بعد أن أتحفنا جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي أي”، بالقول إن “الولايات المتحدة الأميركية لا تريد انهيار الحكومة السورية (يقصد الأسد ونظامه) ومؤسساتها”، وذلك خشية سيطرة ما وصفها بالجماعات الإسلامية المتطرفة، جاء الدور على وزير الخارجية الأميركي جون كيري، كي يخبرنا بأن “على الولايات المتحدة وحلفائها أن يتفاوضوا مع الرئيس السوري بشار الأسد من أجل انتقال سياسي بسوريا”.
كيري أعلن استعداد بلاده التفاوض مع الأسد “في نهاية المطاف”، وهو أمر يشي بتغير الموقف الأميركي، ومعه الموقف الغربي، إزاء نظام الأسد، حيث تفادى كيري عبارة “فاقد الشرعية”، التي عادة ما كان يرددها المسؤولون الغربيون، حين يأتون على ذكر الأسد، بالرغم من أنهم كانوا يرددونها، بوصفها لفظا، يفترق عن حمولاته المضمونية.
ولم يغير تأكيد، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، جين بساكي، أن “الأسد لن يكون مفاوضا للولايات المتحدة الأميركية”، من وقع تصريحات كيري، كما لن يغيرها اعتبار، ماري هارف مساعدة المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، أن سياسة الولايات المتحدة حيال الأسد لم تتغير، فالسيد كيري يعي تماما ما صرح به، وهو ليس مسؤولا سابقا أو متقاعدا، بل لسان حال الإدارة الأميركية، ويعكس ما قاله تتويجا لتغير في الموقف الأميركي حيال نظام بشار الأسد.
مؤشرات التغير
ففي بداية الثورة، ارتفعت أصوات التنديد والشجب لممارسات النظام، مع تأييد مطالب المحتجين في الحرية والديمقراطية، وبلغت سقفها الحدّي في مطالبة الرئيس باراك أوباما، الأسد بالرحيل، واعتباره فاقدا للشرعية، وأن أيامه في الحكم باتت معدودة.
غير أن المفارقة في الأمر هي أن قوة التصريحات لم تنعكس على أرض الواقع، لذلك بدأ سقف التصريحات السياسية للمسؤولين الأميركيين بالانخفاض، مع طول أمد الأزمة، التي أحدثها تعامل النظام مع الثورة، وراح يدور حول نفس المقولات، فيما أخذ بعض المسؤولين الأميركيين يبيعون الأوهام للمعارضة السياسية السورية، ويسوّقون أن بلادهم تقف معها، مع وعود بالدعم، خاصة بعد أن قادت مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، في حين أنها قامت، بالمقابل، بابتزاز المقاتلين في “الفصائل المعتدلة”، من خلال تقليص الدعم المحدود والتمويل، ومنع وصول السلاح النوعي إلى أيديهم، الأمر الذي أسهم، بالإضافة إلى جرائم النظام السوري الممنهجة، في استفحال ظاهرة التطرف، وتنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، على حساب تدهور وضع تشكيلات الثوار.
بالمقابل، كان الساسة الروس يدعمون النظام سياسيا، وخاصة في مجلس الأمن الدولي، حيث استخدموا الفيتو أربع مرات لصالح النظام السوري، ولم يتوقفوا عن مده بكل أنواع الأسلحة، فيما أخذ ملالي إيران يتدخلون بشكل مباشر في مجريات الأحداث، عبر خوضهم معركة الدفاع عن بقاء نظام الأسد، ثم تحول تدخلهم إلى قوة احتلال لسوريا، فأرسلوا الآلاف من المستشارين وضباط وعناصر الحرس الثوري، والآلاف من مليشيات حزب الله اللبنانية، والمليشيات الطائفية العراقية، وقاموا بتشكيل ألوية وفرق مليشياوية داخل سوريا، أطلقوا عليها اسم “حزب الله السوري”، ولواء من المرتزقة، أطلقوا عليه اسم “فاطميون”. وجرى كل ذلك تحت مرأى العالم كله، ودون أن تحرك الولايات المتحدة ساكنا.
ولا شك في أن تعامل ساسة الولايات المتحدة مع القضية السورية، أسهم في تحويلها من ثورة، تنشد الحرية والكرامة، ضد الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة قرون، إلى قضية مجموعات متطرفة، وصراع نفوذ إقليمي ودولي، قسمّ المنطقة إلى معسكرين، متضادين ومتحاربين على الأرض السورية.
ولعل التغير الذي حدث في الموقف الأميركي حيال بشار الأسد، جسده التحول من مطالبة الأسد بالرحيل، إلى المطالبة بممارسة “الضغط من أجل حثه على التفاوض”، التي أفصح عنها كيري، بعد مرور أربعة أعوام على اندلاع الثورة السورية.
أما مؤشرات التغير، فجسدها التوافق الأميركي والأوروبي، غير المعلن، على ترك النظام السوري يفعل ما يريده، من قتل وتشريد، بأغلبية السوريين، بعد أن لجأ بعض المسؤولين الأميركيين إلى طمأنة النظام، من خلال تكرار كلامهم العلني حول عدم وجود نية لدى بلدانهم في التدخل العسكري، وأن الحل الوحيد هو الحل السياسي، بمعنى يفهم النظام بأنه مهما قام بانتهاكات وجرائم، لن تكون هناك قوة دولية تردعه، لذلك مرت جرائمه دون أي عقاب يذكر.
أسباب التغير
وتكمن أسباب التغير في الموقف الأميركي في عدة عوامل، أبرزها:
1- الصعود القوي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، و”جبهة النصرة”، التي بايعت “القاعدة”، وسواهما من الجماعات المتطرفة، وهو صعود برز مؤخرا، وأسهم في تحول الموقف الأميركي حيال الأزمة السورية، حيث تغيرت الأولوية الأميركية في المنطقة، فشكلت تحالفا دوليا وعربيا للحرب ضد داعش، وقامت بتوجيه ضربات جوية ضد مواقع للتنظيم، في كل من العراق وسوريا، لتؤكد وجود تحول نوعي في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية، بعد المواقف غير المبالية التي اتخذتها الإدارة الأميركية حيال ما يجري داخل سوريا من مجازر منذ البداية، بالرغم من مناشدات دولية وعربية، بالمقابل، عارضت تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، بل وعملت على منع بعض الدول الراغبة في فعل ذلك.
وقد سعى النظام السوري باستخدامه كافة الوسائل الإجرامية، إلى تحويل سوريا إلى ساحة لجذب تنظيم القاعدة ومعه سائر الجماعات المتطرفة، وربما لاقى ذلك ارتياحا لدى بعض أجهزة الاستخباراتية الأميركية، على خلفية تجميعهم في مكان واحد، بغية تصفيتهم، أو على الأقل تركهم يتقاتلون مع المليشيات الطائفية المتطرفة التي جلبتها إيران إلى سوريا دفاعا عن الأسد.
2- ظهور مؤشرات على اقتراب موعد إبرام اتفاق أميركي إيراني بخصوص الملف النووي الإيراني، وما يعنيه من تحوله إلى صفقة، غير معلنة، تنال إيران بموجبها تسهيلا أميركيا لتمددها الإقليمي، الذي لم تبدِ الإدارة الأميركية الحالية حياله أية ممانعة، حين طال العراق ولبنان ووصل مداه إلى اليمن، وتحول في سوريا إلى قوة احتلال، مع تحول الأسد إلى إمعة بيد المحتل الإيراني.
وبالتالي، فإن تغير الموقف الأميركي حيال الأسد، يصب في خانة إرضاء إيران، وتشجيعها على تمدد مشروعها التوسعي في المنطقة، وسوريا بشكل خاص، مقابل توقيعها مع الولايات المتحدة الأميركية على “اتفاق جيد”، وفق وصف كيري نفسه.
وهنا لا بد من ملاحظة أن تصريح كيري حول التفاوض مع الأسد، تزامن مع استعداده للسفر إلى جنيف للقاء وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الأمر الذي يقوي من احتمال اقتراب بلورة صفقة أميركية إيرانية، على حساب دول المنطقة وطموحات شعوبها في الحرية والتحرر.
وجاء التغير في الموقف الأميركي، بعد سنوات من اللامبالاة والمماطلة والتردد، حتى بات الوضع كارثيا وخطيرا، وبعد أن شاهد الأميركيون وغيرهم صور قتل الصحفيين الأميركيين من طرف عناصر تنظيم داعش، الذي بات يهدد الولايات المتحدة وحلفاءها ومصالحها في المنطقة، خاصة مع سيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريا.
خلفية التغير
تنهض الخلفية التي بنى عليها الساسة الأميركيون تغير موقف بلادهم، على أن سوريا باتت أمام أحد الخيارين، إما داعش أو النظام، وهم يرون في النظام خطرا أقل من داعش، لذلك فإن بقاء الأسد في السلطة أفضل من أن يأخذ تنظيم داعش السلطة مكانه. وهي مقولة خاطئة، تفترض أن داعش يسعى إلى إسقاط النظام السوري، والحلول محله، ذلك أن داعش لا يطمح في تشكيل بديل عن الأسد، ولم يطرح في أدبياته مثل هذه التصورات، كونه يسعى إلى إقامة كيان عابر للدول والقوميات، وليست محاربة نظام الأسد من ضمن أولوياته، بل إنه عمل على التنسيق مع هذا النظام في أكثر من مناسبة، وعقد معه اتفاقيات نفط وغاز وكهرباء.
إضافة إلى أن الخيار بينهما يلغي حقيقة أن جرائم النظام وحربه الشاملة ضد الثوار وحاضنتهم الاجتماعية، منذ بداية الثورة وإلى يومنا هذا، جعل قسما كبيرا من المحتجين السلميين ينحازون نحو العسكرة، وأن النظام أسهم في دخول العناصر المتطرفة عبر إطلاق سراحهم من السجون، والتخلي عن مناطق وجوده على الحدود مع العراق وتركيا، لصالح “داعش” والفصائل المتطرفة الأخرى، فضلا عن الخذلان الأميركي للشعب السوري وتركه وحيدا في مواجهة آلة الموت الأسدية، المدعومة بشكل غير محدود، إيرانيا وروسيا.
وإن كانت تصريحات كيري هدفها ترغيب ملالي إيران في التوقيع على “اتفاق جيد” يطمح إليه الرئيس الأميركي، كي يضيفه إلى إنجازاته ومسيرته الرئاسية، فإنها، بالمقابل، قد تدفع كثيرا من السوريين وغيرهم إلى “تأييد” داعش، لأنهم لن يرضوا بأن تعاد الشرعية إلى نظام الأسد، الذي قتل أكثر من ربع مليون سوري، وشرد نصفهم، ما بين لاجئ ونازح، ودمر أماكن سكناهم ورزقهم.
وبصرف النظر عن تغير الموقف الأميركي حيال الأسد ونظامه الاستبدادي، فإن الثوار باتوا يعرفون جيدا أنهم يخوضون معركة ضد أعتى نظام ديكتاتوري قمعي بالشرق الأوسط، ويواجهون احتلالا إيرانيا، يخوض معركة مكلفة، دفاعا عن رصيفه السوري، دون أن يحسب مدى تأثيرها على شعوب المنطقة ودولها، تنفيذا لمشروع هيمنة، له امتداداته الإقليمية والدولية.
وهي الامتدادات التي يجسدها ارتباطه بشبكة تحالف صلبة، ذات نسيج مذهبي الظاهر، يخفي باطنها أهدافا متعددة، لا يقتصر على الحفاظ على الدور الإقليمي الإيراني، وعلى تركيبة النظام الإيراني والقوى المليشياوية التابعة له في المنطقة، بل تمتد إلى تأبيد وتأليه رموزها، ومصادرة حقوق العامة، واحتلال الفضاء العام، وبسط هيمنات وأجندات مذهبية وعرقية الطابع.
لذلك، فإن حراك غالبية السوريين، المتعدد المركبات والفعاليات، هو الفاعل الأساس في الخلاص والتحرر، والأهم هو أن حساباتهم وأهدافهم مختلفة تماما عن حسابات وأهداف كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية وتوافقاتهما، لذا، لن يتوقفوا حتى يبلغوا مرادهم.
عمر كوش
نقلا عن الجزيرة