بدأت معركة فرض «منطقة خفض التوتر» الرابعة في إدلب وريفها. كانت مقررة منتصف الشهر الماضي، لكنها تأخرت لأسباب كثيرة. تقررت ساعة الصفر في قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. وأعقبتها لقاءات بين وفد رسمي من دمشق مع مسؤولين أتراك برعاية السفارة الروسية في أنقرة. لم يعد بمقدور موسكو إهدار مزيد من الوقت. منيت قواتها في الأسابيع الأخيرة بخسائر لم تكن تتوقعها. وهي تخشى مزيداً من الانزلاق العسكري البري. لذلك ستقدم الدعم الجوي إلى فصائل «الجيش الحر» في مقابل دعم بري تقدمه تركيا لإنهاء سيطرة «هيئة تحرير الشام» على شمال غربي سورية. أي إنهاء سيطرة «جبهة النصرة» أكبر تنظيم في الهيئة. بعد ترسيخ «المناطق الأربع» تدخل الأزمة في بلاد الشام مرحلة جديدة عنوانها البحث عن تسوية سياسية انتقالية تتويجاً لوقف الحرب، بانتظار حل سياسي دائم.
لا جدال في أن موسكو رسّخت أقدام النظام في دمشق. لكنها بعد عامين على تدخلها العسكري انتزعت ورقة التصرّف في سورية. ولم يكن أمام جميع اللاعبين سوى الإقرار بهذا الواقع. وهكذا نجحت في فرض رؤيتها إلى التسوية. فرضت مفهومها للفصائل الإرهابية وتلك المعتدلة. وبعدما كانت تركز على ضرب مجاميع المقاتلين بلا تمييز في بداية انخراطها ميدانياً، اعترفت بـ «الجيش الحر» وفصائل أخرى «معتدلة». وكانت هذه طرفاً في اتفاقات إقامة المناطق الآمنة التي تقررت في آستانة. وانصرفت أخيراً إلى حرب «داعش» و «النصرة». لكنها لن تصل بعد إلى خاتمة تقيها التورط الميداني، بعد الجوي. أفلحت سياسياً في فرض نفسها حكماً في الاصطفافات المتناقضة في الأزمة السورية. عززت تحالفها مع إيران. واستمالت تركيا التي تحولت ورقة المعارضة بيدها «إشكالية». وتعمل على إعادة ما انقطع بينها وبين النظام في دمشق. وراع الرئيس بوتين في قمم متتالية بينه وبين الملك عبدالله الثاني هواجس الأردن. فعمان لم تشأ منذ اندلاع النار في بلاد الشام التورط المباشر. قدمت إلى الأميركيين وقوى محسوبة على «أصدقاء الشعب السوري» تسهيلات لتدريب فصائل معتدلة ساهمت في إبعاد المتطرفين والمتشددين عن حدودها. وهي تحاول اليوم مع سعيها إلى إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع دمشق، إيجاد صيغة لتسليمها معبر نصيب الحيوي. مع علمها أن إقامة المنطقة الآمنة في جنوب سورية أنشئت بالاعتراف «الدولي» بالفصائل المقيمة في منطقة الحدود. وبالتالي لا يمكن تجاهلها وكفّ يدها عن هذا المعبر.
أما الدولة العبرية فواظبت على استهداف ما تسميه شحنات أسلحة من إيران إلى «حزب الله»، أو مواقع لتخزين أو صناعة صواريخ للحزب. ولم تعترض القيادة الروسية. أبدت استياءها لكن الخط المفتوح بين قوات البلدين من بدايات التدخل الروسي ظل مفتوحاً! مثلما ظل مفتوحاً باب اللقاءات بين المسؤولين الروس والإسرائيليين على أعلى المستويات. ولم تقف الديبلوماسية الروسية عند حدود دول الطوق السوري. دفعت مصر إلى أداء دور في التفاهم على بعض «مناطق خفض التوتر». وعولت ولا تزال تعول على دور المملكة العربية السعودية، خصوصاً بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو، في العمل على توحيد أطياف المعارضة لتكون جاهزة لجولة جديدة من المفاوضات في جنيف بعد أسابيع. أفادت من توجه القيادة السعودية خصوصاً نحو توسيع رقعة علاقاتها الإستراتيجية، نحو الشرق، من الصين إلى اليابان والدول الإسلامية الكبرى في آسيا، بعد النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات الرئيس باراك أوباما في المنطقة العربية. وهكذا ضمنت إلى حين مروحة واسعة من التفاهمات التي أتاحت لها التحكم بورقة سورية.
لكن تحويل موسكو بلاد شام منطلقاً أو قاعدة نحو «الشرق الأوسط الكبير» دونه عقبات ومحطات صعبة. أولها السياسة الجديدة التي سيعلنها الرئيس دونالد ترامب بعد أيام، خصوصاً حيال إيران. فقد كرر اتهامها بعدم «احترام روحية» الاتفاق النووي، وبـ «دعم الإرهاب وتصدير العنف والدم والفوضى في الشرق الأوسط». وأكد وجوب «وضع حد لعدوانها المستمر». وأشار بعد عشاء مع جنرالاته إلى «هدوء يسبق العاصفة». ولا تزال واشنطن تصر على وجوب إقفال الحدود بين سورية والعراق، انطلاقاً من «المنطقة الجنوبية» وقاعدة التنف، إلى المناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. وتسعى كل من موسكو وواشنطن إلى خفض منسوب التوتر بينهما انطلاقاً من الصراع الذي قد ينفجر بعد الانتهاء من تحرير الرقة ودير الزور من «داعش».
من العقبات أمام موسكو قضية إعادة الإعمار، إذ لا يمكن ترسيخ الهدوء في بلد دمرت الحرب حواضره وقراه وأريافه وشردت أهلها في الداخل والخارج. وقد بدأت قضية اللاجئين تطرح بشدة في كل من الأردن ولبنان. ومنذ بدأ الحديث عن مشاريع الإعمار وكلفتها التي تربو على 300 بليون دولار، راح النظام يلوح بأنه لن يسمح لـ «أصدقاء الشعب السوري» من الدول الغربية والعربية بالمساهمة في هذه الورشة الكبيرة. بل سيدعو «أصدقاءه» إلى تولي هذه المهمة! والواقع أن الصناديق الدولية وكل الدول المعنية تحجم حتى الآن عن التحرك. بل لا تضع في برامجها سورية. حتى «أصدقاء» النظام من الصين وغيرها. كأن إعادة الحياة إلى هذه المدن والقرى المدمرة مؤجلة. ويخشى أن تنضم إلى لاحقة «المدن المنسية» وقراها التي يبلغ تعدادها نحو 800. هذه «المدن الميتة» التي ازدهرت في القرون المسيحية الأولى، في أرياف حماة وإدلب وحلب، باتت اليوم من أهم المعالم السياحية في العالم. هجرها أهلها ودمر معظمها. ويعزو المؤرخون والباحثون الأسباب إلى جملة من العوامل. أهمها الغزوات الفارسية في القرنين السادس والسابع والزلالزل والأوبئة وغزو الأمويين القسطنطينية من البحر وانقطاع تجارة هذه المدن مع أوروبا. ثم جاء الصليبيون الذين حولوا مبانيها وكنائسها قلاعاً. كلها عوامل ساهمت في «نسيان» هذه المعالم التاريخية.
نجح الرئيس بوتين في الإمساك بالورقة السورية حتى الآن. لكن المهمة لن تكتمل بقيام «مناطق التهدئة». لن يستطيع تحريك ورشة الإعمار قبل البحث في مستقبل رأس النظام في دمشق، ومستقبل الوجود الإيراني في سورية. لقد ارتضى خصوم النظام بقاء الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. فضلوا مواجهة التنظيمات الإرهابية بعد استفحال فظائعها في الشرق والغرب. لكن أحداً من هؤلاء لن يكون مستعداً لفتح خزائنه وتمويل الإعمار والمساهمة في «تأبيد» بقاء النظام. كما أن السعودية وشريكاتها لن تستكين لنفوذ الجمهورية الإسلامية في المشرق العربي. ولا شك في أن نتائج زيارة الملك سلمان التاريخية موسكو وما أثمرت من اتفاقات وعقود في حقول شتى تنبىء بأن روسيا حريصة على علاقاتها بالعالم العربي، والمملكة خصوصاً لدورها المحوري والريادي في الإقليم كله. وثمة من يرى أنها قد تجد نفسها في نهاية المطاف مرغمة على تغليب خيار العالم العربي على إيران. بل لا بديل من تقليص نفوذ هذه والبحث في مستقبل الرئيس السوري، إذا كان على موسكو أن ترعى تسوية سياسية نهائية تسهّل عليها التفرغ لترسيخ نفوذها ودورها في المشرق العربي.
قسّمت روسيا حتى الآن سورية مناطق نفوذ للاعبين الرئيسيين في هذا البلد. مثلما قسّمتها مناطق بين النظام وخصومه. صحيح أن الرئيس الأسد ضمن بقاءه بعد النجاحات التي تحققت بدعم من حلفائه. ولا معنى للقول إنه استعاد السيطرة على البلاد. فالكرد عملياً يبنون بمساعدة الأميركيين حكمهم الذاتي في إطار فيديرالي. و «مناطق خفض التوتر» الأربع تتمتع باعتراف شبه دولي. أي أن ثمة اعترافاً بالفصائل التي ترعى الهدوء فيها والتي ستقيم إدارتها المدنية الخاصة بكل منطقة. ولعل هذه الخريطة ترجمة ميدانية لما نصّ عليه مشروع الدستور الذي اقترحته الديبلوماسية الروسية العام الماضي، وأثار حفيظة جميع الأطراف السوريين. لكن استعادة بعض ما تضمنه المشروع يؤشر إلى ما يمكن أن تذهب إليه موسكو بعد المرحلة الانتقالية. أدخل المشروع تعديلات جوهرية على الدستور الحالي: يسلب الرئيس جزءاً كبيراً من صلاحياته، لم تعد له سلطة اشتراعية. ويحرمه من حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وحاكم المصرف المركزي. ويجعل ولايته سبع سنوات تجدّد مرة واحدة فقط. ويمنح جمعيات المناطق (الإدارات المحلية) ومجلس الوزراء سلطات واسعة. أي أنه ينص على «لا مركزية السلطات». ويوزع مناصب وزارية على كل الكيانات مع حفظ مواقع للأقليات. ويضع القوات العسكرية تحت رقابة المجتمع ولا يحق لها التدخل في السياسة أو أداء دور في عملية انتقال السلطة… خلاصة القول إن المشروع يشكل قطعاً كبيراً مع الدستور القائم. يغير شكل النظام كلياً.
المرحلة الجديدة بعد إدلب ستفرض على الرئيس بوتين إعادة النظر في حساباته. لن يكون بمقدوره إدارة سياسات متصارعين متخاصمين على سورية وترسيخ مشروعه في سورية. لا بد من صرف أثمان وتقديم تنازلات وسلوك خيارات مؤلمة على طريق التسوية النهائية المعقولة. فهل يقدم ويجازف؟ وهل يملك النظام وحليفه الإيراني قدرة الوقوف بوجه رغبة موسكو إذا اندفعت نحو فرض مسودة «دستورها» الجاهز؟ وهل يلبي هذا بعض طموحات المعارضة والشعب عموماً ويرضي الداعين إلى رحيل الأسد بعد المرحلة الانتقالية وتقليص نفوذ طهران؟
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية