أوباما في وجه عاصفة الحزم

أوباما في وجه عاصفة الحزم

مع نشوب كل أزمة في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها، تندلع المناقشات الصاخبة والغاضبة في الولايات المتحدة حول السياسة الخارجية للإدارة الحالية، ومدى فاعليتها ودورها في تفاقم تلك الأزمة وقدرتها على احتوائها أو حلها .
وبإطلاق عاصفة الحزم، أو العمليات العسكرية العربية ضد الحوثيين في اليمن اجتاح واشنطن إعصار من الانتقادات العارمة ضد الرئيس أوباما، وتجدد حديث خصومه وغيرهم حول عجزه عن التعامل مع قضايا العالم .
يعتقد منتقدوه أن مبدأ عدم التدخل العسكري في الشؤون الدولية الذي قيد نفسه به منذ بداية توليه السلطة، هو السبب الحقيقي في عجز الولايات المتحدة عن كبح طموحات وأطماع ومغامرات خصومها وأعدائها وحماية أصدقائها في الوقت ذاته .
ومن الواضح بالفعل أنه بسبب خوف أوباما أو كراهيته لتجربة سلفه جورج بوش الابن في خوض حروب خارجية مدمرة، يعطي انطباعاً مشجعاً للكثير من الجماعات المتطرفة أو النظم العدوانية والمعادية بأنها ستكون في مأمن من العقاب الأمريكي . وأياً كانت دوافعه وموضوعية الأسباب التي يستند إليها فإنه لا يستطيع في النهاية أن يتنصل من المسؤولية، ولو بصورة جزئية، عن حالة التدهور الأمني الحالي والكوارث الإنسانية المترتبة على الحروب في أكثر من منطقة في العالم .
المشكلة مع أوباما أن الخوف من التدخل في الصراعات الخارجية واكبته دائماً حالة من سوء التقدير للعواقب، وعدم قدرة على استشراف آفاق المستقبل والتعقيدات التي سيسفر عنها هذا الصراع أو ذاك . وفي حالة اليمن على سبيل المثال، اعتبرت إدارة أوباما منذ البداية أن مقياس النجاح لسياستها الخارجية إزاء هذه الدولة هو “هل الحكومة القائمة فيها مستقرة أم لا”؟ غير أن الأصوب هنا كان قياس النجاح على أساس سؤال آخر هو “هل تحول اليمن إلى ملاذ آمن للإرهابيين أم لا؟” لأنه قد يكون مستقراً وفي الوقت نفسه يوفر ملاذاً آمناً لشن هجمات على المصالح الأمريكية ومصالح الدول المجاورة أيضاً .
هذا نموذج واحد يوضح إلى أي حد تعاني الإدارة الحالية قصور الرؤية . ولا يعني هذا أن تلك هي المشكلة الوحيدة التي تعانيها السياسة الخارجية الأمريكية، لأن العلل كثيرة، على حد قول المحرر السياسي لموقع “ميدل ايست بريفينغ” المتخصص في قضايا الشرق الأوسط . واحدة من تلك العلل كما يرصدها هي التردد، إضافة إلى عدم وضوح الهدف الذي هو تعبير آخر عن قصور الرؤية السياسية .
التردد هذا، وهو آفة السياسة الخارجية لأوباما، يظهر بجلاء في معالجتها لأزمات المنطقة . والأمثلة على ذلك كثيرة، منها العراق حيث ظلت واشنطن تتمسك برئيس الوزراء نوري المالكي رغم كل الانتقادات الموجهة إليه، والاتهامات الموثقة بانتهاجه سياسة طائفية تغذي الفرقة والاقتتال الأهلي، ومع ذلك ظلت تتمسك به إلى ما قبل رحيله بخمسة أشهر فقط عندما اكتشفت أخيراً أنه يحرق العراق بسياسته البغيضة وطالبته بترك السلطة .
سوريا أيضاً تقدم نموذجاً آخر للتردد وغياب الرؤية . في هذه الحالة رفضت واشنطن في البداية مساعدة ضباط الجيش الذين انشقوا عن النظام وشكلوا نواة المعارضة المعتدلة بعد اندلاع الثورة في 2011 . وعندما طرحت فكرة تسليح المعارضة التي تشكلت على نطاق أوسع علق أوباما ساخراً بقوله إنها مجموعة من الأطباء والصيادلة والمزارعين السابقين، واعتبر أن تسليحهم فكرة خيالية . الأكثر من ذلك أنه أعلن جهاراً أن ليس لإدارته استراتيجية تجاه سوريا وهو التصريح الذي فجر ضده عاصفة من الانتقادات والسخرية .
الأسوأ من عدم وضوح الرؤية أن القرار الأمريكي يأتي دائماً متأخراً وبالتالي يكون بلا قيمة أو محدود الفاعلية . وفي الحالة السورية على سبيل المثال عندما تنبهت واشنطن إلى أنه يجب تسليح هؤلاء المزارعين والأطباء السابقين كانت الفرصة لتحقيق مكاسب على أيديهم قد ضاعت تقريباً، بعد أن استرد النظام عافيته وقويت شوكته، وبعد الانتشار السرطاني للتنظيمات المتطرفة .
هذا القصور المرعب في الرؤية الأمريكية يعكس بالتأكيد قصوراً موازياً بالقدر نفسه في الاستراتيجية الي تتبناها . وبصورة أكثر وضوحاً يمكننا القول إنه لا توجد بالفعل استراتيجية شاملة تنظر إلى أزمات المنطقة ومشكلاتها في سياق جامع باعتبارها وليدة عوامل جغرافية وتاريخية وذات أبعاد اقتصادية ودينية وثقافية وسياسية متداخلة وعابرة للحدود .
لا يبدو هذا الإدراك واضحاً في العقل الأمريكي حتى الآن . وعلى حد وصف صحفي أمريكي فإن إدارة أوباما تتعامل مع مشكلات المنطقة “بالتجزئة” أو “المفرق”، أي تنظر إلى تلك الأزمات باعتبارها مسائل منفصلة ومستقلة عن بعضها بعضاً . ليس هذا فحسب، بل إنها تكتفي دائماً بدور المتلقى أو رد الفعل من دون القدرة على القيادة والمبادرة .
لا توجد لدى الإدارة الحالية، ووفقاً للمؤشرات المتوفرة، ما يوحى بأن لديها تصوراً شاملاً يحوي هذه القضايا في نسق استراتيجي عام للتعامل معها وإدارتها . كما لا يبدو أنها تستوعب على نحو واضح ومتكامل طبيعة الآليات والديناميات المحركة للصراعات الإقليمية . مع الأخذ في الاعتبار أنه في أحيان كثيرة تكون الأهداف غيرة واضحة وغامضة سواء للرأي العام الأمريكي أو الشركاء والحلفاء في المنطقة العربية .
حصاد هذا كله هو ما نراه الآن: فوضى عارمة، وحالة من التفكك والسيولة في الشرق الأوسط، وهو وضع لا يمكن أن يستمر طويلاً، فلابد أن تراجع واشنطن استراتيجيتها الحالية، هذا إذا كان لها استراتيجية من الأصل .

عاصم عبد الخالق

الخليج