بعد أكثر من عقد من المباحثات والمفاوضات المضنية، بين إيران ومجموعة الدول العظمى والكبرى في الجماعة الدولية “خمسة+ واحد”، توصل الجانبان في الثاني من نيسان/إبريل الجاري، بمدينة “لوزان” السويسرية إلى “اتفاق إطار” بشأن برنامج إيران النووي، ما يشكل مرحلة مهمة على طريق اتفاق نهائي يفترض أن ينجز بحلول 30 حزيران/يونيو القادم.
وتضمن الاتفاق في مجمله تعليق أكثر من ثلثي قدرات التخصيب الإيرانية الحالية، ومراقبتها لمدة عشر سنوات إذا تمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق شامل بحلول الثلاثين من يونيو/حزيران المقبل، ونقل مخزون إيران من اليورانيوم المخصب للخارج، وتخفيض أجهزة الطرد المركزي. كما وافقت إيران على عدم بناء أي منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم لمدة 15 عاما، مع تأكيدها أن العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي سترفع حسب التزام طهران بالاتفاق. ووفقا للمعلومات المتاحة وافقت إيران على أن تخفض بشكل كبير عدد ما لديها من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم الجاهزة للتشغيل إلى 6104 من أصل 19 الف جهاز. وستشغل 5060 جهازا فقط لعشر سنوات بمقتضى الاتفاق المستقبلي مع القوى الست. وأضاف الاتفاق أن إيران ستستخدم فقط أجهرة للطرد المركزي من الجيل الأول أثناء تلك الفترة.
وقد قوبل هذا الاتفاق بترحيب تركيا به، حيث اعتبر البيان الصادر عن الخارجية التركية الاتفاق “خطوة إيجابية” لتحقيق “السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”، وهذا ما عبر عنه أيضًا وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، في المؤتمر الصحفي الذي عقده في العاصمة اللتوانية “فيلنيوس” بالقول: “نحن سعداء للغاية بأنه قد تم إحراز هذه الصفقة بالأمس”، وأضاف: “عندما ننظر إلى مواقف مجموعة “خمسة+ واحد” وإيران في الوقت الراهن، فإن إيران لا تزال لم تصل إلى الحد الذي تمكنا من تحقيقه في عام 2010م، ولكنني آمل أن تصل إيران إلى الحد المرجو بحلول نهاية شهر حزيران/يونيو القادم”. وأكد “جاويش أوغلو” على” أن تركيا من حيث المبدأ ضد وجود أي نوع من الأسلحة النووية لدى إيران أو إسرائيل أو أي دولة أخرى”.
وتجدر الإشارة هنا، بأن الترحيب التركي جاء بعد أن وجَّهت أنقرة سهام الانتقاد إلى القيادة الإيرانية أثر تدخلها في شؤون بعض الدول العربية؛ وَدَعَتْها إلى الكفِّ عن محاولات بسط النفوذ عبر الوكلاء؛ حيث عبَّر عن هذا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقول: “إن على إيران تغيير وجهة نظرها، وعليها أن تسحب كل قواتها ومالها من اليمن وسوريا والعراق، وعليها أن تحترم سيادة تلك الأراضي ووحدتها”. كما انتقد الرئيس التركي التغذية المذهبية للخلافات، ووجود الحرس الثوري في كلٍّ من سوريا والعراق.
يأتي الترحيب تركيا باتفاق “لوزان” النووي في سياق موقفها من البرنامج النووي الإيراني، فهي من حيث المبدأ، كانت- ولاتزال- تقر بحق إيران في تطوير التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، وكانت ترفض اللجوء إلى الخيار العسكري كحل أنسب في مواجهة الأزمات الدولية كأزمة البرنامج النووي الإيراني مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فهي كانت تعول على الطرق الدبلوماسية في حلها. وفي سبيل ذلك، ولاحتواء الأزمة النووية، قدمت تركيا نفسها كوسيط، فقد استطاعت مع البرازيل وإيران في التوصل إلى اتفاق عُرف باتفاق طهران في 17أيار/مايو 2010م، يقضي الاتفاق بإرسال إيران 1200 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3,5 في المئة إلى تركيا لتستبدل به 120 كيلو جراما من اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، في موعد لا يتجاوز السنة الواحدة. وقد اعتبرت هذه الخطوة خطة في غاية الأهمية من المتخصصين المتابعين للمفاوضات النووية. إلا أن الأمر لم يحقق نهاية سعيدة للأطراف المعنية، ومنها تركيا، لأن دول الغرب وروسيا والصين لم تكن راضية للوساطة التركية والبرازيلية، في تعده الدول العظمى والكبرى من” اختصاصها”. كما أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “باراك أوباما” اعتبر الوساطة التركية” أمرًا موسفًا”. لأنه ركز اهتمامه على فرض عقوبات جديدة ضد إيران، ففي 9 حزيران/يونيو 2010م، أصدر مجلس الأمن الدولي قرار رقم(929) ينص على ذلك. الذي رفضته تركيا والبرازيل بوصفهما عضوين غير دائمين فيه آنذاك.
وفي العام 2012م سعت الحكومة التركية لإحياء المحادثات بين إيران ومجموعة الدول “خمسة+ واحد” وقد أعلن المسؤول عن البرنامج النووي الإيراني سعيد جليلي استعداد بلاده لاستئناف المحادثات التي كانت ستستضيفها تركيا . وبعد ذلك، وعلى الرغم من توتر العلاقات التركية الإيرانية نتيجة لتباين موقفهما من الانتفاضة السورية، عقدت المحادثات في اسطنبول في نيسان/إبريل من ذلك العام تلتها محادثات في بغداد بعد شهر من ذلك التاريخ. وعلى الرغم من الجهود التركية في حل أزمة البرنامج النووي الإيراني إلا أن جهودها لم توفق نتيجة تعطيل مجموعة الدول المشار إليها آنفًا لجهودها.
وبناء على ما تقدم، لم يكن الترحيب التركي باتفاق “لوزان” النووي أمرًا مستغربًا بل متوقعاً، ففي حال الوصول إلى الاتفاق النهائي في حزيران/يونيو القادم، ودخوله حيز التنفيذ الفعلي، فإن ذلك سيحقق المصالح التركية العليا ولعل من أهمها، تعزيز الشراكة الاقتصادية بتنوعاتها (قطاع الطاقة بشقيه النفط والغاز، والتبادل التجاري، والسياحة) مع إيران، والتي كانت قد تضررت نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي. ويصبح تعزيز تلك العلاقة واقعًا ملموسًا عندما يبدأ الرفع التدريجي للعقوبات على إيران –في حال التزام الجانبين بتطبيق بالاتفاق النهائي- وصولا الى رفعها بشكل كامل. فتركيا – كما هو معلوم- تعتمد على روسيا وإيران فيما يتعلق بمصادر الطاقة، وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على ايران، فإن تركيا كانت تستورد ما نسبة 20 بالمئة من احتياجاتها من الغاز منها. أما على مستوى التبادل التجاري بين الدولتين، فتركيا غير راضية عنه إذ بلغ 15 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2014م.
ومما لاشك فيه سيلقي تنفيذ الاتفاق النووي النهائي بظلاله على العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، إذ ستسعى تركيا بقوة إلى إعادة إحياء الاتفاقية التي وقعتها مع إيران وتركمانستان في العام 2007م، والتي تقضي بتزويد أوروبا بالغاز والنفط التركماني والإيراني عبر أنابيب تمر عبر تركيا، لكن هذا الاتفاق لم ينفذ نتيجة معارضة الولايات المتحدة الأمريكية له. كما ستعمل تركيا بزيادة معدل تبادلها التجاري مع إيران، وتشجيع المواطنين الإيرانيين لزيارة تركيا وهذا ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الإيراني حسن روحاني” في العاصمة الإيرانية طهران في 7 نيسان/ إبريل 2015م. إذ قال بأنه:” يسعي بأن يصل معدل التبادل التجاري بين الدولتين إلى 30 مليار دولار أمريكي” كما اقترح في المؤتمر بأن تكون العملة الوطنية في كلتا الدولتين هي الوسيلة في التبادل التجاري بينهما بدلا من العملة الأمريكية والأوروبية. ولم تنته زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلا بالتوقيع على ثمانية اتفاقيات شملت الجانب الاقتصادي والأمني والدبلوماسي والصحي. ولكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هل إيران في مرحلة ما بعد العقوبات الاقتصادية- إذا رفعت عنها- ستستمر في تعاونها الاقتصادي مع تركيا كونها تقدر أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لها، أم إنها كانت مضطرة في التعاون معها، لتخفيف من حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؟
ويتمثل المكسب الثاني لتركيا من اتفاق “الإطار” يتمثل بتجنب حرب إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، فهي إن وقعت فهي لا تشبه الحرب الأمريكية على العراق في آذار عام 2003م، فالعراق ونتيجة العقوبات الشاملة التي فرضت عليه بعد احتلاله للكويت عام 1990م، أضحى ضعيفًا عسكريًا، وفاقدًا لعمقه المجتمعي، ومجرد من أي صيفة تحالف عربي أو إقليمي أو دولي، بخلاف الحالة الإيرانية، فهي وعلى الرغم من العقوبات المفروضة عليها إلا إنها قوة عسكرية لا يستهان بها، وتحظى بتماسك مجتمعي خاصة في أوقات الحروب، كما تملك إيران صيغة تحالفات عبر وكلاء إقليميين من غير الدول كـ”حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن، ودول كروسيا والصين وسوريا والعراق، وهذه الخاصية الإيرانية، تجعل في حال وقوع الحرب بين إيران والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لا تعرف مداها ولا نتائجها في بيئة إقليمية غير مستقرة وتشهد استقطاب طائفي غير معهود. وعليه فإن وقوع الحرب لا يخدم بالمطلق المصالح التركية، لأن تركيا حكومة العدالة والتنمية التي تطمح في استقبال الذكرى المئوية على قيام جمهورية تركيا المعاصرة في العام 2023م، كأفضل عاشر اقتصاد في عالم، وهذا يتطلب استقرار سياسي وأمني وتعاون اقتصادي بين دول الشرق الأوسط. أما المكسب الثالث لتركيا فيتعلق بقلقها من امتلاك إيران للسلاح النووي، وبهذا الاتفاق بددت مخاوفها. فإيران وبدون امتلاكها للسلاح النووي ونفوذها الإقليمي في حال تزايد مستمر، فكيف يصبح هذا النفوذ مع امتلاكها لذلك السلاح؟
نخلص مما تقدم، بأن المكاسب التركية المشار إليها آنفا في حال تنفيذ والتزام مجموعة دول(خمسة+ واحد) وإيران بالاتفاق النووي النهائي، كافية لكي ترحب تركيا باتفاق الاطار الذي وقع عليه في 2 نيسان/ابريل عام2015، في مدينة “لوزان” السويسرية. وقد يقود هذا الاتفاق وما ينتج عنه من تمتين التعاون الاقتصادي بين إيران وتركيا في سعيهما المشترك إلى ايجاد حلول دبلوماسية في القضايا العربية الساخنة، ومنها عاصفة الحزم العربية ضد الحوثيين في اليمن. وهذا ما أكد عليه الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الإيراني حسن روحاني في المؤتمر الصحفي الذي تم الإشارة إليه سابقًا. ولكن السؤال الذي يطرح الآن، أين العرب من كل هذه التحولات في بيئتهم الإقليمية، إيران في طريقها أن تصبح قوة نووية سلمية، وقوة اقتصادية بعد رفع العقوبات الاقتصادية عليها، وتركيا ماضية مي مشروعها النهضوي، والعرب أيضا ماضون أيضا في حروبهم الباردة والتي لا تنتهي ونتيجة لها، أضحت ليبيا دولة فاشلة واليمن كاد أن يسقط تحت النفوذ الإيراني كما سقط العراق وسقطت سوريا تحت احتلاله، فأين العرب من تحديات الوجود الإقليمي والاستجابة له؟
د.معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية