بعد عامين من توقيع الاتفاق النووي الإيراني، جاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليعيد الأزمة التي أخذت سنوات من المفاوضات إلى المربع الأول، عبر تهديداته وتلميحاته بتعليق الاتفاق، وهو ما أثار قلق أطراف إيرانية وحتى غربية. وفي “سلّة” نسف الاتفاق النووي، يبدو أن إدارة ترامب تدرس أيضاً خيار تصنيف الحرس الثوري الإيراني على لائحة “الإرهاب” التابعة لها، وفق تسريبات نقلاً عن مسؤولين أميركيين، وهو ما يستتبع حكماً فرض عقوبات عليه. وقد استدعت هذه التلميحات تهديدات إيرانية لواشنطن في المقابل.
بالأمس أطاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب «عقيدة» سلفه باراك أوباما حيال إيران، وشنّ هجوماً عنيفاً على نظامها، معتبراً أنه «الداعم الأكبر للإرهاب و «متطرف». ورفض الرئيس المصادقة على الاتفاق النووي المُبرم بين طهران والدول الست، كما أدرجت إدارته «الحرس الثوري» الإيراني على لائحة التنظيمات «الداعمة للإرهاب». ففي خطابه أجرى فيه محاكمة لسلوك إيران في الملف النووي ودعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار، لوح الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمس، بإلغاء الاتفاق النووي بين طهران و6 دول كبرى إذا لم يتم تعديله. كما فوّض وزارة الخزانة باتخاذ «عقوبات شديدة» ضد «الحرس الثوري» الإيراني الداعم للإرهاب.
وأعلن الرئيس الأميركي أربعة عناصر في استراتيجيته الجديدة، الأول هو العمل مع الحلفاء لمواجهة نشاط إيران المزعزع للاستقرار ودعم الإرهابيين في المنطقة، والثاني فرض عقوبات إضافية لعرقلة النظام عن تمويل الإرهاب،والثالث فرض عقوبات على إيران لمواصلتها تجاربها الصاروخية الباليستية وتطويرها الأسلحة التي تهدد جيرانها والتجارة العالمية وحرية الملاحة، والرابع هو منع إيران من اتخاذ أي مسار للحصول على سلاح نووي. وَرَدَ فيها: «حان الوقت لكي ينضمّ إلينا العالم بأسره في مطالبة الحكومة الإيرانية بإنهاء سعيها إلى الموت والدمار». وأشارت الى وجوب «تحييد التأثير المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية، وتقييد عدوانيتها، لا سيّما دعمها الإرهاب والمسلحين»، وزادت: «سنعيد تنشيط تحالفاتنا التقليدية وشراكاتنا الإقليمية، ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة. سنعمل على حرمان النظام الإيراني من تمويل نشاطاته الخبيثة». وأضافت: «استغل النظام الإيراني الصراعات الإقليمية وعدم الاستقرار، لتوسيع نفوذه الإقليمي بالقوة وتهديد جيرانه، في مقابل خسائر محلية أو دولية ضئيلة إزاء أفعاله». وتابع: «أعطت سياسة الولايات المتحدة، على مدى العقد ونصف العقد الماضي، الأولوية المستمرة للتهديد المباشر من الحركات المتطرفة السنية على التهديد البعيد الأمد الذي تمثله الأعمال المسلحة التي تدعمها إيران»، ما أدى إلى «إهمال التوسّع الإيراني المطرد عبر الوكلاء والشبكات الإرهابية التي تستهدف إبقاء جيرانها ضعفاء وغير مستقرين، على أمل السيطرة على الشرق الأوسط الكبير».
وفور انتهاء خطاب الرئيس ترمب أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على «الحرس الثوري». وقال ستيف منوشن وزير الخزانة الأميركي إن الحرس الثوري لعب دورا محوريا في أن تصبح إيران الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم. وبعد خطاب ترامب، بدأ الكونغرس العمل لتشريع حول ايران سيُطرح خلال 90 يوماً، وكبديل لعقوبات محتملة تطاول الملف النووي وقد تفكّك الاتفاق. وفي حال تمرير هذا التشريع، سيضاف الى الاتفاق النووي مرجعاً للإدارة، وفي حال عدم التزام ايران به، تُشدد عقوبات.
من جهة أخرى، رد الرئيس الإيراني حسن روحاني في خطاب متلفز على ترمب وقال إن تصريحاته «أثبتت أن الاتفاق النووي أقوى مما اعتقد الرئيس الأميركي في الانتخابات الرئاسية». ودعا روحاني الرئيس الأميركي إلى قراءة التاريخ والاطلاع على الجغرافيا، مضيفا أن خطابه «لم يحمل سوى الشتائم وجملة من الاتهامات ضد الشعب الإيراني». بدوره، هدد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي بالانسحاب من الاتفاق النووي «إذا لزم الأمر». وتوعدت إيران أمس بالانتقام من أي عمل يستهدف قواتها المسلحة، واتهمت الولايات المتحدة بانتهاك روح الاتفاق النووي.ونقل التلفزيون الإيراني الرسمي عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي قوله “إيران سترد بقوة على أي عمل ضد قواتها المسلحة بما في ذلك قوات الحرس الثوري”.وأضاف أن إيران ستواصل تعزيز قواتها الدفاعية، بما في ذلك برنامجها للصواريخ الباليستية في تحد للانتقادات الغربية حيث تقول واشنطن إن موقف طهران ينتهك الاتفاق النووي.
تندرج الإجراءات الأميركية الجديدة في سياق عـودة واضحة إلى الصفحة التي حاول الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أن يطويها. بالـرغم من اللهجة العالية للرئيس تـرمب، لا يعدّ موقفه استثناء إذ كانت العلاقات الإيرانية- الأميركية محور اهتمام من توالى على البيت الأبيض منذ عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر.بالطبع، لا ينكر الساسة أو أصحاب القرار في واشنطن أهمية إيران كدولة أو كنظام سياسي ومشروع إقليمي، وكذلك جل ما يتمنى من يحيك سجادة القرارات الإيرانية التوصل مع الأميركيين إلى تفاهمات تراعي مصالحهم.لكن انعدام الثقة والتناقضات في الملفات الإقليمية والنزاعات بين إيران وحلفاء واشنطن، أضاعت الكثير من الفرص بسبب مواقف أيديولوجية مسبقة مثل وصية الإمام الخميني التي تحرم المصالحة مع واشنطن، أو بسبب غياب سياسة أميركية واضحة تجاه إيران في الكثير من الفترات. والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق أيها الأهم في مشروع إيران التوسعي بقاء الحرس الثوري بعيدًا عن كل العقوبات الأمريكية والدولية أو الحفاظ على الاتفاق النووي مع السداسية الدولية؟
الحرس الثوري أهم لطهران من الاتفاق النووي بكثير. إنه عمود فقري للنظام الحاكم وللثورة الإيرانية، وأي إجراءات ضد «الحرس» ستؤثر جذرياً في السياسات الإيرانية الخارجية والداخلية. الحرس الثوري هو مؤسسة عسكرية تشكل أحد أهم أعمدة القوات المسلحة في إيران، لها دور رئيس في الداخل الإيراني، عسكريا وحتى اقتصاديا، ولدى الحرس قوات برية وبحرية وجوية وصواريخ قريبة ومتوسطة وحتى بعيدة المدى، إما مصنّعة محليا أو مطورة عن صواريخ مصنعة بتكنولوجيا روسية، وفي هذه المؤسسة العسكرية ما يزيد عن المائة ألف عضو ثابت، وما يقارب 300 ألف جندي احتياط. أما فيلق القدس، فهو أحد أبرز ألوية الحرس الثوري، ويمثل الجناح الخارجي لهذه المؤسسة العسكرية، وهو المسؤول عن الدور الإيراني الميداني في كل من سورية والعراق. وكل هذا يعني أن للحرس دورا كبيرا في معادلة السياسة الخارجية الإيرانية، فهو يمثل خطاب القوة، بينما تتبنى حكومة روحاني خطاب الانفتاح والاعتدال على الغرب بالذات.
لذا لا توجد مصلحة للعالم في ترك الحرس الثوري الإيراني يعربد في المنطقة، ويقود حرب الميليشيات في سوريا والعراق ولبنان واليمن. بانتهاء فترة الحظر المؤقتة وفق الاتفاق، ستكون إيران قد تمددت في المنطقة ونصبت حكومات عميلة لها، ولن يستطيع الغرب حينها فرض عقوبات ولا منعها من التخصيب، وتكون قد أنهت بناء منظومة الدعم من منصات ومختبرات ومخابئ وغيرها. مشروع إيران توسعي وهيمنة على المنطقة، وليس مجرد بناء قدراتها النووية لأغراض دفاعية. فالهند وباكستان، مثلاً، تملكان سلاحاً نووياً ضمن توازن القوتين في جنوب آسيا، ومنذ ذلك اليوم لم يحدث قط أن رأينا البلدين يسعيان للتمدد ولا خوض الحروب. ومن الخطأ قراءة مشروع إيران النووي على أنه مجرد رغبة للحاق بركب نادي الدول النووية. فإيران، يومياً، في معارك عسكرية مدمرة في المنطقة، ليس بينها حاجة دفاعية لها، بل كلها نشاطات توسعية. وتتضح نوايا طهران وإصرارها على تحديها للعالم من معالجتها الخلاف الحالي مع واشنطن. تنازلت الإدارة الأميركية لها في سوريا، ورضيت بالإبقاء على نظام حليفها بشار الأسد، مع هذا لم تُبْدِ طهران أي تراجع في أي مكان آخر تخوض فيه حروبها، ولم تعطِ ترمب أي تنازلات في الاتفاق النووي.
لذلك، تريد طهران الآن ربط الأمر الواقع بين الاتفاق النووي ورفضها القاطع أن تتطرق واشنطن إلى «الحرس»، بما يحمي الاثنين من الإجراءات. قد توافق طهران على إدخال عنصر الصواريخ الباليستية على الاتفاق النووي بصورة جدية إذا ضمن لها ذلك حماية «الحرس الثوري» من إجراءات فعلية عبر تصنيفه إرهابياً. إنها تعي أهمية تحدي الرئيس الأميركي مسألة التصديق التلقائي على تنفيذها ما هو مطلوب منها، في إطار الاتفاق النووي، ليس لاعتقادها أن هذا سيؤدي إلى تمزيق الاتفاقية –والتمزيق ليس وارداً الآن– بل لأن إلغاء التلقائية أو الأوتوماتيكية يعني أن دونالد ترامب يرمي الكرة في ملعب الكونغرس. وهذا خطِر على إيران.ما يعنيه تعبير سحب التصديق أن طهران تلتزم تنفيذ الاتفاقية كل 90 يوماً، هو أن دونالد ترامب لا يريد أن يوقّع شهادة بأن إيران تنفّذ ما يتوافق مع انتقاداته لصلب وفحوى الاتفاق النووي الذي يعتبره من أسوأ الاتفاقات. هذا لا يعني أبداً أنه في صدد تمزيقه. فلو أراد فتح ذلك الباب، من حقه كرئيس أن يعلن أن الاتفاق ليس في المصلحة القومية للولايات المتحدة بغض النظر عما إذا نفذته طهران أو لم تنفذه. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق ما العلاقة بين الاتفاق النووي والحرس الثوري؟
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها أطراف دعمت فرض عقوبات تستهدف الحرس الثوري والبرنامج الصاروخي الإيراني، الفصل بين هذه المؤسسة العسكرية والملف النووي، من خلال فرض قرارات عقوبات متتالية منذ اليوم الأول من عمر الاتفاق، وتعاملت طهران مع الأمر على أنه انتهاك لما وصفته بجوهر وروح الاتفاق، والذي من المفترض أن يعلق فرض العقوبات الجديدة. لكن واشنطن تعاملت مع الأمر من نواحيه القانونية، مبررة إياه بأنه لا يرتبط أساسا ببرنامج إيران النووي. أصرت إيران، من جهتها، على التعامل مع الملف الصاروخي على أنه منفصل عن ذاك النووي، وقام الحرس الثوري بعدد من التجارب على صواريخ باليستية، وهو ما وصفته واشنطن، من جهتها، بأنه انتهاك للاتفاق. لكن المسؤولين السياسيين والعسكريين في إيران، رأوا أنه لا علاقة لهذا بالنووي أيضا، كون الصواريخ الإيرانية دفاعية، وغير قابلة لحمل رؤوس نووية، وهي النوع الذي يحظره نص الاتفاق.
ما قد يريده دونالد ترامب هو أن يعيد فتح المفاوضات في مسألة الصواريخ، لكنه لا يطرح فكرة توسيع المفاوضات لتشمل التوسعات الإيرانية الإقليمية. لعل في ذهنه فتح ذلك الملف يكون عبر تصنيف «الحرس الثوري» إرهابياً. لكنه ليس في صدد تمزيق الاتفاق.السؤال هو، ما هي الإجراءات التي ستترتب على الأمرين: تصنيف «الحرس» إرهابياً، وسحب تصديق الرئيس الأميركي على قيام طهران بتنفيذ الاتفاق النووي كل 90 يوماً؟ فالمسألتان معقدتان. ثم إن إعلان مثل هذين الموقفين من دون اتخاذ إجراءات فعلية وجدية، سيسلب الصدقية من دونالد ترامب، وكذلك من الكونغرس.الاندفاع الإعلامي في التمسك الصارم بالاتفاق النووي مع إيران لافت في أنه يعكس بدوره استعداد هذا الإعلام لغض النظر عن التوسعات الإيرانية في الجغرافيا العربية على أيدي «الحرس الثوري»، بل استعداده لرفض التصنيف الإرهابي لـ «الحرس» مهما فعل أينما كان.هناك نوع من الرضوخ في صفوف الإعلام الأميركي الليبرالي لفكرة «لا خيار آخر سوى» الرضوخ أمام الطموحات النووية لكل من إيران وكوريا الشمالية. النغمة «الدارجة» هي التلويح بأن التصدي لإيران والاتفاق النووي معها سيعزز عناد كوريا الشمالية على أساس أن أميركا لا تحترم الاتفاقيات. واقع الأمر أن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون يتذكر مصير العقيد الليبي معمر القذافي كمثال على ما تفعله أميركا بالذين يتخلون عن السلاح النووي، ومصير صدام حسين كمثال عن الذين يوافقون على إخضاع بلادهم لتفتيش جدي على أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.اللافت أن الليبراليين في الإعلام الأميركي قرروا الرضوخ أمام الأمر الواقع والإقرار بأن لا رجعة عن امتلاك كوريا الشمالية القدرات النووية المسلحة، تماماً كما إيران. إنهم يوافقون عملياً على نسف المبدأ الذي تحكم بالمسألة النووية لسنوات، وهو «عدم السماح بانتشار الأسلحة النووية» (nonproliferation)K وهذا بحد ذاته أخطر الأخطار.
المعركة مع دونالد ترامب شيء، والتعامل مع الملف النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية شيء آخر. من حق الإعلام الأميركي أن يدق ناقوس الرعب من رئيس يتهمه بأنه «متهوّر» و «جاهل» و «اعتباطي» و «غير سليم للحكم». إنما ليس من حقه أن يتجاهل إفرازات مرعبة لسياسات سكت عنها ثم استفاق لينتقدها، مثل حرب جورج دبليو بوش في العراق، ولسياسات أميركية مكّنت تنظيماً عسكرياً إيرانياً خارجاً عن الجيش الوطني من فرض سيطرته في العراق والدخول طرفاً في الحرب السورية لسحق المعارضة المعتدلة التي زعمت إدارة أوباما أنها تدعمها.
هل يمكن القول إن مرحلة جديدة من التصعيد بدأت بين واشنطن وطهران قد تكون مفتوحة على أكثر من مسار، خاصة بعد أن وصلت الخلافات إلى الحرس الثوري، الذي تعول عليه إيران في دعم تمددها الإقليمي وطموحاتها النووية، ضمن الرسائل المشفرة الموجهة لطهران، تخوّل الاستراتيجية الأميركية الجديدة الرد بقوة أشدّ على استفزازات الزوارق الإيرانية ضد السفن الأميركية في الخليج العربي، وتعزيز عمليات الاعتراض الأميركية لشحنات الأسلحة الإيرانية، مثل تلك المتجهة إلى المسلحين الحوثيين في اليمن، والجماعات الفلسطينية في غزة، وإلى شبه جزيرة سيناء.إن المواجهة المتـوقعة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران ضمن المعطيات السابقة، ستدور ضمن حدود لجم وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن تلويح المقاربـة بجعل ماهية وبنية النظـام السيـاسي في إيران من الأهداف الأميركية، يبتغي على الأرجح تعديل سلوك إيران واحتواءها. من طهران إلى بيونغ يانغ يجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه في مواجهة محمومة تتأجج على صفيح ساخن في مجمل الشرق الأوسط.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية