هل ينهار النظام الليبرالي العالمي؟ في الرد على موجة القومية والشعبوية التي أفرزت الخروج البريطاني وانتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، أصبح من الشائع الادعاء بأن النظام العالمي الليبرالي “يتم استبداله حالياً بدوامة كارثية من الحمائية، وصعود الاستبدادية وصراع القوى الكبرى، بما يعيد إلى الأذهان عقد الثلاثينيات”. وغالباً ما يترافق مع هذا الطرح الادعاء بأن إجماعاً حزبياً ثنائياً كان موجوداً لصالح “النظام الليبرالي العالمي” منذ العام 1945 وحتى الموجة الشعبوية في الأعوام القليلة الماضية. فمثلاً، يحذر عالم معهد بروكينغز، روبرت كاغان، من أن “النظام الليبرالي العالمي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية قد يصل إلى نهاية، لكونه يواجه بالتحدي من جانب قوى من الداخل ومن الخارج على حد سواء… ومع انتخاب دونالد ترامب، أعربت غالبية من الأميركيين عن عدم رغبتها في الاستمرار بالاحتفاظ بالنظام العالمي”.
قد تكون هذه دعاية فعالة معادية للشعبوية في صفوف النخب، لكنها تنطوي على تاريخ بائس. فالحقيقة أنه لم يكن هناك منذ العام 1945 نظام عالمي ليبرالي ثابت، وإنما كانت هناك نسخ عديدة متتالية من النظام الليبرالي العالمي، والتي عاشت كل واحدة منها لعقدين قبل أن تفسح المجال لنظام مختلف بعض الشيء، والذي يمكن وصفه بأنه ليبرالي. ومن المرجح أن يكون النظام الجديد الذي سيظهر من الاضطرابات المحلية والجيوسياسية الحالية نسخة محدثة من النظام الليبرالي العالمي، وليس نفيه.
كان النظام الليبرالي العالمي قد تأسس على أيدي المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وكان دستوره ميثاق الأمم المتحدة للعام 1945. وكان النظام العالمي الجديد ليبرالياً في مفهوم القرن التاسع عشر -مؤسساً علاقات دولية وفق أسس تنبذ “سوط الحرب (العدوانية)” وتضمن “حقوق الإنسان الأساسية” وتقرير المصير “للدول الكبيرة والصغيرة”. وبينما كان تقرير المصير القومي مبدأ أساسياً لنظام الأمم المتحدة، فإن الديمقراطية متعددة الأحزاب لم تكن كذلك. وكان عضوان من أصل الأعضاء الخمسة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في العام 1945، الاتحاد السوفياتي والصين الوطنية، نظامين غير ديمقراطيين، مثلما كان حال العديد من الجمهوريات الأميركية اللاتينية التي هيمنت مبدئياً على الجمعية العام للأمم المتحدة.
في كثير من أصقاع العالم، يستمر تحقيق مثل حقوق الإنسان المشار إليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الأمم المتحدة في العام 1948، في أن يكون مجرد تطلع وحسب. لكن العرف القوي الذي أعقب العام 1945 ضد حروب العدوان الإمبريالية ظل سارياً حتى أيامنا هذه. وقد تم التغاضي عن ضم الهند لمنطقة جاوة التي كان البرتغاليون يسيطرون عليها في العام 1961 من جانب المجموعة الدولية، كما أن من غير المرجع إلغاء ضم روسيا للقرم في العام 2014. وبشكل عام، اعتبرت معظم البلدان ضم العراق للكويت في العام 1990 انتهاكاً للعرف العالمي الأساسي، كما أن معظم العالم لا يعترف باحتلال إسرائيل للأجزاء المتنازع عليها من فلسطين التي كانت تحت الانتداب (البريطاني) السابق.
لقد أثبت الافتراض المؤيد لتقرير المصير أنه قوي لأكثر من سبعة عقود. ويعود الفضل في ذلك إلى نزع الكولونيالية من الامبراطوريات الأوروبية وللتقسيم الأكثر حداثة للاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا والسودان ودول أخرى متعددة الجنسيات. وأصبح عدد البلدان التي تنتمي إلى الأمم المتحدة من 51 دولة في العام 1945 إلى 193 دولة اليوم. وكان القصد من حروب الوكالة في الحرب الباردة في كوريا والهند الصينية وأفغانستان حماية أو تنصيب أنظمة صديقة لواحدة من القوى العظمى المتنافسة، وليس ضم أراضيها وسكانها.
مع استعار الحرب الباردة في أواخر الأربعينيات، أفسح النظام الليبرالي العالمي رقم (1) المجال للنظام الليبرالي العالمي (2). وكان أن تبنت إدارة ترومان سياسة احتواء الكتلة السوفياتية، والتي دامت بأشكال مختلفة حتى نهاية الحرب الباردة. ويشار إلى أن الخصومة الأميركية السوفياتية شلّت مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وتم تجاوز مؤسسات عالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من حيث الأهمية بتشكيل هيئات إقليمية أساسية، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي التي تأسست في العام 1949، والسوق الأوروبية المشتركة التي تأسست في العام 1957 بموجب معاهدة روما. وكان لهذه الهيئات نظيراتها في الكتلة الشيوعية، في شكل حلف وارسو العسكري (1955-91)، ومجلس التعاون الاقتصادي المتبادل (1949-91). وفي داخل التكتل الغربي، أُدخلت تخفيضات تعرفة متبادلة تحت رعاية الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفات (جات). لكن العديد من البلدان احتفظت بقيود رأسمالية حتى أواخر خمسينيات القرن الماضي.
جاء المسار الثالث للنظام الليبرالي العالمي ما بعد العام 1945 في السبعينيات من القرن الماضي. وتقدمت بمبادرة التغيير القوة المهيمنة في النظام، الولايات المتحدة. وبعد حروب الوكالة المكلفة في كوريا والهند الصينية، كان الأميركيون متوجسين من كلفة إستراتيجية احتواء الكتلة الشيوعية، حتى أن الصناعات الأميركية المسيطرة سابقاً تأثرت بسبب المنافسة من اليابان وألمانيا الغربية التي كانت قد تعافت من كارثة زمن الحرب. وفي الجيوسياسات، نفذ الرئيس ريتشارد نيكسون استراتيجية أكثر قومية لخفض النفقات، استناداً إلى الوفاق مع الاتحاد السوفياتي و”الانفتاح” على صين ماو، وإحالة المسؤوليات العسكرية لدول عميلة وحليفة (عقيدة نيكسون)، وإلغاء التجنيد العسكري في الولايات المتحدة. وفي الجيو اقتصادات، سعت إدارة نيكسون إلى حماية الصناعة الأميركية عبر تدميرها من جانب واحد لنظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة بعد العام 1945 وعبر فرض تعرفة مؤقتة على الواردات.
لكن خليفتي نيكسون، جيمي كارتر ورونالد ريغان، شجبا الواقعية السياسية النيكسونية وسعيا إلى تركيز السياسة الخارجية الأميركية على ترويج حقوق الإنسان والقيام بحملة معادية للشيوعية على التوالي. وعلى الرغم من ذلك، عملا وفق إطار عمل ما بعد نيكسون للنظام الليبرالي العالمي 3. وبالتخلي عن الوفاق مع موسكو رداً على البناء العسكري للاتحاد السوفياتي وغزوه لأفغانستان في العام 1979، أقدم كارتر وريغان على تعزيز تحالف أميركي صيني واقعي كلاسيكي ضد موسكو. وانتهج ريغان نسخة من عقيدة نيكسون، الاعتماد على الوكلاء -“المقاتلون الأحرار” لمحاربة العملاء السوفيات في أميركا الوسطى وإفريقيا.
ومثل نيكسون، تبنى ريغان خطاً متشدداً في دبلوماسية التجارة مع الحلفاء الأميركيين، بفرض تعرفات على ألكترونيات المستهلك والدراجات النارية الثقيلة من اليابان، بالإضافة إلى فرض الحصص (قيود تطوعية على الصادرات) على واردات يابانية أخرى، بما في ذلك السيارات والآليات والماكنات. ومن خلال اتفاق بلازا في العام 1985، سعت الولايات المتحدة إلى حماية الصناعة الأميركية أكثر من خلال خفض قيمة الدولار أمام المارك الألماني والين الياباني. وتمثلت النزعة الليبرالية رقم (3) وقتها في التجنب الأميركي للسقوط في مستنقع على غرار مستنقع فيتنام، بجانب ترسيخ القومية الاقتصادية الأميركية في داخل إطار العمل للنظام التجاري متعدد الأطراف الموجود.
إن ما يدافع عنه العديدون اليوم على أنه نظام ليبرالي عالمي لا يعدو نظام عالمياً ليبرالياً رابعاً –ويعود هذا النظام وراء إلى وقت مبكر من حقبة الحرب الباردة. وعلى نقيض الادعاءات، فإن الدولية الليبرالية بعد العام 1945 تتعرض للهجوم، وثمة ملامح معينة للنظام الليبرالي العالمي ما بعد الحرب 4، والتي يرفضها الشعبيون في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد تم طرح العولمة على نطاق ضخم، والمتمثلة في ظهور الشركات العابرة للقوميات وسلاسل الإمداد في أعوام التسعينيات والألفية الجديدة. وتعتبر الهجرة الجماعية إلى الولايات المتحدة وأوروبا ظاهرة حدثت في الجزء الضخم منها بعد الحرب الباردة. ويعود اليورو واليورو زون “منطقة اليورو” إلى العام 1999. كما أن تحرك العمالة في داخل أوروبا يعتبر سياسة حديثة نسبياً. وتعود اتفاقات التجارة “متعددة المناطق المثيرة للجدل مثل (نافتا) و(تي بي بي) والتي تذهب وراء خفض التعرفة القديم لإعادة صياغة الكثير من التشريعات المحلية، تعود وراء إلى تسعينيات القرن الماضي. وكانت “مسؤولية الحماية” التي تم استحضارها لتبرير شن “حروب إنسانية” مثل الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحلف الناتو على نظام القذافي في ليبيا، كانت أكثر حداثة حيث صممت فقط في العام 2000 وصادقت عليها الأمم المتحدة فقط في العام 2005.
هل ستفرز الضربة الارتدادية ضد النسخة الرابعة من النظام الليبرالي العالمي نسخة خامسة؟
يدعي الذين يساوون بين النظام الليبرالي العالمي لما بعد الحرب الباردة وبين النظام العالمي الليبرالي على نحو مبالغ فيه أن البديل الوحيد للاستمرار في النظام الأخير لما بعد الحرب هو حروب التجارة، وحتى الحروب بين القوى الكبرى.
لكن من الأقل ترجيحاً أن يشبه النظام الليبرالي العالمي (5) الفوضى العالمية التي كانت قد سادت في الثلاثينيات من أكثر من النظام الليبرالي العالمي (3). ومثل نيكسون، يعارض الرئيس ترامب ما يراه مبالغة في التزامات سلفيه، ويطالب بالمزيد من الحلفاء والدول العميلة. ومثل نيكسون، يسعى إلى إعادة بناء الصناعة الأميركية ومراجعة الترتيبات التجارية بما يعود بالمصلحة على أميركا.
قد يفشل الرئيس ترامب وغيره من القوميين والشعبويين. لكنهم إذا نجحوا -إما من خلال جهودهم الخاصة أو من خلال كسب تنازلات إستراتيجية من ساسة مؤسسة مثل تيريزا ماي، رئيسة الحكومة البريطانية- فإن من المرجح أن يكون النظام العالمي التالي نظاماً عالمياً ليبرالياً أيضاً، حتى لو تم تقييد الهجرة بعض الشيء وتمت إعادة تأهيل السياسة الصناعية جزئياً. ومن المؤكد تقريباً أن النتيجة سوف تكون شيئاً مثل نظام حقبة نيكسون- ريغان، والذي كان مطابقاً ليس فقط للقوانين العريضة للنظام العالمي لما بعد العام 1945، وإنما أيضا للمحافظة على تحالفات أميركا مع الشركاء الأوروبيين واليابان.
مايكل ليند
صحيفة الغد