يبدو أن أكثر الفلسطينيين حماساً لمشروع التسوية السلمية على أساس حل الدولتين بات يدرك -بعد نحو ربع قرن على اتفاق أوسلو– أن الأمر صار في مهب الريح. وأن مشروع التسوية -بالشكل الذي تمّ به- لم يكن أكثر من فخٍّ أو مصيدة حوَّلت الخط السائد في منظمة التحرير الفلسطينية من بيئتها الثورية المفترضة إلى منظومة مصالح، تدير كياناً وظيفياً اسمه “السلطة الفلسطينية“، على أمل الوصول “يوماً ما” إلى حُلُم الدولة الفلسطينية.
في الوقت نفسه، كان الاحتلال الإسرائيلي يُثبّت أركانه بالضفة الغربية في ورشة أشغال تصل الليل بالنهار لتهويد الأرض والإنسان، ولبناء حقائق على الأرض تلغي عملياً وتدمر كافة الأسس الضرورية لإنشاء دولة فلسطينية.
لقد آن الأوان للمعنيين بالمشروع الوطني الفلسطيني -وخصوصاً من يتبنون مسار التسوية- أن يقفوا وقفة مراجعة حقيقية للحالة الكارثية التي وصلت إليها الحالة الفلسطينية، وأن يسحبوا الغطاء على الأقل عن عملية “استغفالهم” أو استخدامهم غطاءً لاستمرار الاحتلال وإضاعة ما تبقى من فلسطين.
***
الجري وراء “الجزرة” المسماة “دولة فلسطينية” لم يتوقف منذ عقود طويلة. فمن حق الفلسطينيين أن تكون لهم دولتهم واستقلالهم وسيادتهم على أرضهم، ولكن المشكلة تلَخَصَّت في أن الأطراف التي كانت تَعِدُ الفلسطينيين بذلك أو تُلوِّح لهم به، كانت تشترط عليهم “الهدوء والسكينة” واللجوء إلى “الوسائل السلمية”.
وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه “الدولة” سوى “طُعم” أو “حقنة مورفين”؛ تمارس عبرها هذه القوى عملية خداع لكسب الوقت في تشتيت الانتباه، وتضييع البوصلة الفلسطينية عن عمليات البناء ومراكمة القوة وعن العمل المقاوم، وفي منع الثورات والانتفاضات، وإهدار الحقوق الفلسطينية، وإنشاء الحقائق التي تخدم الصهاينة على الأرض.
تاريخياً، كان الاستقلالُ الذي لوَّح به البريطانيون للشريف حسين بن علي -في أثناء الحرب العالمية الأولى– للمشرق العربي (وضمنه فلسطين)، الأداةَ التي استُخدمت لدفع العرب وقادتهم للتحالف مع البريطانيين ضد الأتراك، ولاحتلال فلسطين وبلاد الشام، والحصول عليها كغنائم باردة.
“آن الأوان للمعنيين بالمشروع الوطني الفلسطيني -وخصوصاً من يتبنون مسار التسوية- أن يقفوا وقفة مراجعة حقيقية للحالة الكارثية التي وصلت إليها الحالة الفلسطينية، وأن يسحبوا الغطاء على الأقل عن عملية “استغفالهم” أو استخدامهم غطاءً لاستمرار الاحتلال وإضاعة ما تبقى من فلسطين”
وصكّ الانتداب الذي أعطى البريطانيين غطاء دولياً لاستعمار فلسطين، كان يعني -من الناحية الرسمية وفق ميثاق عصبة الأمم- أن تتم تهيئة الشعب الفلسطيني ومساعدته في نيل استقلاله، لكن ذلك كان عملياً أداةَ خداعٍ لتهيئة فلسطين لإنشاء دولة يهودية صهيونية.
والدولة الفلسطينية المستقلة التي وعد البريطانيون بها الفلسطينيين خلال عشر سنوات في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى (في كتاب ماكدونالد الأبيض الصادر في مايو/أيار 1939)؛ جرى رمي وثيقتها في سلة النفايات بعد تغيُّر الظروف سنة 1945.
أما الدولة الفلسطينية التي أقرها قرار الأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، والذي تمرّ ذكراه السبعين هذه الأيام؛ فهي قصة مأساة أخرى.
فرغم كارثية القرار، والظلم الفاحش الذي تضمنه بإقرار دولة لليهود على نحو 54% من فلسطين، وعدم الاكتراث بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني حسب ميثاق الأمم المتحدة نفسها؛ فإنه أعطى الفلسطينيين دولة على 45% من مساحة فلسطين التاريخية. ومع ذلك فإن الأحداث أثبتت أنه كان مخططاً لهذه الدولة ألاَّ تقوم!!
ودون الخوض في التفاصيل؛ فإن سياق حرب 1948، والدعم الدولي الذي لقيه المشروع الصهيوني، وطريقة تعامل الدول العربية مع القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في ذلك الوقت؛ أدت -باعتبار النتيجة- إلى تشريد نحو 60% من الشعب الفلسطيني، وتوسع مساحة الدولة المقررة لليهود إلى 77%.
بينما سيطر الأردن على الضفة الغربية وضمها إليه، وسيطرت مصر على قطاع غزة ووضعتها تحت إدارتها؛ ومُنعت القيادة الفلسطينية الرسمية من ممارسة مهامها على الأرض، رغم إعلانها الاستقلال، وعقدها لمجلس وطني يمثل الشعب الفلسطيني مطلع أكتوبر/تشرين الأول 1948، وتشكيلها لحكومة عموم فلسطين.
ثم أكرِه زعيم فلسطين الحاج أمين الحسيني والحكومة الفلسطينية على الخروج من قطاع غزة إلى القاهرة، لتجد القيادة نفسها في شقة بإحدى بنايات القاهرة دونما حَوْلٍ أو طَوْل.
صار الشغل الشاغل للفلسطينيين هو تحرير فلسطين؛ وأنشِئت منظمة التحرير الفلسطينية على هذا الأساس سنة 1964. وبعدما احتل الصهاينة باقي فلسطين في حرب 1967؛ طرحت القيادة الفلسطينية – على لسان القائد في حركة فتح أبو إياد خلال مؤتمر صحفي عُقد في 10 أكتوبر/تشرين الأول 1968- فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة.
وهو ما يعني أن قيادة الحركة الوطنية قبلت ضمناً المستعمرين والمستوطنين اليهود -الذين جاؤوا تحت الاحتلال البريطاني وبعد إنشاء “إسرائيل“- كجزء من “شعب فلسطين”، أو كمكوّن أصيل من مكونات هذه الدولة. وعلى أي حال، فإن حل الدولة الواحدة كان ولا يزال مرفوضاً من الطرف الإسرائيلي، لأنه يُنهي عملياً المشروع الصهيوني وفكرة الدولة اليهودية.
وبعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وفي ضوء بيئة عربية أكثر ميلاً لمسار التسوية السلمية، وأكثر انكفاءً على أوضاعها القُطرية؛ تبنى المجلس الوطني الفلسطيني في يونيو/حزيران 1974 برنامج النقاط العشر، الذي فتح المجال لأول مرة للتحرك السياسي الفلسطيني باعتباره إحدى أدوات “التحرير”، كما فتح الباب لإمكانية تجزئة ومرحلة تحرير فلسطين.
وهو ما هيأ المجال للقيادة الفلسطينية للانتقال إلى مشروع الدولتين، بالتناغم مع مسار النظام الرسمي العربي. وخلال أشهر حصدت القيادة الفلسطينية اعتراف الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وحصلت على عضوية مراقب في الأمم المتحدة.
ومع تزايد الضغوط على منظمة التحرير وفصائل المقاومة على مدى سنوات، وخسارتها لنفوذها وقواعدها المسلحة في بلدان الطوق، ومع محاولات إضعافها وتهميشها؛ وجدت المنظمة في الانتفاضة المباركة -التي اندلعت في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987- رافعة سياسية، حيث عادت قضية فلسطين لتتصدر المشهد، ولتفرض نفسها فرضاً على الأجندات العربية والعالمية.
“لأن الطرف الفلسطيني وافق على وقف المقاومة و”نبذ الإرهاب”، وألاَّ يلجأ إلا إلى الطرق السلمية، واعتمد على المفاوضات الثنائية مع الطرف الإسرائيلي، دون مرجعية أو آلية دولية ملزمة للإسرائيليين؛ فإن الوصول إلى حلم الدولة الفلسطينية أصبح في جوهره مرتهناً بـ”حسن نية” الإسرائيليين، وبقوائم لا تنتهي من الاشتراطات الإسرائيلية للتأكد من “حسن السلوك” الفلسطيني”
وقد أرادت المنظمة أن تكون طرفاً مقبولاً أميركياً وإسرائيلياً للحوار معه للدخول في مسار التسوية السلمية. وبناء على نصائح عربية ومن الاتحاد السوفياتي تمّ وضع برنامج وطني فلسطيني جديد في المجلس الوطني التاسع عشر في 12-15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، حيث اعترفت المنظمة لأول مرة بقرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين، وبقرارمجلس الأمن 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين.
وبغض النظر عن الشكل الاحتفالي الذي تمّت به تغطية التنازل، وذلك بإعلان “استقلال فلسطين”؛ فإن جوهر البرنامج كان مجرد اقتراب فلسطينيٍ من مربع الشروط الأميركية/الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن قبول القيادة الفلسطينية بدولة منقوصة الأرض (نحو 23% من أرض فلسطين)، فتح المجال للدخول في مفاوضات أدت إلى القبول بحكم ذاتي منقوص السيادة على جزء محدود من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ من خلال ما عُرف باتفاق أوسلو (عام 1993).
وفي أفضل أحوال هذا الاتفاق وما نشأ عنه من ترتيبات؛ تولت السلطة الفلسطينية في سنة 2000 المسؤولية الأمنية والإدارية عن 18% من مساحة الضفة والقطاع (4.2% من مساحة فلسطين التاريخية)، وتولت المسؤولية الإدارية فقط على 22% من مساحة الضفة والقطاع (5.1 % من مساحة فلسطين التاريخية).
جاء اتفاق أوسلو في ظل بيئة عربية بائسة متشرذمة ناتجة عن حرب الخليج الثانية، حيث قاد الأميركان تحالفاً عربياً دولياً لمواجهة الاجتياح العراقي للكويت (1990 – 1991). وفي ظلّ تراجع عربي عن دعم منظمة التحرير، وفي بيئة دولية شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في شرقي أوروبا، وانتهاء مرحلة ثنائية القطبية وبدء مرحلة أحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة.
رمى اتفاق أوسلو “السنارة” للقيادة الفلسطينية لتلتقط من جديد “طُعم” الدولة الفلسطينية. ودون الخوض في تفاصيل الاتفاق؛ فإن قضايا الحل النهائي -التي قد يؤدي حسمها إلى إنشاء دولة فلسطينية- جرى تأجيل البت فيها إلى مفاوضات لاحقة، كان من المتوقع أن تنتهي خلال خمس سنوات.
ولأن الطرف الفلسطيني وافق على وقف المقاومة و”نبذ الإرهاب”، وألاَّ يلجأ إلا إلى الطرق السلمية، واعتمد على المفاوضات الثنائية مع الطرف الإسرائيلي، دون مرجعية أو آلية دولية ملزمة للإسرائيليين؛ فإن الوصول إلى حلم الدولة الفلسطينية أصبح في جوهره مرتهناً بـ”حسن نية” الإسرائيليين، وبقوائم لا تنتهي من الاشتراطات الإسرائيلية للتأكد من “حسن السلوك” الفلسطيني.
وبالطبع فإن “العدو الإسرائيلي” ليس “جمعية خيرية”؛ ولذلك فإنه -في الوقت الذي أبقى فيه على “جزرة” الدولة الفلسطينية ليستمر اللهاث الفلسطيني تجاهها- فرض المعادلة التي يريدها، عبر “إدارة” التسوية دونما أي سقف زمني، وبآلية لا منتهية من المفاوضات؛ ودون أن تكون للطرف الفلسطيني أي أداة فاعلة للضغط عليه.
وبالتالي لم تعد هنالك مواعيد واستحقاقات “مقدسة”. وهكذا، مضت 24 عاماً (وليس خمسة أعوام) دونما حلٍّ جادّ يلوح في الأفق. وبينما كان الطرف الإسرائيلي يستمتع باحتلال من مستوى “خمس نجوم”، كان على الطرف الفلسطيني (قيادة المنظمة التي هي قيادة السلطة وقيادة فتح) أن يفي بالتزاماته وصولاً إلى “حلم الدولة”:
– فيتولى كافة المهام المرهقة و”القذرة” المتعلقة بإدارة السكان الفلسطينيين (بلدية، شرطة، ضرائب، خدمات… إلخ).
– ويتولى قمع كافة قوى المقاومة التي يرى أنها تعطِّل فرصة إنشاء الدولة الفلسطينية، وينسّق أمنياً مع الاحتلال.
– ويوفر الغطاءَ الذي يحتاجه الاحتلال بادّعاء أن ثمة عملية تسوية سلمية قائمة، وأن القضية الفلسطينية في طريقها للحل.
“حلّ الدولتين لم يعد قائماً، وفق مسار التسوية الحالي الذي لا يعدو كونه غطاءً لتهويد ما تبقى لفلسطين، وإنهاءً لحلم “الدولة الفلسطينية” وفق تطلعات من أيدوا هذا المسار، وفي ضوء الحقائق التي أنشأها الإسرائيليون على الأرض، وبناء على زيادة التطرف في منظومة المجتمع والقيادة السياسية الإسرائيلية، وعلى أن واشنطن معنية أساساً بتطويع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية”
وكان الاحتلال الإسرائيلي يقوم في المقابل بالقضاء عملياً على حلم الدولة الفلسطينية وعلى حلّ الدولتين من خلال:
– متابعة البرامج المكثفة للتهويد والاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية، ليزيد عدد المستوطنين اليهود من نحو 280 ألفاً سنة 1993 إلى نحو 800 ألف في سنة 2017.
– إنشاء جدار عنصري عازل يصادر نحو 11% من أرض الضفة الغربية، ويعزل القدس، ويسيطر على أهم مصادر المياه.
– تقطيع أوصال الضفة الغربية بالمستوطنات والطرق الالتفافية، مع بقاء السيطرة الإدارية والأمنية الكاملة على 60% من الضفة؛ وتحويل ما تبقى من الضفة إلى “كانتونات” ومعازل للفلسطينيين؛ في الوقت الذي واصل فيه حصارَ قطاع غزة.
– إبقاء فجوة تفاوضية كبيرة دائمة، بحيث يكون أقصى ما يقدمه الإسرائيلي لا يصل إلى الحد الأدنى الفلسطيني المقبول لدى قيادة المنظمة. حيث ما زالت الشروط الإسرائيلية تتحدث عن الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة الإسرائيلية، وعن رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعن رفض الانسحاب من شرقي القدس، وعن كيان فلسطيني منقوص السيادة ولا يملك جيشاً… وغيرها.
***
وما يعنينا هنا، أن حلّ الدولتين لم يعد قائماً، وفق مسار التسوية الحالي الذي لا يعدو كونه غطاءً لتهويد ما تبقى لفلسطين، وإنهاءً لحلم “الدولة الفلسطينية” وفق تطلعات من أيدوا هذا المسار، وفي ضوء الحقائق التي أنشأها الإسرائيليون على الأرض، وبناء على زيادة التطرف في منظومة المجتمع والقيادة السياسية الإسرائيلية، وعلى أن واشنطن معنية أساساً بتطويع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية.
على الطرف الفلسطيني ومن يؤيده في البيئة العربية والدولية أن يكفوا عن “خداع الذات”، وأن يتوقفوا عن أسلوب جري الضحية وراء “الجلاد” لإرضائه أو لتقديم “الحلول” له، وكأن الضحية هي سبب المشكلة وليس الاحتلال. ولذلك؛ على قيادة منظمة التحرير والسلطة أن:
– تصارح شعبها بالحقيقة، وتقوم بعملية مراجعة شاملة لكل مسار التسوية.
– ترفع الغطاء عن مسار التسوية السلمية وتكشف قبح الاحتلال.
– العودة إلى ترتيب البيت الفلسطيني وخصوصاً منظمة التحرير وفتحه للجميع، لاستجماع عناصر القوة في المشروع الوطني في الداخل والخارج، واستئناف مشروع المقاومة والتحرير.
– التوقف عن ملاحقة قوى المقاومة المسلحة الفلسطينية، بل والتحالف معها، والتعامل معها كرصيد وطني يخدم في مراكمة القوة وعناصر الضغط على الاحتلال، واعتبار منجزات المقاومة في غزة رافعة للعمل الوطني، ورفض أي مساس بها.
– السعي إلى إنهاء دور السلطة الفلسطينية كـ”سلطة وظيفية” تخدم أغراض الاحتلال؛ فإما أن تكون السلطة في خدمة البرنامج الوطني، وإما أن يتحمل الاحتلال مسؤولياته في مواجهة مقاومة جهادية ثورية فلسطينية.
وأخيراً؛ لست متفائلاً بأن قيادة المنظمة والسلطة الحالية ستقوم بإجراءات كهذه، نظراً لطبيعة عقليتها وحساباتها، ولكنها -عاجلاً أم آجلاً، أحبت أم كرهت- ستواجه هذا الاستحقاق، أو سيفرضه عليها الشعب الفلسطيني.
محسن صالح
الجزيرة