تُعتبر “عاصفة الحزم” خطوة أولية نحو وضع حدٍّ للتوسع الإيراني في المشرق العربي، وليس حماية الشرعية اليمنية وحسب. وليس ثمة شك، في أن تأييد باكستان وتركيا، مهما كان حجم مشاركتهما، للقرار السعودي والعملية في اليمن يوفر توازنًا غير مسبوق مع إيران، بعد أن خرجت الولايات المتحدة بصورة ملموسة من توازنات قوى المشرق العربي-الإسلامي.
إن نجاحًا ولو نسبيًّا للحرب سيضاعف من دور وتأثير السعودية العربي والإقليمي، التي تتمتع أصلًا بثقل كبير بفعل انهيار مؤسسة الدولة وتراجع تأثير عدد متزايد من الأقطار العربية.
في وقت متأخر من مساء الأربعاء، 25 مارس/آذار، بدأت أسراب من طائرات سلاح الجو السعودي قصف أهداف عسكرية محددة في أنحاء اليمن. أُعلن عن العملية، التي أُطلق عليها اسم “عاصفة الحزم”، بعد انطلاقها بساعات قليلة، في بيان رسمي من الرياض وعبر مؤتمر صحفي عقده السفير السعودي في واشنطن لإيضاح الأساس القانوني للعملية وأهدافها. أبدى الشارع العربي ترحيبًا واسعًا بالعملية، حتى قبل أن تبدأ الدول العربية المختلفة في الإعراب عن الترحيب، والتأييد، وتوكيد الرغبة في الالتحاق بالجهد العسكري، أو عن المعارضة والتحفظ. وربما لم تقابِل خطوة سعودية منذ سنوات طويلة مثل هذا الترحيب والحماس الشعبي العربي؛ هذا، إضافة إلى التأييد الرسمي، الذي انعكس في قرارات قمة شرم الشيخ العربية في 28-29 مارس/آذار.
خلف هذا الترحيب والحماس ثمة شعور عربي متزايد بالضيق والإهانة، رسَّبته سياسات التوسع الإيراني اللامبالي، التي انتهزت فرصة القلق والاضطراب وفراغ القوة في الجوار العربي، المصاحب لانطلاق وتعثر حركة الثورة والتغيير. ما ضاعف من هذا الشعور أن إيران اختارت الوقوف إلى جانب حركة الثورة المضادة ومحاولة إجهاض أحلام التغيير والانتقال الديمقراطي. وبدا في كل الحالات تقريبًا أن خطوات إيران في الجوار العربي تنذر باندلاع صراعات طائفية، وحروب وانقسام داخليين.
بعد ما يقارب الأسبوع على انطلاق “عاصفة الحزم”، وهدوء عاصفة الحماس والتأييد، أصبح من الأسهل –ربما- محاولة النظر إلى الأسباب التي أطلقت هذه العملية، وإلى حقيقة التحالف العشري الذي أعلن عن مشاركته في مجرياتها، وإلى آفاق العملية وأثرها على خارطة القوة الإقليمية.
لماذا أخذت السعودية قرار الحرب؟
لا يشكِّل الحوثيون، بحدِّ ذاتهم، خطرًا على المملكة العربية السعودية؛ فهم في النهاية قوة ذات قاعدة شعبية محدودة، حتى بين اليمنيين الزيود. الاشتباكات التي جرت بينهم والقوات السعودية في 2009 نجمت عن تعديهم على مواقع حدودية سعودية، بعد أن ظنُّوا أن السعودية تدعم حرب النظام اليمني آنذاك ضدهم. خلال السنوات التالية، تعاملت الرياض مع الظاهرة الحوثية باعتبارها إحدى مظاهر التشظي السياسي اليمني. ولكن المشكلة التي أخذت السعودية في مواجهتها، منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء في سبتمبر/أيلول الماضي، أن الحوثيين بدوا في حالة تحالف مع إيران أوسع وأعمق بكثير مما كان يُظَنُّ؛ واتضح بما لم يترك مجالًا للشك أن عبد الله صالح، الرئيس اليمني السابق، الذي يمارس نفوذًا قويًّا على أكثر من نصف القوات المسلحة اليمنية، أصبح طرفًا في التحالف الحوثي-الإيراني؛ وأن الحوثيين لا يكترثون بالحوار اليمني الداخلي وأنهم يعملون على فرض سيطرة أحادية شاملة على الشأن اليمني.
يعتبر السعوديون اليمن دائمًا، ومنذ ولادة المملكة العربية السعودية، أهم بقعة استراتيجية في الجزيرة العربية خارج حدود المملكة، لأنها يمكن أن تتحول إلى مصدر تهديد حقيقي للمملكة. لم تخض السعودية حربًا مبكرة مع اليمن في 1934 وحسب، بل وساندت القوى المناهضة للوجود الناصري في اليمن طوال سنوات الحرب اليمنية الأهلية في ستِّينات القرن الماضي. ولم تتوقف السعودية عن الاهتمام بالشأن اليمني طوال نصف القرن الماضي، بما في ذلك تقديم مليارات من المساعدات المالية للدولة اليمنية. ولم تكن السعودية لتقبل أن يتحول اليمن إلى قاعدة لنفوذ خصمها الإيراني، بفضل قوة أقلية سياسية، سيما بعد أن أصبحت إيران القوة النافذة في العراق وسوريا ولبنان. ولا يقل أهمية أن الرياض تتخوف من أن يحوِّل فشل الدولة والإضطراب الاجتماعي والسياسي اليمن إلى حاضنة آمنة للقاعدة والجماعات المسلحة الراديكالية المشابهة.
بيد أن ما حسم قرار التدخل العسكري السعودي المباشر في النهاية كان:
أن الحوثيين تحركوا سريعًا، بمساندة رئيسية من وحدات الجيش والحرس الجمهوري والقوات الخاصة الموالية لعبد الله صالح، بعد الاستيلاء على العاصمة للسيطرة على المحافظات اليمنية الأخرى، بما ذلك محافظات الأغلبية الشافعية في الوسط والجنوب والساحل؛ وأنها تقدمت بصور حثيثة للسيطرة على عدن، بعد أن نجح الرئيس عبد ربه هادي في الهروب إلى عاصمة الجنوب وإعلانها عاصمة مؤقتة للبلاد.
أن الحوثيين بدأوا فعلًا، وباسم الدولة اليمنية، فتح أبواب البلاد للنفوذ الإيراني.
أن الولايات المتحدة، الحليف التقليدي للسعودية، أخبرت الرياض بصورة واضحة أن ليس لديها من خطة للتدخل في الشأن اليمني أو محاولة إعادة التوازن في الساحة السياسية اليمنية.
نشأت فكرة مجلس التعاون الخليجي في وسط السبعينات من القرن الماضي، أصلًا، لتملأ الفراغ الذي تركه الانسحاب البريطاني من المنطقة، وبات ملحًّا مع بداية الثمانينات الإسراع بتجسيدها لتوفير إطار عربي يحفظ التوازن مع إيران بضمان من القوى الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وقد ازداد الوجود والالتزام الأميركيان في منطقة الخليج منذ حرب الخليج الأولى في 1990-1991 بصورة ملحوظة. وسواء في منطقة الخليج، أو في مناطق توتر أخرى من المشرق، وُلِد شعور بأن السعودية أدمنت الاعتماد على قوة الحليف الأميركي وضماناته. وكان واضحًا، كما أشرنا في تقدير سابق للموقف، أن التحدي الأبرز الذي تفرضه الأزمة اليمنية على صانع القرار السعودي يتعلق بما إن كانت الرياض على استعداد للدفاع عن مصالحها، بدون انتظار التدخل الأميركي، وأن تتحمل تبعات الاعتماد الكلي على حليف بات يختلف معها في تقدير الخطر الإيراني. والواضح أن الأزمة اليمنية وصلت، من وجهة نظر الرياض، حدًّا من التهديد ألزم السعودية التحرك مهما كان الموقف الأميركي.
حلفاء بمستويات مختلفة
بيد أن واشنطن أكَّدت في تصريحات مختلفة من كبار مسؤولي الإدارة، وخلال اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والملك سلمان بن عبد العزيز في اليوم الأول للعملية، على تأييد الخطوات السعودية في اليمن وعلى استعدادها لتقديم مساعدات لوجستية واستخباراتية للجهد الحربي السعودي. والأرجح أن الرياض أبلغت واشنطن قبل أيام على الأقل من بدء الضربات الجوية بعزمها على التحرك العسكري في اليمن، سيما أن الولايات المتحدة لديها من الإمكانيات ما يساعد على إعداد بنك الأهداف الضرورية للطائرات المهاجمة، كما أن زمن العملية في اليمن، التي لا يُتوقع لها أن تكون قصيرة، يتطلب إمدادات عسكرية أميركية، بما في ذلك قطع غيار الطائرات والمعدات العسكرية الأخرى، والذخائر. ولكن من غير المتوقع أن يعلن أي من الطرفين عن حجم ونوعية المساعدات الأميركية في أي وقت من العملية؛ ففي ظل المباحثات الجارية في لوزان حول الملف النووي الإيراني، تحاول واشنطن ألا تتخذ خطوات تمثل استفزازًا مباشرًا لإيران وتفسح المجال لمزيد من ضغوط المحافظين الإيرانيين على الرئيس حسن روحاني وفريقه المفاوض.
أعلنت الرياض، رسميًّا، وبعد ساعات قليلة من انطلاق “عاصفة الحزم”، أن العملية العسكرية في اليمن لا تتعهدها السعودية وحسب، بل تحالف من عشر دول، اتضح بعد ذلك أنها تضم، إضافة إلى السعودية، كلًّا من قطر، والبحرين، والكويت، والإمارات، ومصر، والأردن، والسودان، والمغرب، وباكستان. والحقيقة، أن قرار التدخل في اليمن كان قرارًا سعوديًّا في البداية، وأن دول مجلس التعاون الخليجي أُبلغت بالقرار قبل أيام من انطلاق العملية؛ حيث أعرب أربع من دول المجلس عن مساندتها للقرار السعودي، وامتنعت عُمان. وهذا ما جعل البيان الخليجي بشأن العملية يصدر باسم الدول التي أبدت استعدادًا للمشاركة في العملية وليس باسم مجلس التعاون. لم تكن مصر ولا الأردن طرفًا في قرار العملية، ربما لأن السعودية لم تكن مطمئنة تمامًا لخطوات التقارب الأردني مع إيران خلال الأسابيع القليلة السابقة على انطلاق “عاصفة الحزم”، ولا لاتصالات القاهرة مع الحوثيين، في اليمن وخارجه. ولكن، ما أن أُبلغت دول عربية مختلفة، وعدد من الدول الإسلامية، بقرار العملية، بعد بدء القصف الجوي، حتى عبَّرت مصر والأردن والسودان والمغرب وباكستان عن استعدادها للانضمام للتحالف، وأيَّدت تركيا العملية، على أن يبحث مسؤولون أتراك وسعوديون ما يمكن لأنقرة أن تقدمه من عون.
من المؤكد أن الهجمات الجوية الأولى قامت بها طائرات سعودية، وأن دول الخليج المشاركة في التحالف لم تكن قد أنهت استعداداتها للمشاركة بعدُ عندما انطلقت العملية. من جهة أخرى، فإن المشاركة الباكستانية لم تكن قد تحددت حتى بعد مضي أسبوع على بدء الهجمات الجوية. وبينما احتاجت مصر أيامًا لإرسال عدد من الزوارق البحرية إلى السواحل اليمنية، بدون أن تتوفر أدلة على مشاركتها في الهجمات الجوية، وليس من الواضح ما إن كانت هناك مشاركة أردنية ومغربية فعلية. أما الدور السوداني فيتعلق بمشاركة عدد قليل من الطائرات في الطلعات الجوية.
الملاحظ في الأيام القليلة السابقة على بدء “عاصفة الحزم” أن أحمد علي عبد الله صالح، ابن الرئيس المخلوع وأحد العناصر النافذة في إدارة سيطرة صالح ونفوذه في الجيش اليمني، والذي كان يعمل سفيرًا لليمن في الإمارات، طلب زيارة السعودية قبل يومين فقط من انطلاق العملية. وبالرغم من أن ميزان القوى في الساحة اليمنية كان قد مال بصورة كبيرة لصالح الحوثيين والقوات الموالية للرئيس المخلوع، إلا أن أحمد علي عبد الله صالح أبدى في اللقاء مع وزير الدفاع السعودي، محمد بن سلمان، استعداده ووالده للانقلاب على الحوثيين وحشد عشرات الآلاف من القوات الموالية لهما لخوض الحرب ضدهم، مقابل مطالب خاصة بوالده تتمثل في رفع العقوبات الأممية وإنهاء تجميد الأموال ومنع السفر، وتوكيد الحصانة له ولوالده. السؤال الذي أثارته هذه الزيارة هو ما إن كان طرف خليجي قد سرَّب لأحمد عبد الله صالح قرار الحرب السعودي، ودفعه لمحاولة التوصل إلى صفقة قبل أن تُقرع طبول الحرب.
(الجزيرة)
الواضح، على أية حال، أن الإدارة السعودية، التي كانت قد فقدت الثقة كليَّة بعبد الله صالح، وأدركت حجم الخطأ الذي ارتُكب في المبادرة الخليجية ونصها على توفير حصانة له، وقبولها بعد ذلك باستقراره في اليمن ولعب دور الثقل المرجِّح في التوازنات السياسية اليمنية، رفضت العرض الذي تقدم به أحمد علي عبد الله صالح. وإن كان في هذا الرفض من دلالة، فالواضح أن الرياض تتصور أن “عاصفة الحزم” لابد أن تمهد لحل أكثر جذرية للأزمة اليمنية، حل يستبعد صالح ومعسكره كلية، ويؤسس لاستقرار يمني أكثر ديمومة.
آفاق الحرب
توحي النشاطات العسكرية التي شهدها الأسبوع الأول من “عاصفة الحزم” بأن الضربات الجوية لم تزل هي العماد الرئيس للعملية، وأن السعودية تتحرك، وحلفاؤها، لتحقيق الأهداف التالية:
الاستخدام الكثيف لسلاح الجو لتدمير مواقع الدفاع الجوي اليمنية، ومراكز القيادة، ومعسكرات التجمع، وخطوط الإمداد والتموين، ومخازن السلاح الخاصة بالقوات الموالية لصالح والحوثيين، وتقديم العون اللازم للقوات الموالية للرئيس هادي وقوات القبائل المناهضة للحوثيين، سيما في مناطق الاشتباك حول مدينة عدن وفي مأرب والبيضاء وشبوة وذمار ولحج والضالع. وقد حققت الضربات الجوية المبكرة ما يمكن وصفه بالسيطرة الكاملة على الأجواء اليمنية.
استخدام سلاح الجو والقوات البحرية لفرض حصار كامل على الموانيء اليمنية، ومنع وصول أية أمدادات عسكرية محتملة من إيران أو مصادر أخرى، للحوثيين والقوات الموالية لصالح.
حشد قوة برية كافية للدفاع عن الحدود السعودية ضد أية محاولات لاختراقها.
تستطيع الضربات الجوية، بالطبع، إن استمرت لفترة طويلة نسبيًّا وبمعدلات عالية، إيقاع أذى كبير بالحوثيين وقوات عبد الله صالح، ولكنها لن تستطيع وحدها فرض الاستسلام على الحوثيين، الذين هم أقرب إلى الميليشيات التي يمكن لتضاريس اليمن الصعبة أن توفر لها حماية نسبية لوقت طويل. قد تتسبب الضربات الجوية، ربما، في شلل فادح للقوات النظامية الموالية لصالح، وأن تقنع قادة هذه القوات بالانسحاب من ساحة الحرب، أو التخلي عن عبد الله صالح. أفضل الاحتمالات في حال اقتصار الحرب على الضربات الجوية، أن تدفع الخسائر الحوثيين إلى طلب الحوار من جديد، وأن تصبح مشاركتهم فيه على أساس ما حصلوا عليه من مخرجاته قبل سيطرتهم على صنعاء. ولكن، في حال رفض الحوثيين الانصياع للشرعية والذهاب إلى الحوار فلابد عندها من تطوير العملية إلى حرب برية.
السؤال الآن هو: من سيقوم بهذه الحرب، إن أصبحت ضرورية بالفعل؟
يمكن إن دُفعت قوات التحالف لخوض حرب برية (التي يُتوقَّع أن تكون القوات السعودية عمادها الرئيس)، أن يصبح اليمن ساحة لما يُعرف بالحرب غير المتناظرة (asymmetric war)، تواجه فيها قوات نظامية مجموعات من العصابات المسلحة ذات المعرفة الوثيقة بالبلاد والظروف، وتمُنَى القوات النظامية -على الأرجح- بخسائر فادحة. الخيار الأقل مخاطرة أن تقوم السعودية ودول الخليج بدعم الرئيس الشرعي بهدف تنظيم قوة يمنية متماسكة لقتال الحوثيين والقوات الموالية لصالح، وتحرير العاصمة ومدن البلاد الرئيسية من سيطرتها.
مثل هذه القوة يمكن أن تتشكَّل من:
المتطوعين القبليين.
الفصائل المسلحة للتجمع اليمني للإصلاح وحلفائه.
قوات الجيش الموالية للرئيس الشرعي.
القوات التي تنشق عن القيادات العسكرية الموالية لصالح.
المشكلة حتى الآن أن الرئيس هادي غادر البلاد للمشاركة في القمة العربية وعاد منها إلى الرياض وليس إلى عدن، وأنه حتى قبل مغادرته لم يكن قد عيَّن وزيرًا جديدًا للدفاع، بعد أن نجح الحوثيون في اختطاف وزيره السابق؛ وليس ثمة مؤشرات على أن الرئيس قام أو أنه يخطط للقيام بتشكيل لجنة عسكرية لتنظيم القوى المختلفة الموالية للشرعية والمناهضة للحوثيين وصالح. بمعنى، أن العمل على تنظيم جيش الشرعية، إن صحَّ التعبير، لم يبدأ بعد، وقد يمضي بعض الوقت قبل أن يبدأ بالفعل. باختصار، هذه حرب قد تطول بصورة أكثر مما تصور كثيرون.
دلالات الحرب وأثرها الإقليمي
اتخذت السعودية قرار الحرب بدون أن تسعى لغطاء دولي أو عربي، أو حتى من مجلس التعاون الخليجي. ما سوَّغ هذه الحرب وأسَّس لشرعيتها هو الطلب الذي تقدم به الرئيس هادي لتدخل سعوي وخليجي لإنقاذ اليمن من الانقلاب الحوثي. هذه خطوة سعودية حاسمة وغير مسبوقة، تُذكِّر بالتقاليد التي أرساها عبد العزيز آل سعود، قبل أن يتحول التحالف إلى الولايات المتحدة وانتظار التدخل الأميركي بديلًا عن سياسة الاعتماد على الذات وتحمل أعباء حماية المصالح الحيوية. بكلمة أخرى، قد تكون عملية “عاصفة الحزم”، بغضِّ النظر عن التأييد الأميركي والأوروبي، بداية تحرر سعودي مما يسمى أحيانًا بالإدمان الأميركي، وتبلور دور سعودي إقليمي نشط ومستقل، يرتكز إلى المقدرات السعودية والتحالفات الإقليمية الممكنة.
في جوهرها، تُعتبر “عاصفة الحزم” خطوة أولية نحو وضع حدٍّ للتوسع الإيراني في المشرق العربي، وليس حماية الشرعية اليمنية وحسب. وليس ثمة شك، في أن تأييد باكستان وتركيا، مهما كان حجم مشاركتهما، للقرار السعودي والعملية في اليمن يوفر توازنًا غير مسبوق مع إيران، بعد أن خرجت الولايات المتحدة بصورة ملموسة من توازنات قوى المشرق العربي-الإسلامي. فوجيء الإيرانيون، كما فوجيء كثيرون غيرهم، بقرار الحرب السعودي، وسواء لحسابات الجغرافيا أو لعجزها عن فتح جبهة مواجهات جديدة تضاف لتواجدها العسكري في العراق وسوريا، أو لحرصها على أن لا تدخل في حرب في مواجهة تحالف من القوى السنِّية يجعلها تبدو معزولة داخل العالم الإسلامي، فإن طهران تدرك أن السكوت عن الهزيمة في اليمن يعني أن تتصاعد المقاومة لوجودها في العراق وسوريا ولبنان. ولذا، فمن المرجح أن تحاول طهران في المرحلة المقبلة تعزيز سيطرتها على مقدرات العراق وقراره، وأن تعيد ترتيب أوراقها في سوريا ولبنان، بغضِّ النظر عن نتائج مباحثات لوزان حول الملف النووي.
على أن ما يجب تذكره دائمًا أن هذه حرب، وأن الحرب مهما كانت دقيقة وموجهة يصحبها دائمًا دمار واسع النطاق، وعواقب اقتصادية باهظة. وليس ثمة شك في أن الحرب ستنتهي بدمار هائل لمقدرات اليمن العسكرية، على الأقل. إن نجحت “عاصفة الحزم” في تحقيق أهدافها خلال فترة زمنية معقولة، وأمكن إعادة بناء النظام السياسي على أساس من إجماع يمني جديد، فستحتاج دول الخليج لتعزيز الوضع السياسي الناشئ إلى جهد تنموي كبير لليمن، وأن تدرس احتمال إعطاء البلاد وضعًا خاصًّا داخل مجلس التعاون الخليجي. بهذا فقط يمكن أن يوضع اليمن على سكة استقرار دائم، وأن توفر له حصانة كافية من التدخلات الأجنبية والتشظي الطائفي والجهوي.
في النهاية، سيكون لهذه الحرب أثرها الكبير على موقع قطبيها الرئيسين: إيران والسعودية. لأسباب عديدة، لا تقتصر على اليمن بالتأكيد، كشفت الحرب عن تنامي الاستقطاب المذهبي نتيجة اعتماد إيران في توسيع نفوذها على ميليشيات شيعية بالمنطقة العربية، فتولَّدت حالة من العداء لدى الغالبية العربية التي شعرت بالخطر على هويتها المذهبية السنية وبالقلق العميق من سياسات التوسع الإيرانية. من ناحية أخرى، فإن نجاحًا ولو نسبيًّا للحرب سيضاعف من دور وتأثير السعودية العربي والإقليمي، التي تتمتع أصلًا بثقل كبير بفعل انهيار مؤسسة الدولة وتراجع تأثير عدد متزايد من الأقطار العربية.