ما زالت سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تثير الخلافات والسجالات، إن في ما يتعلّق بسياساته الداخلية أو في ما يتعلّق بتلك التي اعتمدها خارجياً.
فالولايتان الممتدّتان بين كانون الثاني/يناير 2009 وكانون الثاني/يناير 2017 شهدتا كمّاً من القرارات والانقسامات والإنجازات غير المسبوقة داخل الولايات المتّحدة الأمريكية منذ عقود. كما أنهما عرفتا أحداثاً وصراعات واتفاقات كثيرة خارجها. ويمكن لتقييم سريع لحكم الرجل وإدارته التذكير بأبرز العناوين والقضايا التي خاض فيها، خاصة في ضوء ما تلاها من إجراءات مضادة وقرارات مغايرة اتّخذها دونالد ترامب منذ دخوله البيت الأبيض مطلع العام 2017.
أوباما الأمريكي
حملت أوباما إلى البيت الأبيض شرائح اجتماعية أمريكية مختلفة، عمادها ناخبون مدينيّون وجامعيون بيض، وأكثريات سوداء ومن أصول مهاجرة، وناشطون في حركات اجتماعية وطلابية ونقابية. وقد استمرّت معظم هذه الشرائح في دعم أوباما في معاركه وخياراته الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، وأعادت انتخابه رئيساَ مرة ثانية (قبل أن يتراجع زخمها مع انتهاء عهده وينكفئ قسمٌ منها عن دعم مرشّحة الحزب الديمقراطي الخاسرة هيلاري كلينتون).
وشهدت سنتا حكم أوباما الأوليتان صعوبات اقتصادية كبرى وارتفاعاً في معدّلات البطالة نتيجة تداعيات الأزمة المالية التي عصفت بأمريكا والعالم العام 2008، ثم أخذ الاقتصاد بالتحسّن ومعه مؤشّرات العمل والاستهلاك ثمّ الادّخار، واستمرّ الأمر على هذا النحو (مع بعض التباطؤ أحياناً) في السنوات اللاحقة. ويمكن القول في هذا الباب إن الإنجاز الأوبامي الأهمّ في الميدان الاقتصادي الاجتماعي كان تحقيقه ما وعد به خلال حملته الانتخابية، أي بناء نظام رعاية صحية يشمل ملايين الأمريكيين العاجزين عن شراء تأمين صحّي خاص. وهو النظام الذي انقلب عليه ترامب في مطلع عهده، ولَو أن صعوبات جمّة ما زالت حائلاً دون إلغاء مفاعيله كاملة.
وفي المسائل السياسية – القيمية شديدة الخلافية في أمريكا، حاول أوباما التصديّ لتشريع بيع السلاح في العديد من الولايات. وساجل في أكثر من مناسبة تلت جرائم قتل جماعي داخل جامعات أو ثانويات أو مؤسسات خاصة وعامة ضد مشرّعي بيع الأسلحة، رابطاً بين خياراتهم وبين الأرقام المذهلة لآلاف الأمريكيين المقتولين سنوياً بحوادث إطلاق نار. لكنه فشل في فرض حظر على البيع أو قيود حاسمة، وجاء ترامب من بعده ليدعم بقوة بيع الأسلحة ويدعو إلى توسيعه وإلى انتشاره في الأمكنة المهدّدة بجرائم على اعتبار حمله “حائلاً دونها”. وفي ما خصّ حقوق المثليين جنسياً، اتّخذ أوباما سلسلة مواقف وإجراءات دعماً لهم ورفضاً للتمييز ضدهم، ومثّل في ذلك استمراراً لسياسات الديمقراطيين الإيجابية (منذ أيام بيل كلينتون بخاصة) تجاههم. الأمر نفسه، أي موقف الديمقراطيين المعهود، اعتمده أوباما تجاه الإجهاض، رافضاً تجريمه وداعياً لحرية الاختيار ولحقّ المرأة بالتصرّف بجسدها. على أن الأمور لم تتقدّم كثيراً في عهده في هذا المجال وظلت ولايات كثيرة ترفض السماح بجعل الإجهاض مشروعاً. ومنذ تولّي ترامب الرئاسة تتوالى التشريعات المضادة لما أراده أوباما، أي تلك الفارضة حظراً على الإجهاض الجاعلة إياه عملاً “غير قانوني”.
ولا شكّ أن مسألة العنصرية وعنف الشرطة ضد الأمريكيين السود والمهاجرين الملوّنين كانت أهمّ العناوين التي رافقت أوباما في ولايتيه وحاول دورياً التعامل معها. وإذا كان انتخابه مرّتين قد أظهر تفوّقاً لمناهضي العنصرية على معتنقيها أو الصامتين تجاهها أو من لا يرون في انتخاب رئيس أسود البشرة ردّاً عليها، فإن أسئلتها وتحدّياتها تفاقمت في أمريكا وتحصّن بها مع الوقت كثرة من خصومه، وصارت اليوم في عهد ترامب المدعوم من دعاة “التفوّق الأبيض” ومن الجماعات العنصرية واليمينية المتطرّفة مفتوحةً على تراجعات وعلى حملات انتقامية ضد ما مثّله الإرث الأوبامي في ما خصّها.
في مقابل هذه القضايا التي كانت النقاشات حولها محور التجاذبات السياسية الداخلية الأهمّ، لم يشذّ أوباما كثيراً عن السائد منذ أيام بوش الابن في ما ارتبط بـ “الحرب على الإرهاب” و”الباتريوتيك آكت”، وإن جرى خلال تمديد العمل بالأخير تعديل بعض البنود لإدخال جرعات قانونية تقيّد الإجراءات الممكنة فيه تجاه الأفراد المشكوك بهم. وفشل أوباما في تحقيق وعده بإغلاق معتقل غوانتانامو “احتراماً لحقوق الإنسان” على ما قال. ثم جاء ترامب ليلغي كلّ بحث ممكن في الموضوع طالباً من الجهات المختصة الإبقاء على المعتقل وبُنيته وصيغ العمل داخله.
أوباما الدولي
على أن الأوبامية لا تقتصر على ما قاله وفعله أوباما (أو حاول فعله) داخل الولايات المتحدة. فككل رئيس أمريكي، يصعب قراءة عهده دون التركيز على سياساته الخارجية ومقارباته لشؤون العالم. وإذا كان ضرورياً القول إن في سياسة أوباما منذ البداية ما بُنِي على أساس مناقضة سياسات جورج بوش الابن، خاصة في الشرق الأوسط، فإن الأمر لا يكفي لتلخيصها، لأن الفلسفة الأوبامية لعلاقة واشنطن بالشؤون الدولية حاولت التأسيس لمرحلة جديدة تُبدّل سلّم الأولويات وتغيّر المقاربات السابقة. فأوباما أراد التخفيف من عقيدة “التدخل العسكري” والانسحاب من مناطق الاجتياحات الأمريكية التي نفّذها بوش بين العامين 2001 و2003 (أفغانستان والعراق). وأراد أيضاً تحسين علاقات واشنطن مع طهران والوصول إلى اتفاق نووي معها، كما أراد مراجعة العلاقات إياها مع الرياض وسائر “الحلفاء” العرب، وتقليل الاعتماد عليهم وعلى نفطهم. وأراد أخيراً في ما خصّ الشرق الأوسط تقديم عروض لإعادة مفاوضات “السلام” بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مسارها المعطّل منذ الفشل الذريع الذي مُنيت به وساطات بيل كلينتون في ولايته الثانية. وفي ما يتخطّى كل ذلك، تعهّد أوباما بإعادة الاعتبار إلى الديبلوماسية على حساب “الضغوط” و”التهديد” و”لغة القوّة”، واستعادة التنسيق الوثيق مع الأوروبيين، والتفاوض مع روسيا والصين لحل الخلافات الاستراتيجية والتجارية، وطيّ صفحة العداوة مع كوبا. كما أيّد انضمام بلاده (المشروط) إلى معاهدات بيئية وإلى اتفاقات لمواجهة التبدّل المناخي في العالم، وشكّلت مواقفه هذه تغيّراً مهماً في المواقف الأمريكية التقليدية.
الأهم من كل ذلك ربما، أن أوباما أراد تقليص الأدوار الأمريكية دولياً والتركيز على الداخل الوطني، وفي هذا نزعة تستمرّ اليوم مع ترامب ولَو وفق شروط مختلفة وعلى أساس مواقف دولية تأتي في معظمها مناقضة لمواقف أوباما.
وإذا كان الأخير قد نجح في اكتساب شعبية أوروبية بسبب بعض ما ورد آنفاً (ولأسباب عديدة أخرى)، وإذا كانت مصالحته التاريخية مع كوبا قد حصلت، ومثلها وصوله إلى تفاهمات مؤقّتة مع الصين وإبرامه اتّفاقية مع طهران حول برنامجها النووي، إلا أن التطوّرات العربية الكبرى لا سيّما في سوريا من ناحية، واستمرار واشنطن في ما سُمّي “الحرب على الإرهاب” من ناحية ثانية، عدّلت الكثير من “الفلسفة” الأوبامية، وأدّت غالباً إلى كوارث يصعب عدم تحميل أوباما نفسه قسماً من المسؤولية عنها. وتبرز هنا المسألة السورية بشكل خاص، التي تكثّفت فيها الديناميات الإقليمية والدولية بعد أن خرج الصراع فيها من إطاره الوطني. وكان لتردّد أوباما تجاهها، ولعدم تفضيله سقوط النظام – على ما ردّد هو نفسه وعلى ما تذكر التقارير الدورية الآن حول نقاشات إدارته – ولإيلائه الاتفاق النووي مع إيران الأولوية وتجنّبه مواجهة تمدّدها الإقليمي (معطوفاً على مواقف بعض مستشاريه الإيجابية تجاه نفوذها)، ولتأثير تجربة حرب العراق ونتائجها على خياراته وخيارات قسم كبير من قاعدته الانتخابية، كان لكلّ ذلك أن سهّل على طهران ثم على موسكو التدخّل لحماية نظام الأسد المتهاوي، مع ما عناه الأمر من مجازر بأسلحة تقليدية وغير تقليدية (كيماوية) كان أوباما نفسه قد عدّها الخطّ الأحمر الوحيد ثم قبِل بها. وإن عُطف على ذلك تدخلّه العسكري ضد “داعش” حصراً واستمرار عمليات طائراته المسيّرة بلا طيّار في اليمن وباكستان وأفغانستان (في إطار الحرب على “القاعدة” التي أحرز فيها “انتصاراً” رمزياً تمثّل في قتل بن لادن العام 2011)، أمكن الجزم أن جانباً أساسياً من كارثة سوريا ولاجئيها (التي رفعت مستويات الخوف والعنصرية أوروبياً) و”فوضى” المنطقة وتصاعد التوتّرات المذهبية وخطاب “المظلومية السنية” وانعكاساته وعودة موسكو القوية من بوابة دمشق (بعد أوكرانيا) إلى الساحة الدولية مرتبطة بأدائه فيها. كما أن فشله في دفع تل أبيب إلى تجميد الاستيطان رغم تمنّع بلاده عن استخدام الفيتو ضد قرار أممي بإدانتها ودعمه علناً بعض الحقوق الفلسطينية، لم يعدّل كثيراً من وجهة واشنطن الاستراتيجية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولا من توازن القوى في الأراضي المحتلة، خاصة مع توقيعه منحةً مالية ضخمة لتل أبيب في آخر أيامه (مقابل منحة محدودة للسلطة الفلسطينية).
هكذا يصعب النظر إلى أوباما الدولي بحيادية بعد ثماني سنوات من قيادته أمريكا. لا بل يمكن اعتبار أثره شديد السلبية في الشرق الأوسط. فانكفائيته تسبّبت بانهيارات لا تقلّ فداحة عن تلك التي تسبّبت بها إدارة جورج بوش الابن في اندفاعاتها الحربية في أفغانستان والعراق (لجهة مبرّراتها المزوّرة التي كرّست “نظريّات المؤامرة” في أكثر من وسط، ولجهة إدارة ما بعدها تحديداً وسياسات “حلّ الدولة” وغيرها ممّا دفع العراق أثمانه الباهظة). ولولا كوارثية ما يقوم به دونالد ترامب منذ سنتين، في انقضاضه على إيجابيات أوباما الدولية المعدودة (تخفيف التوتر مع الصين، والمصالحة مع كوبا، والانخراط في الاتفاق المناخي، والتنسيق مع أوروبا)، وفي تخطّي الأخير سوءاً في سوريا والمنطقة، مع عودة صريحة إلى سياسات التفاهم مع الأنظمة المستبدة (المستقرة) ودعم إسرائيل المطلق للقضاء على احتمالات الكيانية الفلسطينية المتبقّية، لكان سجلّ أوباما “العربي” السلبي هو كلّ ما يمكن ذكره حول سياسات واشنطن في العقد الأخير. وحتى المواقف الهجومية الترامبية ضد طهران، لا تبدو أكثر من كونها استكمالاً للانقلاب على بعض معالم الأوبامية على نحو لا تظهر في أي حال (حتى الآن على الأقل) سبل ترجمته الفعلية، خاصة في سوريا والعراق، أرضَي النفوذ الإيراني الكبير والانكفاء الأمريكي المستمر.
أوباما “التقدّمي” أمريكياً، أوباما “الحائر والمجتهد” دولياً وأوباما “المنكفئ غير المبالي” شرق أوسطياً، تلك قد تكون معادلة ثماني سنوات للرئيس الأكثر إثارة للجدل والاهتمام في البيت الأبيض، منذ زمن بعيد.
القدس العربي