ملخص
إن المهمة الجديدة للقوات الدولية في أفغانستان “الدعم الحازم” تقتصر هذه المرة، لاسيما على المدى القصير، على تدريب وتقديم المشورة للأجهزة العسكرية والأمنية الأفغانية، وتوفير الدعم المالي لها على المدى المتوسط (لغاية العام 2017) على أن يجري تعزيز المشاورات السياسية والتعاون العملي في مجالات محددة في إطار اتفاقية الشراكة الدائمة التي تم توقيعها بين الناتو وأفغانستان عام 2010. ويرى الباحث أن هذه الأهداف المعلنة تخفي أجندة أميركية تقوم على خلق “وزيرستان” جديدة في أفغانستان تبرر بقاء القوات الأميركية، وعلى السماح بانتشار “تنظيم الدولة” على حساب طالبان، بما يتيح له التمدد وفق أجندته العالمية إلى تركستان الشرقية في الجوار الصيني، وإلى بعض المناطق الأخرى في آسيا الوسطى التي تقع في الجوار القريب لروسيا.
المقدمة
أعلنت القوات الدولية لحفظ السلام في أفغانستان (أيساف) في نهاية عام 2014 رسميًّا عن انتهاء المهمة القتالية التي بدأها حلف الناتو بمشاركة 57 دولة وبقيادة أميركا قبل حوالي ثلاثة عشر عامًا في أفغانستان، وأعلنت تلك القوات عن بدء مهمتها الجديدة في أفغانستان والتي سُميت بـ”Resolute support” “الدعم الحازم”، وأعلنت أميركا ومن ورائها الناتو أنها تفتح فصلًا جديدًا في حربها على الإرهاب في أفغانستان.
تمديد المهمة
عندما أعلنت أميركا وحلفاؤها عن انتهاء مهمتهم الحربية في أفغانستان بنهاية عام 2014 وتسليم مهمة الدفاع وحفظ الأمن إلى القوات الأفغانية، بدأت تلك الدول بسحب قواتها تدريجيًّا من هناك، وأخذت أعداد تلك القوات -التي كانت تصل إلى أكثر من 140 ألف جندي في بعض الأوقات- تتناقص، وبقي حاليًا في أفغانستان مجموعة من الجنود الأجانب منقسمين إلى مجموعتين:
الأولى: القوات الأجنبية التابعة للناتو (متعددة الجنسيات، أغلبها أميركيون) ويصل عددها ما بين 12 ألف إلى 13 ألف وخمسمائة جندي(1)؛ وهي تحت قيادة الجنرال الأميركي جون كامبل، ومكلَّفة بـ “مهمة الدعم الحازم”.
الثانية: القوات الأميركية ومكلَّفة بأداء المهمات الحربية، ولا يُعرف عددها الحقيقي لكن يقدرها البعض بحوالي 10 آلاف جندي حاليًا؛ حيث استبقى الرئيس الأميركي باراك أوباما بعض كتائب الجيش الأميركي في أفغانستان إلى نهاية عام 2015 للمشاركة في العمليات القتالية(2)، وتدَّعي أميركا أن هذا التمديد حصل بطلب من الحكومة الأفغانية الجديدة.
والجدير بالذكر أن الرئيس أوباما كان قد أعلن سابقًا عن عزم الجيش الأميركي إيقاف عملياته العسكرية في أفغانستان نهائيًّا بنهاية عام 2014 وتسليم مهمات الدفاع والأمن للأجهزة الأفغانية المسلحة والأمنية، على أن يبقى حوالي 10 آلاف جندي في أفغانستان بعد نهاية عام 2014، وسيجري تخفيضهم تدريجيًّا فلا يبقى بعد 2016 إلا ألف عنصر من عناصر الجيش الأميركي لحراسة السفارة الأميركية في كابول. لكن على خلاف تلك الخطة المعلنة فقد تم تمديد المهمة الحربية للجيش الأميركي إلى نهاية عام 2015، وأعرب وزير الدفاع الأميركي الجديد آشتون كارتر عن إمكانية تمديد هذه المهمة، فقال في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس الأفغاني في كابول في 22 فبراير/شباط 2015: “من أولوياتنا في الظروف الحالية أن نطمئن على استمرارية التقدم الذي أحرزناه، ومن هنا يعيد الرئيس الأميركي التفكير في عدة احتمالات للدعم الحازم للاستراتيجية الأمنية للرئيس محمد أشرف غني بما فيها التغيير المحتمل للجدول الزمني لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان”(3).
وهذا التردد يدل على أن هذه القرارات ليست جزءًا من استراتيجية أميركية ثابتة بل تتبع للمصالح الأميركية وتتغير بناء على تغير المصالح والظروف، وما تعلنه الإدارة الأميركية من حين لآخر ليس قرارًا نهائيًّا بهذا الخصوص.
أهداف”الدعم الحازم”المعلنة
أعلن حلف الناتو أنه لن يشارك في المهمات القتالية إلا إذا تعرضت مقرات قواته للهجوم، وأن أهداف مهمته الحالية التي أُقرَّت في قمة حلف شمال الأطلسي في “ويلز” في سبتمبر/أيلول 2014 تتلخص في ثلاثة أمور أساسية تالية:
على المدى القصير يوفر الحلف التدريب والمشورة والمساعدة للشرطة والأمن والقوات المسلحة الأفغانية.
على المدى المتوسط يقدم الحلف، ولغاية العام 2017، الدعم المالي للحفاظ على الشرطة والأمن والقوات الأفغانية المسلحة.
على المدى الطويل يجري تعزيز المشاورات السياسية والتعاون العملي في مجالات محددة في إطار اتفاقية الشراكة الدائمة التي تم توقيعها بين الناتو وأفغانستان عام 2010.
ويؤكد حلف الناتو أنه سيركز خلال القيام بمهمة “الدعم الحازم” على توفر الشفافية والمحاسبة والإشراف، كما أنه سيدعم الالتزام بمبادئ القانون والحكم الرشيد(4).
ويرى المسؤولون في الناتو أن الدعم والتدريب والمساعدة ستكون على مستوى القيادات والوزارات ولن يُضطر عناصر الحلف للتعامل مع الجنود الأفغان في الميدان، وستُنفذ هذه المهمة من خلال مركز رئيسي في كابل وباغرام، وأربعة مراكز فرعية في كل من مزار شريف (شمال أفغانستان) وهرات (غرب أفغانستان) ولغمان (شرق أفغانستان) وقندهار (جنوب أفغانستان)، ويشارك فيها حاليًا أفراد من جيوش 28 دولة من أعضاء حلف الناتو و14 دولة من الدول الحليفة معها(5).
وبالنسبة للإطار القانوني لمهمة “الدعم الحازم”، أعلن حلف دول شمال الأطلسي أن المهمة الجديدة التي يقوم بها تتم بطلب من الحكومة الأفغانية، وأن اتفاقية وضع القوات (SOFA) التي وقَّعتها حكومة محمد أشرف غني في أول أيامها مع الولايات المتحدة الأميركية أولًا ثم مع حلف شمال الأطلسي بعدها، توفر الإطار القانوني لهذه القوات، كما أن الناتو حصل علاوة على ذلك على موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ولكن بالنظر إلى التجربة السابقة، فإن الأهداف الجديدة لحلف الناتو وأميركا في أفغانستان لن يتحقق منها إلا الجزء اليسير مثل ما حدث في المرحلة السابقة للحرب على ما يُسمى “الإرهاب”، ويمكن إيراد عدة ملاحظات على مهمة “الدعم الحازم” ومدى إمكانية تحقيق أهدافها، نظرًا للتجارب السابقة وللظروف القائمة حاليًا:
أولًا: التدريب: هناك شك في قدرة قوات الناتو -التي قلَّ عددها- على تدريب القوات الأمنية والجيش الأفغاني؛ لأن القوات الأجنبية عندما كانت في أوج قوتها وكان عددها يصل إلى أكثر من 140 ألف جندي كانت تحذر مخالطة عناصر الجيش والشرطة الأفغانية خوفًا من الاختراق الأمني لاسيما أن عناصر القوات الأجنبية تعرضوا لهجمات قاتلة على أيدي بعض العناصر من هذه الأجهزة الأفغانية، وسيزداد هذا الخوف ويقلُّ الشعور بالأمن أو يتلاشىى في صفوف القوات الأجنبية بعد أن قلَّت أعدادها، ومن هنا ستتجنَّب مخالطة عناصر الجيش الأفغاني والتعامل معها على المستوى الميداني، وهو ما أعلنه الناتو. والحال هذه، إذا لم يكن هناك اتصال على المستوى الميداني بين تلك القوات والجيش الأفغاني فأي نوع من التدريب سيكون ذلك؟!
ثانيًا: هناك مخاوف حقيقية من الاختلاس وسوء الإدارة في صرف الأموال التي ستأتي في هذه المرحلة كميزانية للجيش والقوات الأمنية كما حدث ذلك في المرحلة السابقة، حيث تم اختلاس أموال لا حصر لها وبمشاركة من عناصر قيادية في القوات الأجنبية من العسكريين والمدنيين والمتعاقدين معها على السواء، إلى جانب مجموعة كبيرة من الأفغان. فما هي الضمانات التي تحول دون تكرار التجربة السابقة؟ هل يمكن أن يُعتمد في ذلك على الجهات الأجنبية التي ثبت تورطها في قضايا فساد سابقًا أم على الجهات الحكومية الأفغانية التي هي غارقة في الفساد بالكامل؟
ثالثًا: هناك فتور في النية والإرادة؛ إذ ليس صعبًا على المتابع غير المختص أن يلاحظ أن حلف الناتو وأميركا ما زالا يعانيان من القصور في الرؤية والتصور للأزمة الأفغانية؛ فإن حلَّ الأزمة في نظرهما، حسب الأهداف المعلنة للمرحلة الحالية، يكمن في استخدام السلاح واستمرار القتال وتشديد التحوط الأمني، وهذا ما فعلاه طوال ثلاثة عشر عامًا ماضية، وهذا التصور خاطئ، لأن اقتصاد البلد والبطالة والظروف المعيشية للشباب تؤثر إيجابًا وسلبًا على الوضع الأمني والاستقرار في أفغانستان، وفَهْم ذلك لا يحتاج إلى الكثير، ولا يمكن أن يغيب عن المخططين والاستراتيجيين التابعين لحلف الناتو.
ومن هنا، يمكن القول: إن هدف الناتو ليس إعادة الأمن والاستقرار إلى أفغانستان في المرحلة الحالية، كما أن تواجد القوات الأميركية والأجنبية لم يكن هدفه القضاء على الإرهاب المزعوم في المرحلة الماضية، لاسيما أن القوات الأجنبية تسببت بممارساتها في تعزيز وجود “المقاومة” وتسعيرها، فخلال السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من وجود تلك القوات لم تكن هناك مقاومة تُذكر في أفغانستان، لكنها تعاظمت بعد استخدام القوات الأجنبية المفرِط للعنف وفتحها السجون والمعتقلات -التي اعتبرها حامد كرزاي الرئيس الأفغاني السابق مصانع لصناعة الإرهاب والإرهابيين(6)- وتعذيب المعتقلين وإهانتهم والإساءة إلى مقدساتهم. كما أن الخطة الحالية للحلف لا تهدف لتوفير الأمن بل تقتصر على تدريب القوات الأمنية والجيش ودعمهما وتقديم المشورة لهما، مع إهمال حالة البؤس والفقر وسوء الأحوال الاقتصادية للشباب الذين هم وقود هذه المعارك، ولهذا ستؤدي خطة “الدعم الحازم” إلى مزيد من المشاكل بدلًا من المساعدة على إعادة الاستقرار والأمن إلى أفغانستان.
رابعًا: هناك خشية من تركيز دول حلف شمال الأطلسي على تقديم الدعم المالي للقطاع الأمني والجيش والقوات الأمنية وإهمال القطاعات المهمة الأخرى(7)؛ ما سيؤدي إلى تغول المؤسسة الأمنية والجيش، أي: “عسكرة الدولة” ووأد التجربة الديمقراطية الوليدة، وإدارة البلد من وراء الكواليس فلا تكون الانتخابات والمشاركة الشعبية إلا مجرد ديكور لتحسين الصورة في الخارج والداخل. من هنا يجب الالتزام بالتطوير المتوازن لجميع أجهزة الدولة والنظام ومؤسساتهما دون التركيز على مؤسسة واحدة وإهمال البقية كما تفعل أميركا والناتو حاليًا في أفغانستان.
خامسًا: إن عقيدة الجيش والقوات الأمنية (Army doctrine) لا تزال في طور التكوين، وهي تؤثر على تشكيله وتسليحه وتماسكه وأدائه ووجهته، والسؤال هو: هل ستتم صياغة عقيدة الجيش الأفغاني تحت رعاية الناتو وميزانيته ليكون جيشًا وطنيًّا أفغانيًّا بحق، أم أن العقيدة التي سينشأ عليها هي “محاربة الإرهاب والإرهابيين” الفضفاضة، والتي لم يتم حتى الآن الاتفاق على تعريفها لا دوليًّا ولا محليًّا. وإذا حصل ذلك ما الذي يمنع من استخدامه من قبل الغرب وأميركا ولأهدافهما؟ وهل سيكون الجيش بهذا وسيلة أخرى لوأد أحلام الشعب كما يحدث في بعض الدول وخاصة في الدول التي تم تدريب جيوشها بأيدٍ أو مساعدات أجنبية، وهذا ما يقلق الشعب الأفغاني.
سادسًا: سيبقى في أفغانستان، كما سبقت الإشارة، نوعان من القوات الأجنبية: نوع هدفه المشاركة في المهمات القتالية وهي القوات الأميركية، ونوع آخر هدفه تدريب الجيش ودعمه وتقديم المشورة له، وتكون القوتان كلتاهما تحت قيادة واحدة، فإلى أي مدى ستتمكن هذه القيادة من أن تقود مجموعتين متباعدتين في الأهداف إلى أهدافهما؟ وهل ستحقق المجموعتان أهدافهما؟ هذا أمر مشكوك فيه جدًّا.
المهمة المقبلة للقوات الأجنبية في أفغانستان
إن الإعلان عن المهمة الجديدة للقوات الأجنبية “الدعم الحازم” هو انتقال من مرحلة إلى أخرى في الخطة الأميركية للمنطقة، انتقال للقوات الأميركية والناتو إلى مرحلة جديدة من الحرب وبوسائل جديدة وبأهداف جديدة، وما الأهداف المعلنة إلا ستار يخفي الأهداف الحقيقية التي تتلخص في استمرار القتال والحرب لخلق مزيد من الاضطرابات في المنطقة لتبرر بقاء القوات الأجنبية فيها، وتهيئة الظروف لنقل المعركة إلى الدول التي تخاف أميركا والناتو منافستها على قيادة العالم في المستقبل القريب، مثل الأراضي الصينية في تركستان الشرقية أو إلى المناطق التي تعتبرها روسيا مناطق نفوذ لها مثل دول آسيا الوسطى، ويقول بهذا الصدد عبد الكريم خرم، المساعد الخاص لرئيس الجمهورية السابق حامد كرزاي ورئيس مكتبه في مقال بعنوان: “لماذا لم نوقِّع الاتفاقية الأمنية الثنائية (BSA) مع أميركا؟”: “عندما يقال: إن الحرب الأميركية دخلت مرحلة جديدة بتوقيع “اتفاقية التعاون في مجالي الأمن والدفاع” يُراد بهذه المرحلة الجديدة توسعة دائرة الحرب إلى الدول المجاورة لأفغانستان، ونقلها إلى الحدود الروسية والصينية. ولتطبيق هذا المخطط يجب أن تتحول أفغانستان إلى “وزيرستان كبرى”(8)، وهناك مؤشرات عدة تشير إلى ذلك، منها:
أولًا: أن أميركا مترددة في سحب قواتها حتى بعد 2016، وجيشها قد يستمر في مهامه القتالية بعد هذا التاريخ إذا اقتضت ذلك المصالح الأميركية، وهذا على خلاف ما تنص عليه اتفاقية التعاون في مجالي الأمن والدفاع الموقعة مع أفغانستان.
ثانيًا: أن “اتفاقية التعاون في مجالي الأمن والدفاع” الموقَّعة بين واشنطن وكابل لن تؤدي إلى إنهاء القتال لأنها تتعلق بالجيش الأميركي حصرًا، ولا تتناول المجموعات الاستخباراتية التابعة لـ (CIA) والجهات الاستخباراتية الأميركية الأخرى كما أنها لا تتناول المتعاقدين مع الجهات الأميركية الاستخباراتية، ولا تتناول كذلك الطائرات بدون طيار التابعة للاستخبارات الأميركية. ما يعني أن الحرب في المرحلة الحالية والمقبلة هي حرب استخباراتية، ومن هنا فإنها ستغير وسائلها الحربية التي زادت من اعتمادها مؤخرًا في الحرب الدائرة في أفغانستان.
ثالثًا: يرى المتابع لوسائل الإعلام الغربية باللغات المحلية ووسائل الإعلام المحلية في أفغانستان أنها تروِّج باستمرار أخبارًا عن تواجد مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، وكأنها تشجع بذلك مجموعات من حركة طالبان لترفع الرايات السوداء وتتحول من حركة طالبان إلى “تنظيم الدولة”(9). وفي نفس الوقت تضغط باكستان من خلال العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الباكستاني حاليًا باسم “ضرب عضب”(10) ضد المجموعات المسلحة لتغادر الأراضي الباكستانية وتنتقل إلى أفغانستان ولاسيما إلى شمال وشمال شرقي أفغانستان لتشكِّل هناك “وزيرستان” جديدة -وفق “الخطة الأميركية المقبلة”- وبهذا تنتقل الحرب إلى داخل الأراضي الصينية ودول آسيا الوسطى التي تعتبرها روسيا مناطق خاضعة لنفوذها.
وقد أكَّد قائد قوات الناتو في أفغانستان، جون كامبل، توافد المجموعات التابعة لتنظيم الدولة إلى أفغانستان ولاسيما إلى شمال أفغانستان، وقال: إن التنظيم يعمل على ضم مجموعات مسلحة من أفغانستان وباكستان إلى صفوفه(11)، وهو ما أكَّده أيضًا الناطق باسم وزارة الداخلية الأفغانية صديق صديقي في 10 فبراير/شباط 2015 في حوار له مع “إذاعة الحرة”؛ حيث قال: إن تنظيم الدولة أو مجموعات أخذت تنشط باسمه في بعض مناطق أفغانستان، “وأكدت ذلك تقارير أجهزتنا الاستخباراتية ولا مجال لإنكارها”.
ويقول مسؤولو الحكومة: إن أفراد “التنظيم يتواجدون في فارياب، وجوزجان(12) وسائر الولايات في شمال البلاد” ويقول الأفغان: إن “الإرهابيين” الذين طُردوا من وزيرستان الشمالية بحملة الجيش الباكستاني “ضرب عضب” لجؤوا إلى أفغانستان، ونقل مراسل إذاعة أوروبا الحرة باللغة التركمانية، شاه مردان قلي ميرادي، مؤخرًا (13 فبراير/شباط 2015) أخبارًا عن تزايد أعداد التنظيم، وقال: “لمَّا وصل أعضاء “التنظيم” إلى هنا (شمال أفغانستان) قبل عدة أشهر كان عددهم قليلًا، ولم يكونوا يعلنون عن هويتهم، أما الآن فقد تغير الوضع ورفع الجهاديون أعلامهم على عدة مناطق ولا يُخفون انتماءهم للتنظيم”، وأعلن مسؤول الشرطة في ولاية جوزجان، فقير محمد الجوزجاني، أن عدد أفراد “التنظيم” في شمال أفغانستان في حدود 600 شخص، وقال غل محمد، أحد أعضاء البرلمان المركزي في حوار مع إذاعة أوربا الحرة: “إن أعضاء “التنظيم” وُجدوا مؤخرًا في منطقة “المان” في ولاية فارياب على الحدود الأفغانية مع تركمنستان”(13)، وهذا التواجد المكثف للتنظيم في شمال أفغانستان وانتقاله من وزيرستان فجأة إلى تلك المناطق البعيدة (حيث تبعد الحدود الأفغانية-الباكستانية عن شمال أفغانستان بمسافات شاسعة) ليس صدفة وإنما هو لهدف معين، وهذا الهدف هو التمهيد لنقل الاضطرابات إلى ما وراء الحدود الأفغانية.
واستشعرت روسيا هذا الخطر حيث قال نائب وزير الدفاع الروسي، أناتولي أنتونوف، في حديثه مع الصحفيين: “لقد رأينا كيف يتم إحداث المجموعات الإرهابية، لقد ظهرت مجموعات تابعة لـ”تنظيم الدولة” في أفغانستان وبدأت تهدد حلفاءنا في الجنوب، ونحن سنعزز قواعدنا في تلك المناطق”(14).
ويبدو أن الصين شعرت بالخطر نفسه من هذه الخطة الأميركية، وخافت من مسلحي “التنظيم” حال ظهورهم في شمال أفغانستان وما قد يتسببون به من مشاكل في إقليم تركستان الشرقية، ومن هنا نشطت في قضية المصالحة بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية لتفويت الفرصة على خلق مجموعات مسلحة خارج إطار حركة طالبان. وكانت الصين قد بدأت هذا الجهد منذ العام الماضي حين استقبلت وفد المكتب السياسي لحركة طالبان في قطر بقيادة “قاري دين محمد”، وقد أكد الناطق باسم الرئيس الأفغاني السابق “أيمل فيضي” هذا الخبر، وأضاف: إن الاستخبارات الباكستانية رتَّبت لسفر المذكور، وأكدت وزارة الخارجية الصينية على لسان ناطقها خبر الوساطة الصينية بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، وأبدت استعدادها للتوسط من أجل الاستقرار في أفغانستان، ثم سافر وفد آخر من حركة طالبان إلى الصين في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2014 (15)، كل هذه التحركات تأتي لتفويت الفرصة على أميركا في هذه المرحلة من خطتها للمنطقة، فتعتقد الصين أن حركة طالبان إذا انضمت إلى عملية المصالحة فإن ذلك سيفوِّت الفرصة على أميركا لنقل الاضطرابات والمعارك إلى الصين وإلى مناطق في آسيا الوسطى.
لم تُستبدل داعش بطالبان؟
لماذا تحرص أميركا على تهيئة الظروف المواتية لانتشار “تنظيم الدولة” في شمال أفغانستان، في حين تحارب طالبان لمنعها من ذلك؟
والإجابة تكمن في الاختلاف بين طبيعة التنظيمين، تنظيم الدولة وحركة طالبان؛ فحركة طالبان حركة محلية ظهرت لتصحيح الانحرافات التي حدثت في “مسيرة الجهاد” بعد سقوط الحكومة الشيوعية؛ فهي حركة تصحيحية محلية وليس لديها أجندة عالمية، ولم تنشأ للوقوف ضد “أطماع أميركا في العالم”، ورغم كل ما تعرضت له في السنوات الأربعة عشر الماضية من الحرب الأميركية ضدها لم تحاول طالبان أن تنقل معركتها ضد أميركا إلى خارج الحدود الأفغانية، فهي بهذا المنطق لا تصلح لنقل الاضطرابات إلى الأراضي الصينية أو إلى دول آسيا الوسطى، على خلاف تنظيم الدولة الذي ظهر أول ما ظهر وهو يحمل مشروعًا عالميًّا؛ وللدلالة عليه غيَّر اسمه من “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إلى “دولة الخلافة الإسلامية”، وهي معنية بأوضاع المسلمين في تركستان الشرقية مثل اهتمامها بأوضاع المسلمين في دول آسيا الوسطى، وكل من ينشق عن طالبان وينضم إليها إنما يفعل ذلك طلبًا لهذه الأجندة العالمية، ومن هنا وقع الاختيار على “تنظيم دولة الخلافة الإسلامية” لأنه ناقل جيد للاضطرابات إلى ما وراء الحدود الأفغانية في الفترة المقبلة.
إلى جانب ذلك فإن حركة طالبان بدأت في الآونة الأخيرة تميل نوعًا ما إلى المصالحة مع الحكومة الأفغانية، فإذا حصلت المصالحة بينهما ستنتهي مبررات التواجد الأميركي والغربي في المنطقة، ومن هنا يجب توفير إطار أكثر تشددًا لاستيعاب المجموعات التي ستعارض قرار حركة طالبان بالانضمام لعملية المصالحة، وذلك الإطار هو تنظيم الدولة ليوفر وجوده ونشاطه المبرِّر لاستمرار تواجد القوات الغربية والأميركية في أفغانستان والمنطقة.
هذه هي ملامح المهمة الجديدة للقوات الأجنبية في أفغانستان، فإن لها أهدافًا معلنة، وتلك الأهداف تتلخص في الدعم والتدريب وتقديم المشورة للأجهزة الأمنية الأفغانية على المدى القريب، لكن يبدو أن هذه الأهداف لن يتحقق منها إلا النزر اليسير مثل أهداف المرحلة السابقة، وأما الأهداف غير المعلنة فهي تتلخص في تهيئة الظروف لنشأة مجموعات مسلحة في شمال وشمال شرقي أفغانستان تحت غطاء “تنظيم الدولة” وذلك بهدف نقل الاضطرابات إلى الأراضي الصينية وإلى دول آسيا الوسطى، وستكون وسائل أميركا في هذه المرحلة مختلفة عن وسائلها في المرحلة السابقة، فإنها ستخوض هذه المعركة بأذرعها الاستخباراتية نظرًا لطبيعة المرحلة، فإذا لم تنتبه دول المنطقة لهذه اللعبة الجديدة ولم تعمل على إفشالها وتفويت الفرصة على أميركا عن طريق الوصول إلى إنهاء الحرب والتوصل إلى المصالحة بين الحكومة الأفغانية والمعارضة المسلحة فإن المنطقة ستغرق في مزيد من الاضطرابات، وسيسيل مزيد من الدماء، وإذا انتبهت لها القوى المؤثرة في المنطقة فإن فرص نجاحها ستقل أو تنعدم.
__________________________________
مصباح عبد الباقي – أستاذ مشارك بجامعة سلام، كابول-أفغانستان
المصادر
1- تقرير إخباري باللغة الفارسية، ترجمته بعنوان “نهاية مهمة قوات الناتو في أفغانستان التي طالت ثلاثة عشر عامًا”، موقع (TRT) التركي، 29 ديسمبر/كانون الأول 2014،
http://www.trt.net.tr/persian/%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D9%87/2014/12/29/%D9%BE%D8%A7%DB%8C%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%B1%DB%8C%D8%AA-%D8%B3%DB%8C%D8%B2%D8%AF%D9%87-%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%87-%D9%86%D8%A7%D8%AA%D9%88-%D8%AF%D8%B1-%D8%A7%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-136015
تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2015.
2- The Afghan War is Not Over: U.S. Ends 13-Year Combat Mission, But 10,000+ Troops Continue the Fight, Democracy now, 29 December 2014.
http://www.democracynow.org/2014/12/29/the_afghan_war_is_not_over.
Accessed on 3 March 2015
3- تقرير بالفارسية ترجمته بعنوان: آشتون كارتر: يجب الاطمئنان على أن التقدم المحرَز في أفغانستان ثابت ومستمر، راديو ازادي، 22 فبراير/شباط 2015.
http://da.azadiradio.org/content/article/26862372.html
تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2015.
4- Wales Summit Declaration on Afghanistan, NATO, 14 September 2014.
http://www.nato.int/cps/en/natohq/news_112517.htm
Accessed on 8 March 2015
5- أكثر هذه الدول مساهمة هي الولايات المتحدة الأميركية حيث تشارك بعشرة آلاف جندي، ومنها: بريطانيا وألمانيا وتركيا وغيرها، راجع لتفاصيل الدول المساهمة في المهمة الجديدة “الدعم الحازم”، موقع الناتو.
Resolute Support Mission (RSM): Key Facts and Figures, NATO, 26 February 2015.
http://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/pdf_2015_02/20150227_1502-RSM-Placemat.pdf
Accessed on 7 March 2015
Domínguez Gabriel, What can NATO’s new Afghanistan mission achieve,DW, 6 January 2015.
http://www.dw.de/what-can-natos-new-afghanistan-mission-achieve/a-18173869
Accessed on 7 March 2015
6- راجع تصريحات حامد كرزاي بهذا الخصوص تحت عنوان ترجمته: “كرزاي: معتقل باغرام مصنع لصناعة طالبان”، بي بي سي بالفارسية، 25 يناير/كانون الثاني 2015، وتمت مراجعتها يوم 4 مارس/آذار 2015 على العنوان التالي:
http://www.bbc.co.uk/persian/afghanistan/2014/01/140125_k02-karzai-bsa-bagram
تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2015.
7- إن كل ما سيقدمه الناتو لأفغانستان في المرحلة القادمة من المساعدات، هو لتعزيز الشرطة والأمن والجيش، انظر:
A new chapter in NATO-Afghanistan relations from 2015, NATO, January/February 2015
http://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/pdf_2015_02/20150203_150203-Backgrounder-Afghanistan_en.pdf
Accessed on 8 March 2015
8- خرم، عبد الكريم، في مقال ترجمته بعنوان “لماذا لم نوقِّع اتفاقية التعاون الثنائي في مجالي الأمن والدفاع بين أميركا وأفغانستان؟” موقع زمن باللغة الفارسية، 31 يناير/كانون الثاني 2015.
أيرولت في الرياض دعما للشراكة الاستراتيجية بين فرنسا والسعودية
تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2015.
9- من المهم الإشارة إلى أن تحول هذه المجموعات من طالبان إلى “تنظيم الدولة” لا يكون بالانتماء التنظيمي للأخير، بل بالتأثر بالفكري. وتحولها من حركة طالبان إلى تنظيم الدولة يوفِّر أمرين اثنين بيد الأميركيين؛ أحدهما: الاستفادة من الأجندة العالمية لهذه المجموعات المنشقة، وبُعدها عن قيادتها المركزية في الشام والعراق وصعوبة التواصل معها، لنقل المعركة إلى ما وراء الحدود الأفغانية، وثانيهما: جعلها جزءًا من أوراق الضغط على حركة طالبان، لأن الانشقاقات تقود إلى القتال بين المنشقين وتنظيمهم الأم حركة طالبان؛ ما يعني إضعاف الأخيرة.
10- “ضرب عضب” عضب اسم رمح النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم او اسم سيفه، فسموا هذه العمليات العسكرية تيمنا بذلك لإضفاء الصبغة الدينية والإسلامية عليها.
11- راجع تقرير بالفارسية ترجمته بعنوان: أفغانستان: سكوت الحكومة تجاه تواجد تنظيم الدولة في أفغانستان، إذاعة صوت أميركا، 18 يناير/كانون الثاني 2015.
http://www.darivoa.com/content/us-campbell-afghanistan-isis-north-west-south/2603221.html
تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2015.
12- هذه ولايات في شمال أفغانستان.
13- انظر لهذه المعلومات كلها مقالًا بالفارسية ترجمته بعنون: تجمع مقاتلي المجموعات المختلفة تحت لواء “داعش” في شمال أفغانستان، موقع سنترال آسيا أونلاين، 26 فبراير/شباط 2015.
http://centralasiaonline.com/fa/articles/caii/features/main/2015/02/26/feature-01
تاريخ الدخول: 8 مارس/آذار 2015.
14- خبر بالفارسية ترجمته بعنوان: “داعش” أفغانستان تهدد حلفاء روسيا، موقع صوت روسيا، 5 مارس/آذار 2015،
http://dari.ruvr.ru/news/2015_03_05/283210744/
تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2015.
15- انظر تقريرًا بالفارسية ترجمته بعنوان: الصين: نتوسط بين حركة طالبان وحكومة أفغانستان، روزنامه اطلاعات روز، 14 يناير/كانون الثاني 2015.
http://www.etilaatroz.com/%DA%86%DB%8C%D9%86-%D8%A8%DB%8C%D9%86-%D8%AD%DA%A9%D9%88%D9%85%D8%AA-%D8%A7%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D9%88-%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D9%BE%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D9%85
تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2015.
مصباح عبد الباقي
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات