مهما حاول حلف شمال الأطلسي (الناتو) احتواء حادثة توصيف كل من مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، والرئيس رجب طيب أردوغان، بأنهما “قادة أعداء”، في أثناء تدريبات للحلف في النرويج الأسبوع الماضي، فقد وقع الضرر. وعلى الرغم من أن الحادث كان عملاً فردياً، كما قال الأمين العام للحلف، في رسالة اعتذار إلى أردوغان، إلا أنه كشف بالنسبة للأتراك حقيقة مشاعر أوساط واسعة في الغرب تجاههم، وهي مشاعر ما فتئت تتنامى، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002.
ساهمت محطات عديدة في تدهور علاقة أنقرة بالغرب الأطلسي في الآونة الأخيرة، بدأت برفض البرلمان التركي السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها الأطلسية في تركيا في غزو العراق عام 2003. وزادت العلاقة سوءاً مع محاولة تركيا إنشاء نوع من التوازن في علاقتها بإيران، في ذروة المواجهة مع الغرب بشأن برنامجها النووي، إذ صوتت أنقرة ضد قرار مجلس الأمن رقم 1929 للعام 2010، والذي شدّد العقوبات على طهران، عندما كانت تركيا عضواً غير دائم في مجلس الأمن، في وقتٍ صوتت فيه روسيا إلى جانب القرار.
وعلى الرغم من أن العلاقة بروسيا وإيران ساءت كثيراً بعد الثورة في سورية، ودخول تركيا في صراع دامٍ معهما حول النفوذ والسيطرة فيها، بلغ ذروته بإسقاط تركيا طائرة روسية على الحدود مع سورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تحسن علاقة أنقرة بالغرب. على العكس، أدى الصدام التركي- الروسي فوق سورية إلى مزيد من التدهور في علاقات تركيا بحلف الأطلسي الذي رفض تقديم الدعم الذي توقعته تركيا منه، في مواجهتها مع موسكو. كما أدى رفض تركيا القيام بدور حارسٍ للحدود الأوروبية، وضابط أمن لحركة لجوء الهاربين من جحيم الحرب السورية نحو أوروبا، وكذلك اتهامات غربية لتركيا بتسهيل حركة الجهاديين المهاجرين إلى سورية، إلى مزيد من التعقيد في علاقة الطرفين. لكن الأمور لم تبلغ ذروة السوء إلا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الجيش التركي في يوليو/ تموز 2016، وكشفت زيف الادعاءات الغربية حول دعم الديموقراطية، خصوصاً عندما تستهدف حكومات “غير صديقة”، حيث تردّدت القوى الغربية الكبرى في التنديد بالمحاولة الانقلابية، وانتظرت حتى تبين نتائجها، في حين سبقتها في ذلك، للمفارقة، روسياوإيران.
ومع تعاظم الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري للحزب الديموقراطي الكردي السوري الذي تعده أنقرة فرعاً لحزب العمال الكردستاني، بلغت الأمور نقطة اللا-عودة في علاقة تركيا بالغرب. هنا، قرّرت أنقرة أن سياسات الغرب تجاهها خرجت عن إطارها المعتاد، المتمثل بانتقاداتٍ لفظية بشأن سجلها في مجال حقوق الإنسان، وباتت تمثل خطراً على أمنها القومي. حصل هذا بالتوازي مع فرض الولايات المتحدة حظراً غير معلن على تصدير السلاح الحديث إلى تركيا. لهذه الأسباب، بدأت أنقرة ترى نفسها، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، خارج المنظومة السياسية والأمنية الغربية، ومنجذبة نحو تحسين العلاقة مع خصميها التاريخيين (روسيا وإيران).
واقع الحال أن خيبة أمل تركيا الكبيرة بالغرب، وإمكانية قبولها عضواً كاملاً في نواديه غير الأمنية، ودعمه الطموحات الكردية التي تمثل تهديداً لأمنها القومي، إضافة إلى حاجاتها من الطاقة (60% من الغاز والنفط يأتي من روسيا و20% يأتي من إيران) ومحاولات الحفاظ على معدلات نمو اقتصادية مرتفعة، لتحقيق أهداف مئوية الجمهورية عام 2023، تمثل العوامل الرئيسة التي تدفع تركيا بعيداً عن الغرب، وقريباً من روسيا وإيران. لكن هذا كله لا يكفي لجعل الطريق معبداً أمام خروج تركيا من الحلف الغربي، والانضمام إلى “حلف روسي- إيراني”، مازالت تحول دون قيامه صعوباتٌ جمة، فتركيا تدرك أن علاقة طهران وموسكو بها تقوم على الابتزاز، ومحاولة استغلال أزمتها مع حلفائها التقليديين في الغرب، لكسر دورها ونفوذها الإقليمي، عبر سورية خصوصاً، تؤكد هذا محاولة إظهار تركيا بمظهر العاجز عن فعل شيء تجاه الخروق المستمرة لمناطق خفض التصعيد، خصوصاً على الحدود معها، وللضغط عليها، لدفع المعارضة السورية للقبول بالشروط الروسية – الإيرانية للتسوية. سيتضح للأتراك أكثر، في الفترة المقبلة، أنهم استجاروا من الرمضاء بالنار.
مروان قبلان
صحيفة العربي الجديد