟ فقط لمجرد فكرة الحفاظ على التفوق الأميركي؟ وما هو المكسب الكلي في تحليل “الكلفة- المزية”؟
– إلى أي مدى تكون كلف الفرصة لهذه التدخلات مقبولة -في مقابل استخدام أفضل لأموال دافع الضرائب الأميركي محلياً؟
– إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة حقاً منع نشوء قوى أخرى لديها شعور متزايد بمصالحها ومؤهلاتها الخاصة؟ إن القوى الصغيرة تكون راغبة في التضحية بالكثير عندما يتعلق الأمر بالمصالح الموجودة على عتبة بيتها -مقارنة بالتحمس الأميركي المحدود للتدخل في الخارج من أجل كسب مشكوك فيه.
– كيف نرد على تكنولوجيا الأسلحة الصاعدة في الخارج، والتي تقيد حرية عمل الولايات المتحدة؟ ما تزال صناعة الأسلحة النووية تستخدم تكنولوجيات من منتصف القرن العشرين. وبحلول هذا الوقت، تقوم العديد من القوى بتطوير قدرات سيبرانية مهمة ضد الخصوم والمعارضين. وبالنسبة للمحارب السيبراني، فإن العالم يشكل مخزن حلويات من الأهداف. وينطبق الأمر نفسه على الطائرات المسيرة -وهي تكنولوجيا بسيطة تنتشر بسرعة، وقادرة على أن تلحق ضرراً محتملاً كبيراً.
وفي المقابل، يقبل المنظور المضاد لدور الشرطي العالمي بحقيقة أن هناك قوى جديدة تصعد من حولنا. وهناك القليل الذي نستطيع عمله بخصوصها. ونحن نواجه على نحو متزايد مراكز قوى بديلة رئيسية هناك. فالصين، التي لم تكن لاعباً بارزاً في السنوات المائة الأخيرة أو أكثر (على عكس ما كانت عليه في قرون سبقت ذلك بكثير) أصبحت تعود بقوة إلى المشهد العالمي وتعمل على تأكيد قوتها السياسية والاقتصادية والثقافية. بل إن الصين تتولى درجة جديدة من وظائف القيادة العالمية، والتي ينطوي بعضها على ملامح إيجابية.
وأوروبا، تعود بعد أكثر من قرن من من الحروب القاتلة والانتحارية إلى الوقوف أخيراً على أقدامها، وربما تمثل التجمع السياسي الأكثر تقدماً في العالم. ومع الكثير من القوة الناعمة والصلبة، تشعر أوروبا بأنها مستقلة على نحو متزايد.
ولروسيا رؤية عالمية تستند إلى قرون من ممارسة القوة بشكل واسع في يوروآسيا وفي الحرب الباردة كـ”قوة عظمى عالمية”. وتسبق قوتها الدبلوماسية والعسكرية اقتصادها البائس بشكل كبير، لكنها راغبة في دفع الكفة اللازمة لكي تكون طرفاً في اللعبة العالمية. وكما هو الحال مع الصين، فإن روسيا ليست عاملاً سلبياً تماماً على المسرح العالمي إلا بالنسبة لأولئك الصقور الأميركيين المترددين في التوصل إلى تسوية مع أي قوة بديلة.
بالإضافة إلى ذلك، يشهد العالم من القوى الوسيطة التي تؤكد مصالحها في مناطقها الخاصة أكثر مما كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي قد “أجازاه” في أي وقت خلال حقبة الحرب الباردة. واليوم، تضم هذه القائمة دولاً مثل الهند والبرازيل واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران وكندا، حيث ثمة مشاعر قوية لدى هذه الأمم بمصالحها الخاصة.
الكثير من نقاط الاشتعال
يواجه أي شرطي عالمي اليوم عدداً متزايداً من نقاط الاشتعال التي تفوق قدراته. والعديد منها بشع وقد يكلف فقدان أرواح الملايين من الناس. وسوف تستمر الأزمات الإنسانية في أن تظل وفيرة (مثل الأزمات في فلسطين واليمن وجنوب السودان والكونغو وأفغانستان والعراق وسورية وميانمار وأفغانستان، وكذلك أزمة اللاجئين العالميين).
بالإضافة إلى ذلك، تخلق ظاهرة الاحترار العالمي والانحطاط البيئي تيارات قوية من اللاجئين، وتفرز ملايين الجوعى والمعوزين الغاضبين. لكن التدخل الأميركي لم يصمم للتعامل مع هذه القضايا.
ثم إن التدخل الروتيني من جانب شرطي عالمي يخلق حالة سلبية رئيسية أخرى: الطفولة السياسية المستمرة للعديد جداً من البلدان في العالم. ويقود التدخل الأميركي الروتيني دائماً إلى ظهور أطراف متحاربة تفضل في النهاية التعامل مع واشنطن بدلاً من التعامل مع منافسيها على السلطة. وقد رأينا ذلك يحدث مراراً وتكراراً، وأحدث شيء في أفغانستان والعراق وسورية وأوكرانيا وغيرها؛ حيث تفضل الفصائل اللعب مع واشنطن لتحصيل ما تريد على مواجهة الحقائق المحلية. وعلى سبيل المثال، نرى دول الخليج وهي تلعب اليوم بورقة واشنطن ضد إيران بدلاً من الاتصال مع إيران.
وهكذا ينشأ وضع صعب وأكثر عمقاً: هل ينبغي “السماح” لمعظم البلدان والشعوب بأن تصنع وصفاتها الخاصة؟ بتسوية قضاياها الخاصة؟ ألا يجب أن تتولى هي المسؤوليات المحلية؟ ألا ينشأ النضج السياسي من رحم الاضطرار إلى التعامل مع المنافسين في داخل بلد ما أو منطقة ما؟ فلنتذكر أن الجميع يبدون شغفاً في أن تحارب الولايات المتحدة في صفهم. ألم يتطلب واقع الحال في حينه اندلاع حربين عالميتين فظيعتين (سبقتهما العديد من القرون الأبشع) قبل أن يدرك الأوروبيون الميالون إلى الحرب أن ما جرى كان كافياً، ويبتكروا بعد ذلك آليات للتعامل مع بعضهم بعضا؟ ومع ذلك، أصبح موضوع إيمان فكرة أن الحرب في السياسات الأوروبية ليس قابلاً لمجرد التفكير فيه.
هل يجب أن “تنضج” المشاكل (باستخدام هذا المصطلح البشع في العلم السياسي) قبل أن تقرر الفصائل المتحاربة أن الضغط في اتجاه أطالة أمد الصراع هو ببساطة شأن ضار جداً وخطير جداً ومكلف جداً -وحتى غير أخلاقي؟
في مقال مدروس ومعروض بمهارة، يظهر الصحفي المخضرم والمراقب الجيوسياسي المحافظ والمفكر روبرت كابلان انتماءه إلى المعسكر الأول: الحاجة غير القابلة للاستغناء عنها لفرض القانون والنظام.
وفي المقابل، يحاجج كابلان بأن التزام الولايات المستمر بمثُلها الدولية الأعمق هو الكفيل فقط بجعل الولايات المتحدة ما هي عليه الآن؛ وإذا فشلنا في الاحتفاظ بمثُلنا، فإننا نكون قد تركنا أنفسنا بلا مبدأ وطني منظم -وبذلك من دون هدف وطني. (لا يهم ما إذا كانت هذه “المثُل” معتنقة على أسس انتقائية ومتحولة).
منطق مريب للمحافظين الجدد؟
ولكن، هل نعتقد فعلاً بأن الولايات المتحدة سوف تكف عن النمو كمجتمع في غياب “الحفاظ على القيم العالمية”. سوف يكون من المحزن التفكير بأن عظمة الولايات المتحدة تعتمد على التدخل والحرب الدائمتين باسم الحفاظ على النظام العالمي.
إلى أي بعد تستطيع الولايات المتحدة الذهاب “بسخاء” في إمداد النظام العالمي؟ ربما يكون مقدراً لنا في الحقيقة أن نشهد عالماً داروينياً باطراد، والذي يعمل من دون “الأخ الكبير”. لكن الكتابة على الحائط تقول: ثمة قلة في العالم ما تزال تدعم ممارسة الدور الأميركي كشرطي العالم -أو ربما ممارسة أي دولة مفردة لدور الشرطي.
إذا احتاج الأمر إلى دور هذا الشرطي (وقد يكون هناك بين الفترة والأخرى دور له، فإن من الأفضل أن يضم مجموعة من اللاعبين الدوليين الرئيسيين -في الحد الأدنى، الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا. كما أن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، يلعب -عندما يستطيع الاتفاق- دوراً مهماً. وفي الحقيقة، تبدو هذه القوى الثلاث مصممة لحرمان الولايات المتحدة من أي احتكار آخر للقوة العالمية. وكان ذلك صحيحاً قبل ترامب.
في نهاية المطاف، كيف نفكر بخصوص التاريخ؟ بعملية تقدم تدريجي؟ أم بالإبقاء على الفوضى بعيدة فقط بعمل القوى الكبرى؟ وهل يتوافر التاريخ على أي “معنى”، أي مسار مقروء؟ أو، كما فند رجل دولة بريطاني سابق الفكرة برمتها: “إن التاريخ هو مجرد قدوم شيء لعين بعد الآخر”.
إذا كنا نعتقد أن الصراع الدائم يشكل ببساطة عنصراً أساسياً للحالة الإنسانية، فإن الأطروحة الداعية إلى وجود شرطي عالمي تكتسب وزناً. لكن ممارسة دور الشرطي العالمي سوف تكون منذ الآن بالتشارك -سواء أحببنا ذلك أم لا. ومهما قد يكون ذلك “غير فعال”.
بعد كل شيء، لم يعد هناك العديد من المهيمنين “الحميدين” للقيام بهذه الوظيفة -إذا كانوا قد وجدوا أبداً من الأساس.
جراهام أي.فولر
صحيفة الغد