يونغ يانغ، كوريا الشمالية- الطيران إلى كوريا الشمالية على متن طائرة روسية قديمة هو أشبه بالدخول إلى عالم بديل، واحدٍ يهزم فيه “القائد الأعلى” الإمبرياليين الأميركيين الجبناء، ويُؤخذ فيه واحد من ثلاثة توائم من الآباء والأمهات لكي تربيهم الدولة، وتبدو فيه الحرب النووية وشيكة، وإنما يمكن كسبها -والذي ليس فيه أي تعاطف مع المعتقلين الأميركيين مثل أوتو وارمبير.
وارمبير هو طالب جامعة فيرجينيا الذي اعتقل بسبب سرقة ملصق، ثم حكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقة، وعاد في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة في حالة غيبوبة.
وفي التعليق، قال ري يونغ بيل، المسؤول الكبير بوزارة الخارجية: “لقد انتهك القانون في بلادنا”، مضيفاً أن وارمبير أعيد (قبل أسبوع من وفاته) كعمل “إنساني”. وأكد مسؤول آخر في الوزارة، تشوي كانغ إيل، أن كوريا الشمالية قدمت له رعاية ممتازة وأنفقت “كل الأموال اللازمة لتمريضه”.
انقصف شيء في داخلي. سألت كيف يمكن للكوريين الشماليين أن يفخروا بإنفاقهم على شاب عندما كان في غيبوبة بسببهم فقط. ورد تشوي بالحرارة نفسها بأن وارمبير لم يتعرض أبداً لسوء المعاملة، وكان في حالة جيدة عندما أعيد إلى الوطن.
وقال تشوي: “الإدارة الأميركية، أو بعض الأشخاص الذين لديهم نية معينة، هم الذين تركوه يموت”. وأضاف: “لا بد أن الهدف من وراء ذلك كان تعزيز ونشر الكراهية المناهضة للشيوعية في أميركا”.
ولم يقدم المسؤولون الكوريون أي اعتذار أو يقدموا أي أسس وخلفيات، مما يعكس موقفاً متشدداً تجاه الولايات المتحدة، والذي وجدتُه في كل مكان خلال هذه الزيارة؛ وقد سخر تشوي من الرئيس ترامب ووصفه بأنه “رجل مجنون” و”بلطجي” و”رجل مثير للشفقة بفم كبير”. وكنت أغطي شؤون كوريا الشمالية وخارجها منذ الثمانينيات، لكن هذه الرحلة لمدة خمسة أيام تركتني أكثر جزعاً من أي وقت مضى إزاء مخاطر حدوث مواجهة كارثية.
مُنِحتُ تأشيرة دخول إلى كوريا الشمالية، بالإضافة إلى ثلاثة صحفيين آخرين في صحيفة “نيويورك تايمز”. وقد أعطتنا وزارة الخارجية الأميركية على الفور إعفاء من حظر السفر إلى كوريا الشمالية، وأصدرت لنا جوازات سفر خاصة صالحة لرحلة واحدة هنا.
على نحو أكبر بكثير مما كان عليه الحال في زيارتي السابقة، تقوم كوريا الشمالية بتعبئة شعبها لتوقع حرب نووية مع الولايات المتحدة. ويسير طلاب المدارس الثانوية في الشوارع في الزي العسكري كل يوم للتنديد بأميركا. وتظهر الملصقات واللوحات الإعلانية على طول الطرق العامة، وهي تحمل صور صواريخ تدمر مبنى الكابيتول الأميركي وتمزق العلم الأميركي. وفي الواقع، تنتشر صور للصواريخ في كل مكان -في ساحات رياض الأطفال، وفي عرض للدلافين، وعلى شاشة التلفزيون الحكومي. ويرافق هذه التعبئة العسكرية افتراض في كل مكان بأن كوريا الشمالية لن تستطيع البقاء على قيد الحياة في نزاع نووي فحسب، وإنما ستخرج منه منتصرة أيضاً.
شرح مون هيوك-ميونغ، 38 عاماً، وهو مدرس كان يزور متنزهاً للتسلية: “إذا كان علينا أن نذهب إلى الحرب، فإننا لن نتردد في تدمير الولايات المتحدة تماماً”.
وبدا ريانغ سونغ تشول، وهو عامل مصنع يبلغ من العمر 41 عاماً، مندهشاً عندما سألته عما إذا كانت بلاده قادرة على البقاء والنجاة من حرب مع أميركا. وقال: “سوف نفوز بالتأكيد”.
بطبيعة الحال، أجريت هذه المقابلات بحضور اثنين من موظفي وزارة الخارجية، ولكن حتى لو لم يكونا هناك، فإنها لا توجد فرصة لأن يتكلم الناس العاديون بحرية مع صحفي أجنبي. ربما يكون هذا البلد هو الأكثر رقابة في العالم، ولذلك ينبغي النظر إلى هذه الاقتباسات على أنها تعكس نصاً حكومياً -وفي هذه الحالة، واحداً قومياً متطرفاً إلى حد مقلق.
في الرحلات السابقة (كانت آخر مرة في العام 2005)، بقينا نحن الصحفيين في الفنادق في العاصمة، وكنا أحراراً في التجول وحدنا. أما هذه المرة، فقد استضافتنا وزارة الخارجية في دار كوبانغسان للضيافة تحت حراستها الخاصة في شرق العاصمة. في البداية اعتقدت أن هذا الإجراء يهدف إلى تقييدنا ببساطة، ولكني رأيت على نحو متزايد علامات على شيء أكثر إثارة للاهتمام وأكثر تهديداً: إن وزارة الخارجية تحمينا أيضاً من المتشددين في الجيش أو في الأجهزة الأمنية.
وقال أحد المسؤولين “قد يسمع شخص ما أنك من أميركا”، ويمكن أن تقع المتاعب.
ويبدو أن المتشددين قد اكتسبوا قوة أكبر هذا العام، خاصة بعد تهديد ترامب “بالتدمير الكامل” لكوريا الشمالية، وقيل لنا إن الضباط العسكريين يسخرون في بعض الأحيان دبلوماسيي بلدهم لكونهم “محاسيب أميركا” الضعفاء الذين تعوزهم الشجاعة.
رافقَنا مسؤولو وزارة الخارجية في كل مرة غادرنا فيها المجمع، ربما لإبعادنا عن الأذى وحمايتنا من الأجهزة الأمنية على حد سواء.
نعم، كل هذا كان غير مريح بعض الشيء. والنتيجة هي أنني شعرت بأنني مقيَّد أكثر مما كنت في زياراتي السابقة لكوريا الشمالية، وأكثر توتراً بكثير. في المرات السابقة، كنت أستطيع مقابلة كبار الجنرالات، ولكن الجيش هذه المرة رفض رفضا قاطعاً النظر في طلباتي لإجراء مقابلات. ورفضت قوات الأمن أيضاً طلبي لقاء الأميركيين الثلاثة الذين ما يزالون محتجزين هناك، أحدهم لمدة عامين الآن، ومن دون وصول قنصلي.
ثمة مشكلة أساسية، وهي أن المتشددين يبدون في صعود في كل من واشنطن وبيونغ يانغ.
في واشنطن، دعا وزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى حل دبلوماسي للصراع مع كوريا الشمالية -ولكن ترامب نقض أقواله على تويتر بعد ذلك، وقال إن تيلرسون “يضيع وقته”. وتقوم سياسة ترامب تجاه كوريا الشمالية على افتراضات كاذبة بأن “القائد الأعلى”، كيم جونغ-أون، سوف يتخلى عن أسلحته النووية، وأن الصين يمكن أن تنقذ الوضع وأن الخيارات العسكرية حقيقية.
وفي بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية المليئة بالشوارع الواسعة والمباني الضخمة، يعرب المسؤولون أيضاً عن اهتمام ضئيل بنوع التنازلات الصعبة التي ستكون ضرورية لحل الأزمة.
وقال تشوي، مسؤول وزارة الخارجية: “إن الوضع في شبه الجزيرة الكورية على حافة اندلاع حرب نووية”. وأضاف: “يمكننا أن ننجو ونتجاوز” مثل هذه الحرب، وقال هو ومسؤولون آخرون إن هذا ليس هو الوقت المناسب لإجراء محادثات مع الولايات المتحدة.
ويصر الكوريون الشماليون على أن تتخذ الولايات المتحدة الخطوة الأولى وتقوم بخفض عقوباتها و”موقفها العدائي” -وهو ما لن يحدث. كما أن الولايات المتحدة غير واقعية بالمقدار نفسه في الإصرار على أن تتخلى كوريا الشمالية عن برنامجها النووي بأكمله.
أخبرتُ تشوي بأن زيارتي أعطتني إحساساً بأنني مررتُ بهذا الوضع من قبل، وذكرتني برحلة كنتُ قد قمتُ بها إلى عراق صدام حسين عشية الغزو الأميركي. لكن الفرق هو أن الحرب هنا لن تكون مجرد كارثة إقليمية، وإنما ستكون جائحة نووية.
لم يكن تشوي معجباً بتحذيري. وقال إن العراق وليبيا ارتكبا خطأ فى التخلي عن برامجهما النووية؛ وفي كلتا الحالتين، أطاحت أميركا بالنظام. وأضاف أن الدرس من ذلك واضح، ولذلك لن تتفاوض كوريا الشمالية أبداً للتخلي عن رؤوسها الحربية النووية.
ومع ذلك، وفيما يتعلق بظل الحرب المحتملة، حدثت تغييرات إيجابية في كوريا الشمالية. انتهت المجاعة (على الرغم من أن سوء التغذية ما يزال يترك واحداً من بين كل أربعة أطفال مصاباً بالتقزم)، وتطور الاقتصاد وأصبح المسؤولون الحكوميون أكثر انفتاحاً ودهاءاً بكثير مما كانوا عليه قبل جيل مضى.
اعتاد المسؤولون إنكار أن هناك أي جريمة تحدث في كوريا الشمالية -لكنهم أصبحوا يعترفون الآن بحرية بأن هذا البلد فيه لصوص، وبأن الشابات يحملن في بعض الأحيان قبل الزواج، وبأن هناك حتماً قدراً من الفساد. (لكنهم ينكرون مع ذلك أن يكون في كوريا الشمالية أشخاص مثليو الجنس).
لم تعد كوريا الشمالية مغلقة بإحكام، ويتم الآن تهريب موسيقى البوب الكورية والمسلسلات الاجتماعية على محركات أقراص “فلاش” وأقراص الفيديو الرقمية من الصين (تعتبر مشاهدتها جريمة جنائية خطيرة). وهناك أيضاً إنترنت -ولو في نسخة محلية مُسيطر عليها بصرامة- ويتعلم الطلاب اللغة الإنجليزية من حوالي الصف الثالث. وفي أفضل المدارس، مثل مدرسة بيونغيانغ الثانوية رقم 1، تجد أن الطلاب أذكياء بشكل غير عادي، وقد تحدثوا معنا باللغة الإنجليزية بطلاقة، وبتطور أكثر بكثير من زيارتي الأولى للمدرسة نفسها في العام 1989.
ولكن، ما تزال هذه كوريا الشمالية. وقد سألت هؤلاء الأولاد عما إذا كانوا قد سمعوا ببيونسي أو البيتلز؛ ولم يسمع بهم أحد. وسألتهم عما إذا كانوا قد سمعوا بالفيسبوك. وقد سمع عنه واحد فقط، لأن برمجيات الحاسوب أحالت إليه في بعض الأحيان، لكنه لا يعرف ما هو.
أجهزة الراديو أو التلفزيونات التي يمكن أن تلتقط بث برامج أجنبية غير قانونية، وليست هناك إمكانية للوصول إلى الإنترنت إلا للأجانب وكبار المسؤولين. وعندما وصلت المطار، تم تفتيش أمتعتي بعناية بحثاً عن المنشورات الخبيثة، بل وحتى تم فحص هاتفي المحمول.
“من هي هذه المرأة”، سألت موظفة الجمارك بلهجة شك عندما رأت امرأة آسيوية تظهر في كثير من الأحيان في صوري.
أوضحت: “زوجتي”.
“أوه”، قالت متراجِعة، “إنها جميلة”.
في كل بيت أو قرية متحدِّث باسمها، وصِلة مع “الأخ الأكبر”، والذي يقرع طبول الدعاية كل صباح. الدين والمجتمع المدني ممنوعان. وكانت الضوابط الحكومية قد خفتت خلال زمن المجاعة الرهيبة في التسعينيات، عندما توفي نحو 10 في المائة من السكان، لكن هذه الضوابط عادت مع الانتعاش الاقتصادي. هذه هي الدولة الأكثر شمولية واستبداداً في تاريخ العالم، لأنها تحتوي على أجهزة الحاسوب، وكاميرات الدوائر المغلقة، والهواتف المحمولة وغيرها من تقنيات المراقبة والرصد التي كان يمكن أن يحلم ستالين أو ماو بها فقط.
وكوريا الشمالية في بعض الأحيان مكان غرائبي ببساطة. فيها يؤخذ أحد الأبناء من توأم ثلاثي من والديه وتقوم الدولة بتربيته لأنه يعد طائراً ميموناً وبشيراً بالازدهار. وعبادة الشخصية في البلد حاضر لا ينقطع؛ حيث يرتدي كل بالغ على صدره دبابيس تحمل صور “القائد العظيم”، كيم إيل سونغ، الذي توفي في العام 1994، أو ابنه “الزعيم العزيز”، كيم جونغ إيل، الذي توفي في العام 2011، كما أن صورهم معلقة في كل منزل، وكل مصنع، وكل فصل دراسي.
كل عام يموت الناس في محاولة لإنقاذ صور كيم من حرائق المنازل (سواء بسبب الولاء الحقيقي أو لكسب الفضل مع السلطات)، والآن، يتوجه هذا التقديس على غرار النمط الكونفوشيوسي إلى كيم جونغ أون، 33 عاماً، وسليل العائلة المقدسة. ويعني اسمه “العادل والرحيم”، كما أن وسائل الإعلام الحكومية تتحدث بلهجة التقديس عن “عبقريته الرائعة، وفطنته العسكرية، وشجاعته التي لا تُضاهى، وفنه المتميز في القيادة”، على حد قول أحد المنشورات.
هل يؤمن الناس في كوريا الشمالية بهذه الأشياء حقاً؟
كنتُ قد أجريت مقابلات مع عدد لا يحصى من المنشقين على مر السنين، وهم يقولون إن هناك المزيد من خيبة الأمل بين جيل الشباب وفي منطقة الحدود الصينية؛ حيث يدرك الكوريون أن بلادهم قد تركت في الخلف من ركب الأمم. لكن المنشقين يضيفون أن العديد من الكوريين الشماليين، وخاصة كبار السن والبعيدين عن الحدود الصينية، يؤمنون حقاً بالنظام ويعبدون عائلة كيم -لأنهم لا يعرفون شيئا آخر.
وتوافق على ذلك جيون بايك، مؤلفة الكتاب الذي صدر مؤخراً عن كيفية وصول المعلومات إلى الكوريين الشماليين: “ما يزال الكثيرون من الجيل الأكبر سناً موالين للنظام”. وتقول إن المواقف تتغير بين الشباب وأولئك الذين لهم علاقة باقتصاد السوق، لكنها لا تتوقع قيام انتفاضة شعبية في البلد في أي وقت قريب.
ما يجعل هذه اللحظة محفوفة بالمخاطر، هو أن الكوريين الشماليين غارقون عميقاً في فكرة أنهم تمكنوا من هزيمة الولايات المتحدة مراراً وتكراراً -ويمكنهم أن يفعلوا ذلك مرة أخرى. وقد أعرب كل شخص تحدثنا معه، من المسؤولين إلى الطلاب، عن اليقين بأنه إذا اندلعت الحرب، فإنها ستنتهي بتحويل أميركا إلى رماد، وسوف يخرج نظام كيم منتصراً.
يتوقع جو يونغ-ميونغ، الطالب الجامعي الذي يبلغ من العمر 20 عاماً، والذي يعتقد أن نشوب الحرب أمر مرجح: “سوف يتمرغ كبرياء الولايات المتحدة. أنف الولايات المتحدة الكبير سوف يُقطع”.
ربما لا يكون كيم نفسه مفرطاً في الثقة على نحو متهور. ولكن من الناحية التاريخية، ثمة خطر أن يذهب الدكتاتوريون إلى تصديق دعايتهم هم أنفسهم.
للاطلاع على لمحة عن سرد الدولة، زرت المتحف الجديد الضخم في بيونغ يانغ الذي أنشأه كيم للحرب الكورية. وهو يؤكد بشكل قاطع الموقف الكوري الشمالي القياسي القائم على أن الإمبرياليين الأميركان بدأوا الحرب في العام 1950 عن طريق غزو الشمال، وليس (كما يقول المؤرخون) أن كوريا الشمالية بدأت بإرسال الجنود إلى كوريا الجنوبية. كما يقول السرد أن الفظائع الأميركية في كوريا كانت أسوأ من تلك التي اقترفها نظام هتلر. وقالت لي الملازم أول جانغ أون هاي، 24 عاماً، دليلتنا العسكرية في المتحف، بينما تقودنا بجوار عرض مخصص لاستخدام القوات الأميركية للأسلحة البيولوجية في الحرب (والذي يقول معظم المؤرخين إنه تلفيق): “لقد قتلوا الشعب الكوري لمجرد المتعة”.
وأظهرت إحدى القاعات في متحف الحرب، والتي تُسمى “هزيمة الولايات المتحدة”، ديوراما ضخمة حيث تأكل الغربان جثة جندي أميركي، بينما يملأ صوت مخالبها الغرفة.
وبجانب المتحف، توجد بويبلو، السفينة البحرية الأميركية التي استولت عليها كوريا الشمالية في العام 1968 -والتي تُعرض كانتصار آخر حققه الجيش الشعبي الكوري على الإمبرياليين الأميركيين! وعلى الحدود مع كوريا الجنوبية، يوجد متحف يعرض الفأس التي استخدمت لقتل اثنين من الجنود الأميركيين هناك في العام 1976، وهو ما يتم تقديمه أيضاً على أنه انتصار.
بطريقة ما، ومع كل هذا العداء الرسمي، يميل الكوريون الشماليون إلى أن يكونوا ودودين مع الأميركيين الأفراد. وفي برج العلوم والتكنولوجيا الجديد في بيونغ يانغ، التقيت بصبي يبلغ من العمر 13 عاماً، بايك سين هيوك، الذي يشارك يومياً في مسيرات عسكرية في مدرسته المتوسطة للحشد من أجل الحرب. وكانت تلك المرة الأولى التي يلتقي فيها بأميركيين، وقال إن قلبه يدق. سألت عن المقولة الكورية الشمالية الشائعة: “تماماً كما أن الذئب لا يمكن أن يصبح حملاً، فإن الإمبرياليين الأميركيين لا يستطيعون أبداً تغيير طبيعتهم العدوانية”.
“وماذا عنا؟” سألته. “هل نحن ذئاب؟ أم حملان؟”.
ناضل مع كيفية الإجابة عن ذلك بأدب. وقال: “نصف ونصف”.
مع هذا الانعدام المتبادل للثقة، من السهل أن نرى كيف يمكن أن تذهب الأمور إلى السوء. وأظن أن كوريا الشمالية عقلانية وتهتم بالحفاظ على الذات، ولا أعتقد أنها ستطلق صاروخاً نووياً على قاعدة غوام أو لوس أنجيلوس لمجرد التشويق. لكن اشتباكاً بين طائرة كورية شمالية وطائرة أميركية يمكن أن يسبب أزمة يمكن أن تتصاعد. وقد أوضح مسؤول كوري شمالي أن ترامب يمكن أن يأمر بشن غارة جوية على صاروخ كوري شمالي خلال تشغيله على منصة الإطلاق.
الآن، يقف الجانبان على حد شعرة. ولهذا السبب، تتصاعد الصراعات بسرعة في ألعاب الحرب -وهو السبب في أن الجيش الأميركي قدر في العام 1994 أن حرباً كورية أخرى ستتسبب بمليون إصابة وتريليون دولار من الأضرار. واليوم، مع إمكانية تبادل إطلاق الأسلحة النووية، يمكن أن يكون عدد القتلى أكبر من ذلك بكثير: وقد أشارت دراسة أجريت مؤخراً إلى أنه إذا فجرت كوريا الشمالية أسلحة نووية فوق طوكيو وسول، فإن الوفيات في هاتين المدينتين وحدهما يمكن أن تتجاوز مليوني شخص.
إحساسي هو أن كلا الجانبين يخشيان الظهور بمظهر الضعيف، ويحاول كلٌّ طرف ترهيب الآخر بالتفجيرات العسكرية، وهما يفضلان كلاهما الحل السلمي -ولكنهما لا يعرفان كيفية الوصول إلى هناك سياسياً. وإذن، كيف نخرج من هذه الفوضى؟
أولاً، يجب أن يتوقف ترامب عن إضفاء الطابع الشخصي على الصراع وتصعيده. ثانياً، نحن بحاجة إلى إجراء محادثات بدون شروط، حتى لو كانت مجرد محادثات عن المحادثات: ويمكن أن أقترح زيارة سرية إلى بيونغ يانغ يقوم بها مسؤول كبير في الإدارة، فضلاً عن إجراء مناقشات مع سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة. ثالثاً، يجب أن تكون حقوق الإنسان جزءاً من جدول الأعمال، مدعومة بالتهديد بتعليق أوراق اعتماد كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة. رابعاً، ينبغي أن ندعم المنظمات التي تقوم بتهريب المعلومات على محركات أقراص الفلاش “يو. أس. بي” إلى كوريا الشمالية؛ وسيكون هذا عملاً رخيص الكلفة، ويمكن أن يسهم في التغيير على المدى الطويل. خامساً: يجب زيادة الحرب السيبرانية، التي استخدمتها الولايات المتحدة بالفعل ضد كوريا الشمالية. وسادساً، يجب فرض عقوبات أكثر صرامة، وإنما فقط إذا تم تسخيرها لتحقيق نتيجة معقولة.
في نهاية المطاف، قد يكون أفضل أمل واقعي هو استخدام البديل الذي يسمى “تجميد التجميد”، مع وقف كوريا الشمالية اختباراتها النووية والصاروخية في مقابل تخفيض العقوبات والمناورات العسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية -كخطوة مؤقتة، مع الحفاظ على الهدف طويل الأمد المتمثل في نزع السلاح النووي. ولكن الطرفين، للأسف، يقاومان هذا النهج؛ وقد أصبتُ بخيبة أمل بسبب عدم اهتمام كوريا الشمالية بكل ذلك.
وهكذا، إذا لم نتمكن من العمل على تفعيل تجميد للتجميد، فإن الخيار الأفضل التالي واقعياً هو الركون إلى الردع المتبادل على المدى الطويل. لكن ذلك سيكون محفوفاً بالمخاطر، وليس أقلها أن لدينا رئيس أميركي وزعيم كوري شمالي يبدوان متهورين، مفرطين في الثقة، وميالين بطريقة مزاجية إلى تصعيد أي نزاع -وسوف يصبح البر الرئيسي الأميركي بشكل متزايد في تقاطع مؤشر الإطلاق للرؤوس النووية الكورية الشمالية.
أغادر كوريا الشمالية مصحوباً بالشعور نفسه بالارتباك الذي شعرت به بعد مغادرتي عراق صدام حسين في العام 2002. ولدي القناعة بأن هذه الحرب يمكن منعها، ولكني لست متأكداً من أنها ستمنع.
نيكولاس كريستوف
صحيفة الغد