القاهرة – الطريقة التي تدير بها مصر علاقاتها الإقليمية تتسم برغبة في التهدئة ومحاولة تسوية الأزمات بالطرق السياسية، في بيئة تتسم بتعقيدات شديدة، على المستوى الداخلي وعلى صعيد التدخلات الخارجية، وتسعى إلى تطبيق ذلك في المشكلات البعيدة عنها أو التي تقترب من حدودها.
الاتجاه الذي يتبنى الأدوات الدبلوماسية من الممكن أن يحقق أهدافه عندما تمتلك الدولة، أي دولة، أدوات ضغط حقيقية لتجبر الآخرين على الانصياع للحل السياسي، وتكون هناك قوى إقليمية ودولية متفقة أو متفاهمة على المضي في هذا المجال، وتنتفي فكرة المشروعات والتحالفات المناوئة في المنطقة.
في منطقة مثل القرن الأفريقي، لا تتوافر أي من المحددات السابقة، وربما العكس هو الصحيح، فمصر لا تملك آليات قوية للتأثير والضغط على الدول “العاصية”، ولا توجد قوى إقليمية أو دولية تتكاتف للحد من مسلسل الأزمات الراهن، وربما هناك تغذية لها ورغبة في بلوغ التصعيد أقصى مدى له، كما أن ثمة تحالفات جديدة بدأت تتسرب إلى المنطقة، بما يخالف التوازنات التقليدية ويغير قواعد اللعبة.
الزيارة التي بدأها رئيس وزراء إثيوبيا هايلي ماريام ديسالين لمصر، الأحد، تصب في صالح رغبة القاهرة العارمة للتهدئة مع إثيوبيا، ومحاولة فتح طاقة أمل بعد إغلاق معظم النوافذ الفنية، الأمر الذي اعترفت به مصر بوضوح منذ شهرين، وكادت المكاشفة أن تعصف تماما بعلاقاتها مع كل من السودان وإثيوبيا، لأن الرد المصري كان صادما، وألمح إلى وجود ما يشبه المؤامرة بين الخرطوم وأديس أبابا للضغط على القاهرة.
السودان اختار طريقا تصعيديا لافتا، استدعى سفيره من القاهرة، وارتفعت نبرة التصريحات الحادة، وأعلن الاستنفار العسكري على جبهته مع إريتريا، ووجه تلميحات بوجود مؤامرة بين القاهرة وأسمرة لدعم المعارضة السودانية ومساعدتها على غزو البلاد من الشرق.
استقبال رئيس وزراء إثيوبيا في مصر، يعني أن الطرفين على استعداد لعدم التصعيد، إذا جرى التوصل إلى حلول وسط
التطورات ذهبت في مسارين، السودان يمضي في تصعيده وكأن السخونة أصبحت هدفا بحد ذاتها، وبدا التوتر مرتبطا بزيارة قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان الشهر الماضي، جرى فيها حديث عن تحالف يرمي إلى تطويق مصر من الجنوب.
أما القاهرة، فقد التزمت بتغليب الأدوات الدبلوماسية ولم تنجر وراء التصعيد الصادر من الخرطوم، لكن تعمدت الحديث عن امتلاكها قوات عسكرية ومعدات متطورة، وكثفت من الإشارات التي تقول إنها يقظة لما يدبر حولها، وافتتحت مطارات في جنوب الحدود، وكرست الوجود المادي في مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه مع السودان.
الحاصل أن النظام السوداني يميل ناحية تركيا بصورة تتجاوز المضايقات المعروفة، وتصل إلى خانة التحالف حول مشروع سياسي يتقاسمه الطرفان مع قطر، ويقوم على دعم الحركات الإسلامية كأداة لتوسيع نطاقه، ومحاولة امتلاك قوة مؤثرة في البحر الأحمر.
وفي المقابل، أكدت مصر اقترابها من إريتريا، واستقبلت رئيسها أسياس أفورقي الأسبوع الماضي، في رسالتين مزدوجتين، إحداهما موجهة للسودان تقول لمصر حليف قريب من بوابتها الشرقية، وأخرى إلى إثيوبيا، وتشي بأن القاهرة لن تعدم الخيارات الخشنة، إذا لم تقم أديس أبابا بتليين مواقفها في ملف سد النهضة، وتبتعد عن شبهة التحالف مع السودان وتركيا وقطر.
تغليب المنهج الدبلوماسي لدى القاهرة، جعلها تجد بابا للحوار مع إثيوبيا، لأنها تعلم أن الرؤى الأخرى أشد كلفة، واستقبال رئيس وزراء إثيوبيا في مصر، عقب أسبوع من زيارة قام بها أفورقي، يعني أن الطرفين على استعداد لعدم التصعيد، إذا جرى التوصل إلى حلول وسط، لكن كل منهما يتمسك بما لديه من أوراق.
محاولة فتح طاقة أمل بعد إغلاق معظم النوافذ الفنية
وفي الوقت الذي كان يستعد فيه رئيس وزراء إثيوبيا لزيارة مصر على رأس وفد كبير، قام وزير خارجيته بزيارة خاطفة للسودان، وفي الوقت الذي كان وزير خارجية مصر يزور إثيوبيا منذ أسبوعين، استقبلت أديس أبابا رئيسي أركان كل من قطر والسودان.
المضمون الذي تنطوي عليه هذه النوعية من الزيارات يقول إن كل طرف يحاول الضغط على الآخر دون اللجوء إلى خشونة مفرطة، للحصول منه على مكاسب أو تقليل خسائر، وعدم الانجرار وراء الدخول في تحالفات إقليمية موجهة ضد الآخر قد يكون مرضيا للطرفين، فاقتراب إثيوبيا من السودان، وتحالف مصر مع إريتريا، ربما يأتيان من قبيل الوصول إلى نقطة وسط، وليس لتكسير العظام.
وأكدت مصادر مصرية لـ”العرب” أن القاهرة مصرة على استمرار المنهج الدبلوماسي مع إثيوبيا، وحتى السودان ليست هناك رغبة في الدخول معه في مواجهة مفتوحة، لحرمانه من التمادي في توجهاته العدائية.
كلام المصدر يعني أن مصر لا ترغب في مواجهة تستنزفها، وتسعى إلى ترتيب الأوراق برؤى سياسية وتحاول الاستفادة من علاقاتها المتينة بقوى مجاورة لعدم تكبد خسائر وليس لقيادة مشروع إقليمي محدد الملامح.
وشكك مصدر آخر في تصريحات لـ”العرب”، في قدرة مصر على توظيف العلاقات التي نسجتها مع دول مثل جنوب السودان وأوغندا ورواندا وإريتريا، لأنها غير مؤثرة في ملف المياه، ولديها من الأزمات ما يجعلها تنأى بنفسها عن الدخول في مشكلة إقليمية لا أحد يضمن السيطرة على تداعياتها وسط بيئة معروفة بتعقيداتها الاجتماعية.
الواضح أن إثيوبيا تراهن على مسألة الوقت في التعامل مع مصر، فما أن تتوتر العلاقات بين الطرفين، سرعان ما تجد وسيلة لجذبها بعيدا عن خندق التوتر، وتميل أديس أبابا إلى الاستفادة من الرغبة المصرية في تبني الخيار الدبلوماسي، وتتجاوب معه كلما لاحت فرصة لذلك، دون أن تقدم تنازلات حقيقية في ثوابتها لإدارة ملف سد النهضة.
الطرح المصري الخاص بإدخال البنك الدولي كطرف ثالث في المفاوضات لم تستجب له إثيوبيا حتى الآن، وربما هي التي سرّبت جس النبض الذي ناقشته القاهرة معها بشأن فكرة استبعاد السودان من المفاوضات، فأديس أبابا تريد أن تنشغل مصر بمشكلاتها مع السودان وغيره لتتفرغ هي لمواصلة البناء.
الطبيعة التي ينبني عليها المشروع السوداني التركي القطري في المنطقة تتنافى مع توجهات إثيوبيا العلمانية
القاهرة تدرك أن المقاربة الإثيوبية مع السودان لم تدخل العمق الذي تريده الأخيرة، ومن الصعوبة أن تكون وازنة في التحالف بين الخرطوم وأنقرة والدوحة، لأن الطبيعة التي ينبني عليها المشروع السوداني التركي القطري تتنافى مع توجهات إثيوبيا العلمانية، وكدولة تخوض مواجهة مع التيار الإسلامي القريب منها في الصومال، والذي ينتهز الفرصة للاستفادة من مشاكل الأقليات عموما، ومشاكل المسلمين خصوصا في إثيوبيا.
لذلك لم تفقد مصر الأمل في الرهان على إبعاد إثيوبيا عن السودان، ويمكن أن تصل إلى تفاهمات مكلفة في ملف المياه، مقابل احتفاظ أديس أبابا بمسافة عن الخرطوم، إذا أصرت الأخيرة على المضي في طريقها مع كل من تركيا وقطر.
وإذا كانت هذه الدول تسعى إلى إرباك مصر في الداخل والخارج، فلدى القاهرة أيضا أدوات أخرى قد تسبب صداعا في رأس التحالف المناهض لها، وتتمثل في الاستعداد لمرحلة جديدة من التصعيد في ملف الجماعات الإسلامية والعنف والإرهاب في المنطقة، وهو الملف الذي يلتقي فيه السودان مع تركيا وقطر.
وتمتلك القاهرة حزمة من المعلومات تستطيع تفجيرها في وجه هذا الثلاثي، وتتريث فقط لتقديم الأدلة الكافية، للتأكيد أن ما يربط هذا التحالف مشروع يعاني منه العالم، ولعل ضبط سفينة مليئة بالمتفجرات قادمة من تركيا في طريقها لمصراتة بليبيا يعزز التوجه المصري في هذا المسار.
والاستمرار في الدق على وتر ربط قطر بالإرهاب، فما بالنا بالسودان، كفيل بتخفيف درجة الانخراط في مؤامرات ضد مصر، ولوحظ أنه منذ تفجير ملف الإرهاب في وجه قطر من قبل الدول العربية الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) وأيادي الدوحة تراجعت عن العبث في ليبيا، وهو ما يمكن أن يحدث مع تركيا عقب فضيحة السفينة.
الربط بين الدول الثلاث والإرهاب، منهج متوقع أن تتصاعد معالمه الفترة المقبلة، ليس لإدانتهم وإحراج المجتمع الدولي، لكنه يحمل رسالة لإثيوبيا التي يمكن أن يمثل لها هذا التحالف مظلة مؤقتة، وتبدو كمن يناقض نفسه داخليا وخارجيا.
المشكلة أن مواصلة مصر الطريق الدبلوماسي، أصبحت تفهم على أنها دليل ضعف وليس قوة سياسية، ما يجعل الآخرين يواصلون الضغط عليها بوسائل مختلفة.
لكن إذا نجحت القاهرة في قطع العلاقة بين إثيوبيا والسودان، تكون قد بترت الحبل السري بين الخرطوم ودول عديدة، وفي هذه الحالة يمكن أن يكف السودان عن التصعيد حيال مصر.
العرب اللندنية