تحت شعار حل القضية الفلسطينية ، تسعى أمريكا وإسرائيل في الحقيقة إلى حل القضية الإسرائيلية . إن اللاهثين وراء وَهـْم السلام وحل القضية الفلسطينية بالوسائل السلمية دون اللجوء إلى خيار النضال الذي يعزز بالنتيجة مكاسب السلام قد وضعوا الفلسطينيين والعرب أمام مأزق القبول والإعتراف بمبدأ بقاء دولة إسرائيل حتى قبل البدء بأي مفاوضات . وهذا الوضع المأزوم قد أرغم الفلسطينيين على البدء في مسيرة سلام شاحبة وتائهة مليئة بالتنازلات عن العديد من حقوقهم ، وأهمها حقهم التاريخي في كامل الأرض الفلسطينية لصالح تقاسمها مع الإسرائيليين . وقد أضعف هذا الإعتراف المبكر الموقف الفلسطيني وجعل من مبدأ التنازل الفلسطيني مدخلاً لأي عملية سلام وأمراً مفروغاً منه بل وواجباً على الفلسطينيين دون توقع المثيل من الإسرائيليين . أمـﱠا العالم الخارجي بما في ذلك أمريكا وروسيا والغرب فلم يبدِ إهتماماً حقيقياً ومؤثراً تجاه حل القضية الفلسطينية ، بقدر ما أبدى اهتماماً ملحوظاً ومتواصلاً تجاه حل القضية الإسرائيلية أولاً وأساساً . وفي ظل هذا الوضع أدى إصرار أمريكا وإسرائيل على التعامل مع القضية الفلسطينية بإعتبارها قضية إسرائيلية أولاً إلى إيصال الأمور إلى حالة متفاقمة من الجمود في ظل غياب خيار المقاومة والعمل المسلح والإكتفاء بخيار السلام المبني على الأوهام والآمال والإستسلام .
إن كلا طرفي المعادلة الفلسطيني والإسرائيلي يملكان أوراقاً خطيرة ، الفلسطينيون وهم أصحاب البلد يملكون ورقة الشرعية والحق التاريخي والوطني في فلسطين وحق السعي إلى تحريرها والعودة إليها ، بينما يملك الإسرائيليون ورقة الإحتلال والإحلال وقوة الأمر الواقع والتفوق العسكري المطلق . والحل السلمي ، إذا كان هنالك حل ، يجب أن يخرج إذاً بمعادلة شبه مستحيلة تأخذ هذين الواقعين المتناقضين والنقيضين بعين الإعتبار .
لقد نجح الإسرائيليون إلى درجة ملحوظة في إضعاف الحالة الفلسطينية من خلال إفشال النضال الفلسطيني وزجه في أُتون السياسة والخلافات العربية ، ومن ثم تطويع القيادة الفلسطينية واستعمالها كواجهة لإضعاف ورقة الشرعية الفلسطينية من خلال التنازلات التدريجية والمجانية لإسرائيل عن معظم الحقوق الوطنية الفلسطينية . وقد إعتقد الإسرائيليون خاطئين أن ذلك الوضع سوف يؤدي إلى سحب ورقة الشرعية من يد الفلسطينيين ولا يعود الإسرائيليون ملزمين بإعطائهم شيئاً ، ولكن الشرعية الوطنية والتاريخية أمراً لا يمكن التنازل عنه لأنها تضرب في عمق التاريخ الوطني للشعب الفلسطيني وفي ضميره وهويته الوطنية ولا يملك أي شخص أو مجموعة أشخاص التنازل عنها ، وحتى لو تم التنازل عن بعض الحقوق الوطنية شكلاً فإن ذلك لن يؤدي إلى إختفاء الهوية الوطنية والإنتماء الوطني موضوعاً كون هذا الحق هو ملك للأجيال الفلسطينية القادمة وبالتتابع . ومحاولات إسرائيل لإرغام الفلسطينيين على التنازل عن تاريخهم الوطني في فلسطين والإقرار بأن فلسطين هي وطن اليهود وليس وطنهم تعكس المأزق الإسرائيلي ومحاولته اليائسة لإضفاء شرعية تاريخية على وجوده الإحتلالي المفروض بقوة السلاح . ومن الواضح هنا أن الإسرائيليين يحاولون اقتناص شرعيتهم من خلال قبول الفلسطينيين بتزوير التاريخ والتنازل عنها لليهود . فالإسرائيليون ينشدون ذلك الإعتراف من الفلسطينيين حصراً وليس من أي جهة أخرى لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن الشرعية هي لصاحب الأرض الحقيقي وهم الفلسطينيون .
يعاني المواطن الإسرائيلي اليهودي من حالة مزمنة من عدم التوازن لأنه لا يستطيع تحديد هويته كون تحديدها مرتبط حتى الآن بحالة العداء للفلسطينيين . فإسرائيلية المواطن الإسرائيلي لا تكتمل إلا إذا عَبـﱠر عنها من خلال حالة من العداء للفلسطينيين ، إذ عندها تكتمل معالم هويته من خلال كونه “عدو الفلسطينيين” وهو الشئ الذي يجعل منه “إسرائيلياً” . إذاً هي هوية سلبية في طبيعتها تقوم على نقض الهوية الأصلية لفلسطين والفلسطينيين وهي أيضاً هوية عدوانية تعتمد العدوان والقوة المسلحة للوصول إلى أهدافها ، ولذلك فإن كل من شعر بالصدمة من فوز نتنياهو في الإنتخابات الأخيرة لا يفهم السيكولوجيا السياسية الإسرائيلية . فالإسرائيلي في نهاية المطاف لا يضع الأولوية للقضايا الإقتصادية أو إيران أو الخطر النووي لأن كل هذه القضايا على أهميتها ، لا قيمة لها في حساب تحديد هويته ، وقد عَرَفَ نتنياهو ذلك بالضبط ولعب على وَتـَرِهِ في الأيام الأخيرة للأنتخابات وفاز بها عكس كل التوقعات عندما أعلن أنه لن يوافق على إنشاء دولة فلسطينية من خلال حل الدولتين طالما بقي في الحكم ، أي إبقاء حالة العداء للفلسطينيين قائمة .
لقد نجح الإسرائيليون وأمريكا في وضع الفلسطينيين في فخ جهنمي ، فهم إرهابيون اذا قاوموا الإحتلال ، وهم عاقلون إذا دعوا إلى السلام والحل السلمي ، ولكن عليهم إنتظار أمريكا حتى تبادر إلى تفعيل عملية السلام . وأمريكا والفلسطينييون عليهم بالتالي إنتظار إسرائيل حتى توافق على المشاركة في مفاوضات سلام ، وإسرائيل تفاوض أحياناً ولكنها تعلن دائماً أن المفاوضات لا تعني بالضرورة الإنسحاب من أي أرض محتله ، فمفهوم السلام بالنسبة لإسرائيل لا يحمل مضمون الإنسحاب وإنما يحمل مضمون التنازل الفلسطيني في الجوهر والتنازل الإسرائيلي في المظهر وفي قضايا تافهة أو إجرائية .
وحتى هذه اللحظة إسرائيل ترفض أي شئ والسلطة الفلسطينية تقبل بأي شئ والفلسطينيون يحصلون على لا شئ ، في الوقت الذي يستمر فيه الإسرائيليون بالبحث عن هويتهم وترجمتها فقط من خلال حالة العداء للفلسطينيين عقائدياً وسياسياً ونفسياً ومن خلال الإستمرار في إحتلال أرضهم والإمعان في إستعمارها من خلال الإستيطان المستمر .
معظم المواطنين الإسرائيليين لا يشعرون بضرورة الإنسحاب من أي بقعة لصالح الفلسطينيين . فالقيادة الفلسطينية قدﱠمت من التنازلات المجانية ما كسر ظهر الفلسطينيين وأضعف موقفهم وموقف أي مؤيد لهم أو لقضيتهم ، وأصبح القبول الفلسطيني بالفتات الإسرائيلي هو برنامج عمل القيادة الفلسطينية ممثلة “بالسلطة الفلسطينية” . ولم يعد التهديد باللجوء إلى خيار المقاومة أو إنتفاضة جديدة أمراً يبعث على الخوف والقلق بقدر ما يبعث على الضحك والإستهزاء ولا يحمل أي معنى بالنسبة للإسرائيليين الذين قضموا وهضموا معظم الحقوق الفلسطينية بإرادة أولئك الموتورين من القادة الفلسطينيين مما جعل المطالب الفلسطينية مسعى بلا معنى ، ولم يكتفِ الإسرائيليون بذلك ، بل تركوا للسلطة الفلسطينية مهمة ملاحقة وإعتقال العناصر المناضلة من الفلسطينيين تحت شعار “التنسيق الأمني” .
تتمثل القضية الإسرائيلية في جذورها في السعي إلى إضفاء الشرعية على الدولة الصهيونية فلسطينياً ، وفي القبول بها عربياً من خلال تنازلات فلسطينية وعربية حصراً . لقد شارف الإسرائيليون على إتمام الحصول على كلا الشرطين اللازمين لحل القضية الإسرائيلية في بعديها الفلسطيني والعربي . فالقيادة الفلسطينية تنازلت طواعية عن الكثير للإسرائيل ، والحكام العرب قبلوا بذلك التنازل وما يترتب عليه. ولكن يبقى البعد الثالث وهو الأصعب ، ويتمثل في المعضلة الأخلاقية والنفسية التي تـُلِمُّ بالإسرائيليين وتدفع بهم إلى إتخاذ اجراآت إنتحارية ، مثل بناء السور الفاصل الذي حَوﱠلَ ما يسمى “بمناطق الخط الأخضر” إلى غيتو إسرائيلي واسع (Ghetto) يُذَكـﱢر الإسرائيليين يومياً بأنهم يعيشون على أرض ليست لهم وبقوة السلاح ، بالإضافة إلى المغالاة بل والإمعان في التطرف في معاملة المواطنين الفلسطينيين داخل ما يسمى “بالخط الأخضر” انتقاماً لذلك الشعور الدفين لدى الإسرائيليين بأن “بلدهم إسرائيل” هي في الحقيقة ليست لهم ، مما يعكس جوهر المشكلة الإسرائيلية المتمثلة في ضرورة بقاء حالة العداء مع “العدو الفلسطيني” كمبرر للوضع اللاأخلاقي الذي يعيشه الكيان الصهيوني الغاصب وفي تعامله العنصري مع الفلسطينيين سواء أكانوا مواطنين أم رعايا .
المعضلة الأخلاقية تعكس نفسها على الإسرائيليين من خلال شكوكهم الدفينة بهويتهم الإسرائيلية كهوية جامعة لكل اليهود . فما يجمع الإسرائيليين معاً على تفرقهم ليس العلاقة التوارتية ومفهوم “أرض الميعاد” الذي لا يحمل أي معنى بقدر ما يجمعهم حالة العداء للفلسطينيين . والمحاولات الإسرائيلية المستميتة لخلق إرث تاريخي لهم في فلسطين يبرر إحتلالها ، لم ينجح الآن ولن تقوم له قائمة حقيقية حتى لو هدموا المسجد الأقصى في محاولاتهم الفاشلة لإستخراج أدلة تاريخية تبرر حقهم المزعوم في فلسطين .
إن القفز والتنقل بين مطالب وشعارات شاذة وعنصرية مثل “نقاء الدولة” و “يهودية الدولة” و “دولة لليهود” و”الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين” ، يعكس حالة عدم الإستقرار النفسي والسياسي التي يعيشها الإسرائيليون بحثاً عن الأمان وليس بالضرورة الأمن . فالأمان يعني الوصول لحالة من الإستقرار النفسي الذي يعكس الرضا عن النفس وإطمئنان الفرد الإسرائيلي إلى ما هو عليه والقبول به كأساس للسلام النفسي وللمستقبل الواعد . إن غياب الشعور بالسلام النفسي يساهم في إذكاء وحشية وشراسة الإسرائيليين في تعاملهم مع الفلسطينيين وإستعمالهم كقربان لتطهيرهم من ذنوبهم وخطاياهم ، ولتبرير الظلم الذي يمارسونه والذي يأكل بصمت ضمير الإسرائيليين من الداخل ويؤجج بالتالي مشاعر الكره والعداء العنصري لديهم تجاه الفلسطينيين كرد فعل على ما تسببه تلك الأفعال العنصرية من تدمير لإنسانية الإسرائيليين .
إن تعامل الفلسطينيون مع سلطات الإحتلال بمنظور “ولي الأمر” الذي يُنـْتظر منه أن يمارس دوره “الرعوي” بإعتباره “نظاماً أبوياً” ، يعكس حالة متقدمة من الإفلاس السياسي والإجتماعي الفلسطيني . فالتعامل مع نظام الإحتلال بإعتباره نظاماً أبوياً رعوياً يمكن أن يعطي أو يتنازل هي قمة المآسي التي أوصلتنا إليها السلطة الفلسطينية بعد ان قامت طوعاً بإنتهاك كافة الثوابت الفلسطينية وتعاملت مع واقع الإحتلال باعتباره هو الحقيقة الثابتة ، والمطالب الوطنية الفلسطينية باعتبارها أمراً طارئاً على ذلك الواقع ، وحوﱠلـَتْ بالتالي الشعب الفلسطيني من شعب مناضل إلى مجموعات بشرية مَطـْلبية تناشد الحاكم المحتل ولا تناضل ضده ، وتـَعْتـَبـِر الإحتلال بالتالي أمراً واقعاً والمطالب الفلسطينية إستجداءً يتطلب تنفيذها رضا سلطات الإحتلال .
إن معركة الإنتخابات هي بين الإسرائيليين أنفسهم وبينهم وبين الفلسطينيين المقيمين داخل الكيان الصهيوني منذ عام 1948 ، وليست انتخابات بين الإسرائيليين والفلسطينيين عموماً . المعركة تجري ضمن مفهوم السيادة الإسرائيلية وهي تتعلق بالحقوق المُنْتَقَصَةِ للمواطنين الفلسطينيين وليس بتحرير فلسطين أو أجزاء من الأراضي المحتلة أو إنشاء دولة فلسطينة ما . فتحرير فلسطين أو أي جزء منها لن يأتي كهبة من حكومة إسرائيلية ، بل من خلال النضال الفلسطيني بأشكاله المختلفة من البندقية إلى الحجر إلى النضال السياسي وما بينهما . ولكن النضال السياسي منفرداً لن يأتي للفلسطينيين بشئ سوى ماهو مثيل لإتفاقات أوسلو أو أسوأ .
إن تاريخ العلاقة بين الفلسطينيين والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة يؤكد أن مصلحة الفلسطينيين هي في تولي اليمين الإسرائيلي الحكم حتى لا يعيش الفلسطينيون وَهـْمَ الحصول على حقوقهم من خلال حكومات تمثل الوسط . وخـَلاَصُ الفلسطينيين قد يتطلب في النهاية إستمرار وجود اليمين الإسرائيلي في الحكم ، لأن ذلك سوف يضع الفلسطينيين أمام الحقيقة مهما كانت مُرﱠة ، وحتمية مجابهتها إذا أرادوا الوصول إلى حقوقهم أو بعضها . كما أن إستمرار اليمين الإسرائيلي في الحكم سوف يدفع الأمور داخل إسرائيل إما إلى الإنفجار أو إلى الإنتحار الأخلاقي من خلال جر إسرائيل إلى أُتون التمييز العنصري وتجاهل الوازع الأخلاقي في تعاملها مع قضايا ضميرية وانسانية تغوص في صلب مفاهيم حقوق الإنسان ، وترفع بالتالي الغطاء الساتر عن عنصرية النظام الإسرائيلي وتكشف حقيقته أمام العالم من جهة وأمام مواطنيه من جهة أخرى وتجعل من القضية الأخلاقية جزءاً من الواقع الإسرائيلي والعنصرية سِمَة له .
وأخيراً وخلال كتابة هذا التحليل إستذكرت مقالاً كتبته في 1991 / 03 / 11 أي قبل أربعة وعشرون عاماً بعنوان “حل القضية الإسرائيلية أم حل القضية الفلسطينية ؟” ومنه استوحيت عنوان هذا المقال ومنه أقتبس الفقرة التالية:-
“إن تقليص أهمية القضية الفلسطينية كوسيلة لحل القضية الإسرائيلية يتطلب فك الإرتباط بين الصراع العربي – الإسرائيلي والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بشكل كامل وعلني. فطالما بقي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي جزءاً عضوياً وأساسياً من الصراع العربي – الإسرائيلي ، فإن دور القضية الفلسطينية يبقى رئيساً وأساسياً وحاسماً ، لأن الأنظمة العربية المعنية لن تستطيع أن تبرر لشعوبها تجاوز الخط الأحمر قبل أن يأخذ الفلسطينيون حقوقهم الوطنية المشروعة كامل. أما إذا تم فك الإرتباط رسمياً وعلنياً بين الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والصراع العربي – الإسرائيلي كما تطالب أمريكا الأن، فإننا سوف نشهد معادلة جديدة قد تؤدي إلى بلقنة المنطقة وتمزيقها، وإزالة هويتها العربية، وطمس حضارتها ودينها مما قد يجعل شرعية وجود إسرائيل في المنطقة أقوى حجة من شرعية وجود العرب أنفسهم فيها”.
ترى هل كانت هذه نبوءة مشؤومة قبل ربع قرن من هذا الزمن المرّْ الذي نعيش ، أما أننا سرنا على هذا الدرب بإصرار إنتحاري؟
د. لبيب قمحاوي
راي اليوم