القمع في سورية

القمع في سورية

الأصل في العقوبة أن تلي وقوع فعل جرمي مخالف للقانون، أو الشروع فيه. هذه هي القاعدة في البلدان التي يحكمها القانون، ويتمتع فيها بمحاكمة علنية، وقانونية، كل من يقوم أو يعتزم القيام بأفعال تهدد النظام العام، وتتوفر أدلة قاطعة على ما ارتكبه أو اعتزم ارتكابه. أما الحالات التي يتعرّض فيها أشخاصٌ بعينهم لمعاملة وقائية، فهي نادرة وخاضعة بدورها للقانون ووقتية. في المقابل، يعتمد النظام السوري العقوبة عملا وقائيا/ استباقيا، لا يلي فعلا مخالفا للقانون أو مهدّدا للنظام العام، فالعقاب هنا ردعي وموجه أيضا إلى المجال العام في كليته، حتى عندما يكون موضوعه المباشر أشخاصا يعتقلون لأنهم معارضون، أو معرّضون لتهمةٍ يخضعون بسببها للتحقيق، الذي له دوما هدف محدّد لا يحيد عنه، ينطلق من فكرة مسبقة هي أن المعتقل أو المتهم مذنب، وإن لم تتوفر أدلة على ذلك، وأن مهمة التحقيق انتزاع اعتراف منه بجميع وسائل التعذيب وأساليبه، يؤكد التهمة الموجهة إليه والفعل المنسوب له، بما أن الاعتراف، لا الدليل، هو هنا سيد الأدلة، فلا بد منه، وإن كان هدفا أدى انتزاعه إلى موت المعتقل تحت التعذيب، الذي لا يعد فعلا جرميا، ما دام يرسل تحذيرات ترعب بقية المواطنين، تردعهم ليس فقط عن القيام، وإنما كذلك عن التفكير في أي نشاط عملي، وأي تداول لفظي يخالف ما تعتمده السلطة، وعلى المجال العام الالتزام به. بدلالته التخويفية العامة، الموجهة إلى الفضاء العام، يفاجأ كل من يسجن في سورية بعدد الذين لا يعرفون سبب اعتقالهم، ولا يتذكّرون أنهم قاموا بما، أو قالوا ما، يستوجب العقاب، والذين نفوا خلال التحقيقات الأولية ما وجه إليهم من تهم، اعترفوا فيما بعد بصحتها تحت التعذيب، وأقروا بما نسب إليهم من علاقاتٍ مع أشخاصٍ، لا يعرفونهم في حالات كثيرة، ينتمون إلى دوائر سياسية أو دينية، تتهمهم أجهزة القمع بالتعاطف معها. هذا النمط من القمع العام والوقائي يخضع لآلية ونتائج، منها:

أولا، اعتبار اعتراف المعتقل النتيجة التي لا بد أن يؤدي تعذيبه إليها. لا أهمية، في هذا السياق، لما إذا كانت اعترافاته صحيحة أو كاذبة، ما دامت تؤدي الغرض الإرعابي والردعي المطلوب منها، وستعتمد في تحديد الفترة التي يقضيها المعتقل في السجن، بقرار من جهاز القمع الذي اعتقله وعذبه وانتزع اعترافاته، حتى عندما يقدم في حالات جد نادرة إلى المحاكمة. وتكون هذه الاعترافات غالبا تلقينية، وبالتالي ملفقة من ألفها إلى يائها، يوقع المعتقل عليها، تجنبا للتعذيب والابتزاز الذي قد يطاول أسرته، وتنتزع منه في جميع الأحوال وبجميع الوسائل. من المألوف أيضا أن يرغم المعتقل على توقيع أوراق بيضاء، تملؤها الجهة التي اعتقلته بما يحلو لها من معلوماتٍ تؤكد قيامه بفعل جرمي، سياسي الطابع غالبا. في هاتين الحالتين، يباغت قضاة المحاكم بعجز من يقدمون إليهم عن تذكر ما أدلوا به من معلومات واعترافات، وينكرون دوما ما كتبه الجهاز الأمني في الأوراق، إلا إذا أبلغهم القاضي بها باعتبارها اتهامات يفترض أنهم أكدوها في اعترافاتهم، بينما يقسم هؤلاء أغلظ الأيمان أنهم لم يقولوا شيئا مما يسمعونه، ولم يفعلوا ما ينسب إليهم أو يتهمون به.
ثانيا، يصنف الأمن المعتقلين إلى فئات ثلاث: من يتهمون بعضويتهم في تنظيم معارض، ويسمون اختصارا “تنظيما”. من هم على صلة بعضو أو أكثر في تنظيم معارض، ويسمون “صلة”. من ليسوا أعضاء في تنظيم، ولم يقيموا صلات مع منظمين، لكنهم “قد” يشكلون حاضنة تتفاعل معهم أو تتأثر بهم، أو تقدم لهم حماية أو مساعدة ما، ويسمون “بيئة”.
بعد عام 1980، تقرّر معاملة الأصناف الثلاثة بطريقة واحدة، تعتمد أقصى قدر من الشدة، انطلاقا من وجهة نظر “رئاسية”، قالت إن التنظيم يشبه السمكة في الماء، وإن القضاء عليه يتطلب تجفيف الماء، وبالتالي قطع جميع أنماط صلاته بالأفراد والجماعات وتجفيف بيئته التي يجب أن تتعرّض لقدر من العقاب، يعادل ما يحل بمن هم على صلةٍ بالتنظيم أو أعضاء فيه. من الأمثلة على هذه الممارسة الاستباقية الرادعة التي تكرّرت عشرات آلاف المرات بعد عام 1980. ومن ذلك أن طالبيْن في الجامعة تصادقا خلال أعوام دراستهما في كلية الحقوق، من دون أن يكون لأي منهما أي اهتمام أو نشاط سياسي. بعد تخرجهما، ذهب أحدهما إلى درعا في أقصى جنوب سورية، والآخر إلى البوكمال التي تبعد ألف كيلومتر عنها، وتقع في أقصى الشرق السوري، وبمرور الوقت ومتاعب الحياة انقطعت صلاتهما. وبعد ثمانية أعوام من افتراقهما، اعتقل الذي في درعا بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي. عندما سئل في التحقيق عن معارفه وذكر اسم صديقه القديم، اعتقل هذا أيضا بتهمة أنه “بيئة”. ومع أنه لم يخضع لأي تحقيق، فقد سجن مع رفيق الدراسة اثني عشر عاما أمضاها في سجني المزة وتدمر الرهيبين.
في سورية الأسد: القمع استباقي، وغرضه اجتثاث التنظيمات والأفكار المعارضة، أو التي لا ترضى السلطة عنها، لدى المواطنين العاديين والمعارضين. لذلك، يكون المطلوب من “الحملات الأمنية” القضاء على أي تنظيم معارض، وإلا فإصابته بالشلل والتعطيل، وقطع صلاته بالمجتمع، الذي يجب أن يخوف إلى درجة ينبذه معها، ويتنكّر لأعضائه أو يشي بهم. بالتصنيفات المعتمدة للمعتقلين، وأهداف “الحملات الأمنية”، يتم دوما اعتقال أضعاف عدد المنخرطين في أي تنظيم أو تجمع. وبما أن مهمة أجهزة القمع “احتواء المجتمع”، كما كتب ذات يوم أحد أبرز ممثليه، اللواء بهجت سليمان، فإن جزءا رئيسا من عملها يكرس لاختراق المواطنين والمجتمع، ولغمرهما بحضور ردعي/ قمعي كثيف، يطاول مختلف مكونات المجال العام وتجلياته، ويخرجهما من السياسة، ويدخل في روعهما أن سلامتهما ترتبط بالإقلاع التام عن الاهتمام بها، ويزيد من غرس هذا الخوف فيهما، من خلال موجات اعتقالات غامضة، تقوم بها جهاتٌ مجهولةٌ، تستخدم سياراتٍ تحمل علامات مؤسسات خدمية، كالماء والكهرباء، أو لا تحمل أية علامات على الإطلاق، ينقض عناصرها على أشخاص عاديين يسيرون في أماكن مزدحمة، ويعتقلونهم بطرق جد عنيفة، ويتعمدون إهانتهم وضربهم على مرأى من الناس ومسمعهم، لإلقاء الرعب في قلوب من يشاهدون الحدث، وتخويف من لا يشاهدونه من قول أو فعل، ما قد يجعلهم ضحايا اعتقالات غامضة، كالتي تصير موضوع أحاديث المجتمع،

والشائعات التي تنطلق في كل اتجاه، ويطلقها غالبا أتباع النظام، وتركز على فداحة الثمن الذي يدفعه دوما المعتقلون. ويشمل مصادرة الممتلكات والتسريح التعسفي، والاختفاء القسري لبعض أهليهم أو المقرّبين منهم، والمراقبة الدائمة لأسرهم، حتى بعد اعتقالهم، وإثارة الذعر لدى بيئتهم، بما تتعرض له من تحرّش، وإهانات، واعتداءات جسدية، وأخذ الرهائن.
كان هناك عام 1982 في سجن المزّة فتى من حماة عمره ستة عشر عاما، أدخل السجن رهينة وهو في سن السادسة، وتقرّر إبقاؤه فيه إلى أن يسلم والده “الإخواني” نفسه للمخابرات، علما أن الوالد كان قد فرّ إلى الأردن، ومات هناك بعد عامين من اعتقال طفله. كما كان هناك في سجن فرع التحقيق العسكري عشرات الفتيات اللواتي أخذن رهائن، وتعرّضن لاغتصاباتٍ أدّت إلى إنجابهن أطفالا في حالات عديدة. وقد أجرى بعض الأصدقاء عام 1990 استطلاعا إحصائيا حول غمر المجتمع بالمخابرات والمخبرين، جعلوا ميدانه بلدة صغيرة في شرق اللاذقية اسمها “الحفة”، فتبين أن فيها 540 عنصر “أمن” ومخبرا مقابل 240 شخصا يمكن أن يهتموا بالسياسة والشأن العام، أو يصيروا معارضين، بينما لم يوجد فيها بالفعل غير ثلاثة أشخاص منضمين للمعارضة، وكانوا في السجن.
لم يتنكر النظام الأسدي يوما لما يفعله جهازه القمعي المتشعب الذي غطى جميع مسامات المجتمع، بل وأقام مجتمعا أمنيا موازيا لمجتمع المواطنين، تكفّل بمراقبة حركاته وسكناته، ورصد تطوراته، تحت غطاء من مراسيم سرية وتعليمات شفهية مخالفة للدستور الذي أصدره الأسد نفسه، بنيت على حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي لم يجد أعضاء لجنة قانونية راجعوها، كلفها النظام الأسدي بتعديلها عام 2012، أي مستند أو مرجعية أو وثيقة مكتوبة تسوّغ فرضها، وأي قرار رسمي يشير إلى الجهة الحكومية التي فرضتها، مع أنها استخدمت لاعتقال مئات آلاف السوريين، وتصفية ملايين منهم، وتشريد وتهجير، طوال نيف وخمسين عاما، لكنها عثرت، في المقابل، على مادة إذاعية من سطر واحد، بثت يوم انقلاب 8 آذار عام 1963: “تفرض حالة الطوارئ في أراضي الجمهورية العربية السورية إلى إشعار آخر”.
هكذا، سوغت الأسدية بهذا السطر ما مارسته من انتهاك لحقوق السوريين نصف قرن، بفضل أحكام عرفية غير قانونية، وهكذا داست على القانون والدستور السوريين، والقوانين والأعراف الدولية، وأوصلت الانتهاك إلى حدّ أنه أفقد المواطن السوري حقه في الحياة، وحماية شخصه وأسرته وممتلكاته، وعرضه للقتل والتصفية والتعذيب والاغتصاب والاعتقال التعسفي المفتوح زمنيا، فضلا عن جميع أنواع التخويف والإرعاب والإذلال الجسدي والمعنوي والاعتقال والتعذيب والإخفاء والتشريد والحرمان من الجنسية. وقد سمعت عام 1982 ضابطا في “فرع التحقيق العسكري”، اسمه يوسف عبد الله، يخاطب معتقلا بالجمل التالية: “إذا كنت مصرّا أن لا تعترف، سأقوم بتصفيتك، وأخذ جثتك القذرة إلى قريتك في إدلب، حيث سأعلم أهلك الكلاب أنك سقطت في معركة مع العدو الإسرائيلي، وسأضع باقة من الزهور على قبرك، وأعطيهم ألف دولار مكافأة من القيادة على إنجابك، وسيشعرون بالامتنان للسيد الرئيس، أما أنت فستكون قد مت ميتة كلب، ولن يشعر بك أحد”.

*** *** ***
تتعامل المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان مع الأوضاع السورية، وكأنها قائمة على احترام القانون والتقيد بتطبيقه، أو كأنها تلزم أجهزة قمعها به، وتحاسبها إن هي خالفته أو فعلت ما يتعارض معه. هذه النظرة التي تستند إلى نموذج الحكم في البلدان الديمقراطية ليس لها أي انعكاس في النظام السوري الذي يعتبر الأمن مرادفا للقمع، ويضع سياساته ومؤسساته جميعها في خدمته، ويرى فيه حقلا لا بد أن يملأ المجتمع والحياة العامة بالرعب والعنف، شكل السياسة الوحيد الذي ينظم علاقات سلطته بالخاضعين لها، ولا بد من استخدامه الدائم في المجال العام لكسر شوكة المواطن السوري: عدو النظام الذي يفقد سيطرته على البلاد إذا عجز القمع عن إبقاء الخاضعين له في قبضته، وأسرى الخوف منه، ولم ينجح في ردعهم ومنعهم حتى من مجرد التفكير في عملٍ قد يخالف مصالح الممسكين بالسلطة وسياساتهم وآرائهم، أو يغريه بالاقتراب من معارضيها، أو يثير تعاطفه معهم.

بعد اعتقالي، سألت منظمة العفو الدولية أسرتي عن اسم الضابط الذي اعتقلني، والجهاز الذي يتبع له، والمكان الذي نقلت إليه، وكم مرة زارتني في المعتقل، والمساحة المخصصة لي في السجن، والكتب التي أقرأها والمقالات التي أكتبها، والتهمة التي أبلغتني الجهة المعتقل فيها، وتاريخ محاكمتي واسم المحامي الذي عينته للدفاع عني… إلخ. ما حدث أن رجال الأمن العسكري اقتحموا بيتي، وبنادقهم موجهة إلى صدري، وصدر زوجتي. عندما طلبت من الضابط إبراز أمر قضائي باعتقالي، تطبيقا لنص الدستور الذي أصدره النظام نفسه، قال لي: “دستور شو ولا (…)، شو نحنا بسويسرا”. وحين حاولت زوجتي الاعتراض على عبثهم بالمنزل، هدّدها بالاعتقال. بعد أيام، حاول أحد أصدقائي معرفة مكاني وتهمتي، من صديقٍ له يعمل في المخابرات، فزجره وهدّده بالاعتقال، إن هو كرر غلطته، وذكر اسمي على لسانه، أنا الذي اعترفت في التحقيق أنني جاسوس إسرائيلي. أخيرا، أمضيت فترة سجني، من دون أن أعلم شيئا عن أسرتي أو تعرف شيئا عني، ومن دون أن تزورنى أو تتواصل معي غير مرة واحدة. وبما أنني حاولت محو أمية بعض السجناء، سجنت في زنزانةٍ منفردةٍ وعذّبت شهرا، بتهمة تعليم من يريد النظام إبقاءهم جهلة، كما أخبرني مدير السجن ساخرا. لم أقدّم إلى محاكمة بطبيعة الحال، وحين أعطاني الفرع الذي سجنت فيه ورقة تقول إنه لم يجد أدلة كافية لإدانتي، سألت عن سبب بقائي معتقلا أكثر من عامين، فشتمني رئيس الفرع وأعلمني أن تكرار سؤالي سيوصلني إلى سجن تدمر الصحراوي، ثم طلب مني إرسال برقية شكر لحافظ الأسد، لأنه عفا عني، مع أن الورقة التي تثبت براءتي كانت في يدي.
لا تتفق المنظومة القمعية المعتمدة في سورية مع أي نموذج معتمد في أغلبية بلدان العالم الساحقة، إنه نموذج مركب، يعتمد ما يمكن تسميته “القمع الشامل”: الاستباقي غالبا، واللحاقي عندما يتطلب الأمر، والإرهابي في جميع الحالات، المكون من خلطة ستالينية/ هتلرية/ فاشية، هدفها إخراج كل مواطن سوري، ذكرا وأنثى، من المجال العام، ومنعه حتى من التفكير بغير الرضوخ الأعمى للأمر القائم، وإطفاء وعيه بالحاجة إلى أية منظومة قيمية أو سياسية مغايرة لما يقدمه له، عبر مواقف لحمتها وسداها قمع وحشي ومستمر، ولا يعرف الرحمة، وسياسة تحولت إلى عنف يغطي كل شيء.
لا بد، أخيرا، من وجود قرار دولي يضع النظام الأسدي تحت رقابة دائمة تحمي مواطنيه، وتمنعه من البطش بهم، وتصفية عشرات الآلاف منهم في السلام، وقتلهم الجماعي من دون عقاب في الحرب. بغير ذلك، لن يعرف الشعب السوري الأمان، حتى إن قبل الخضوع المطلق والذليل لقتلة يحكمونه، ويرون فيه شعبا معاديا، لا مفر من سحقه.

ميشيل كيلو
صحيفة العربي الجديد