تمرُّ الولايات المتحدة الأميركية في ظل رئاسة دونالد ترامب في واحدةٍ من أحرج حقبها السياسية. لا يعود ذلك إلى تحدياتٍ خارجية فريدة تواجهها، فالتحديات القائمة اليوم تدخل في بند الاعتيادية بالنسبة لبلدٍ كالولايات المتحدة، حيث لا قوى عظمى أخرى توازيها، كالاتحاد السوفييتي الزائل، ولا حرب عدمية تستنزفها، كفيتنام، ولا تهديد حقيقيا لتفوقها عالميا، على الأقل في المدى المنظور. أيضا، فإن التحديات الداخلية التي تعرفها أميركا اليوم، سواء اقتصاديا أم سياسيا، أو حتى اجتماعيا وعرقيا وحقوقيا وأمنيا، ليست سوءا لم تعتده من قبل. باختصار، البيئتان الداخلية والخارجية لا تشكلان تهديدا فوق عادي للقوة الأعظم، فهي سبق لها أن واجهت ما هو أخطر من تحديات اليوم، داخليا وخارجيا، وعبرتها بسلام، وإنْ نسبيا.
لكن الجديد في معادلة الحَراجَةِ الأميركية الراهنة يتمثل في عامل ترامب. إنه الشعبوي الفوضوي الذي وصل إلى سدة الرئاسة بشكلٍ لم يتوقعه أغلب المختصين والخبراء السياسيين. جاء ترامب من خلفية عالم العقارات الأميركي الذي يتطلب من صاحبه أن يكون شرسا بلا أخلاقٍ، ولا قيم. المهم الظفر بالعطاءات المليونية وأكثر، والمهم الانتصار وتحطيم المنافسين. أكثر من ذلك، أن ترامب، وإن كان مثل أغلب السياسيين (على الرغم من أنه يزعم أنه ليس منهم)، يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة الدنيئة، إلا أنه يختلف عنهم بأنه لا يحاول أن يغلّف
سفالاته وانحطاطاته الخُلُقِيَّةِ والسياسية بلثام القديسين. هو يباهي بأنه لا يخضع لقوانين أخلاقية، ولا لمعايير سياسية، بل إن أحد شعارات حملته الرئاسية كانت “دعوا ترامب يكون ترامب”. بمعنى دعوه يتفوّه بكل عيب، ويقوم بكل نقيصة، فقوته في عفويته وانسجامه مع ذاته! ومن ثمَّ فهو قليلا ما يعتذر عن قبيحٍ صدر منه، ويقول عنه عارفوه إنه وُلِدَ كذاباً، وهذا ما دفع بعضهم إلى أن يتساءلوا مندهشين: كيف تجعل من شخصٍ لا يخجل يشعر بالخجل!؟ بصراحة، لا يوجد جواب شافٍ هنا، فلا إساءاته للنساء أثرت فيه، ولا إساءاته للمعاقين هزّته، ولا بان على وجهه خجل من أي كذبةٍ انفضح زيفها، كما حين زعم أن الانتخابات مزورة ضده، على الرغم من أنه فاز فيها، أو حين ادّعى إن إدارة سلفه، باراك أوباما، تجسّست عليه.
كل ما سلف معروفٌ عن الرجل، على الأقل للمتابعين هنا في الولايات المتحدة، وقد سبق أن كتبت قريبا من هذا الموضوع، لكن الجديد أن هذا الرجل يفاجئنا في كل يوم بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه في العبث بمنظومة القيم والحكم الأميركية. الأغرب هذا الضعف البَيِّنُ الذي تبديه مؤسسة الحكم الأميركية تجاه إسفافه وغرائبه، على الرغم من محاولات بعض أجزائها الجادة مدافعته. نعلم أن ترامب شخصٌ ضحلٌ معرفيا وسياسيا وفكريا، دع عنك استراتيجيا. كما نعلم أنه مغرمٌ بأنموذج الزعيم القوي، كالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. أهم من ذلك، نعلم أن هذا الرجل مفلسٌ أخلاقيا وَقيمِيّاً، ولا زالت أسئلةٌ كثيرة تثار بشأن التداخل بين مهام منصبه الرسمي وأعماله الخاصة، فضلا عن التشابك بين العائلي ومؤسسة الحكم التي يقبع على رأسها. في أميركا اليوم، البلد التي تفاخر بأنها أعرق الديمقراطيات على الأرض، ثمّة رئيس يحارب حرية الإعلام ويسعى إلى التضييق عليه. وهو لا يكتفي بذلك، بل إنه يُطالب من يعمل تحته بالولاء الشخصي له، لا للدولة ودستورها، كما قال مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق، جيمس كومي، والذي انتهى به الأمر مطرودا من منصبه، لأنه رفض أن يعطيَ الولاء لشخص ترامب، وأن يخالف القانون، حسب زعم كومي. وإذا كانت مزاعم كومي هذه تبقى مجرّد اتهاماتٍ، فإننا نعلم يقينا أن ترامب حاول مرات عدة أن يتدخل في عمل وزارة العدل، الأصل أنها مستقلة، وأن يوجهها لاستهداف خصومه السياسيين، كما المرشحة الديمقراطية الخاسرة، هيلاري كلينتون، أو أن تغامر بمواجهة جام غضبه لرفضها، أي وزارة العدل، إيقاف التحقيق في العلاقات المزعومة بين حملته الرئاسية وروسيا في الانتخابات الرئاسية الماضية.
يتحوّل ترامب بأميركا، تدريجيا، إلى دولةٍ من دول العالم الثالث، من حيث منظومة الحكم. عندما لا تعجبه قرارات القضاء، وهو فرع السلطة الثالث المستقل في الديمقراطيات الغربية، يشن هجوما عليه، ويحرّض على تحدّيه. أما السلطة الأولى المستقلة في الديمقراطيات الغربية، وهي السلطة التشريعية، فإنها رهينة لدى القاعدة الانتخابية المتطرّفة لترامب، فالحزب الجمهوري، وهو حزب الرئيس، يملك الأغلبية في مجلسيِّ النواب والشيوخ في الكونغرس الأميركي، ومع ذلك، فَجُلُهُمْ يتحاشى تحدّي حماقاته، خشية أن يدفعوا ثمنا انتخابيا قادما. أما السلطة التنفيذية، وعلى الرغم من بعض محاولات وكالاتها ترويض الرجل، إلا أنها تعاني تحته أيَّما معاناة.
في الأيام الماضية، انشغلت واشنطن بمفارقتين جديدتين لترامب. الأولى اتهامه أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي بـ”الخيانة”، ذلك أنهم لم يصفقوا له بحماسةٍ في خطابه عن “حالة الاتحاد” أواخر الشهر الماضي، وبدا كثيرون منهم مكفهري الوجه، وهم يستمعون للخطاب، وهو الأمر الروتيني في أبجديات ثقافة الكونغرس وأعضائه. أما الثانية فتمثلت بالكشف عن أمر أصدره ترامب لوزارة الدفاع بالبدء في التخطيط لعرض عسكري في واشنطن على غرار الذي حضره في باريس، في يوليو/ تموز الماضي بمناسبة العيد الوطني لفرنسا. يريد ترامب عرضا لجنود ومدرعات ودبابات وصواريخ تمر أمامه مؤدية التحيَّةَ له. هذا غير
معهود في الأعراف الأميركية، ولكن الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، طلب ذلك إرضاءً لغروره، كما يقول الخبراء الأميركيون، ومنهم جنرالات سابقون، وأمر الرئيس لابد أن يطاع!
أغرب من ذلك أن جُلَّ الإعلام الأميركي، والذي لا يتردد في مماهاة ترامب بخصمه المعلن، زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، من حيث حبه السلطة المطلقة، وهيامه بحماس التأييد له تصفيقا، بل وحتى بكاء، وكذلك بغرامه بالاستعراضات العسكرية لإشباع غروره، لا يذهب بعيدا في تحليل ظاهرة الضعف الذي أبدته مؤسساتٌ، كان يظنُّ أنها راسخة وعريقة، في التصدّي لهذه الأفعال الغريبة على قيم الديمقراطية الأميركية. أبعد من ذلك، يكتفي الإعلام الأميركي بالحديث بنوعٍ من الدهشة أن ترامب يفعل كل ما يفعله. ومع ذلك، ما زال يتمتع بتأييد حوالي 40% في المائة من الرأي العام الأميركي.
متى، يا ترى، ينطلق حوار وطني أميركي حقيقي عن الأسباب التي أوصلت مجتمعا يباهي بديمقراطيته وعراقة قيم الحرية والحقوق الفردية إلى وضع يُمَجِّدُ فيه قرابة نصفه دكتاتورا في مرحلة الصناعة! إن لم يحصل ذلك قريبا، وبشكل جاد، فإن أميركا قد تكون على موعد مع نظام حكم عالم ثالثيٍّ يوما ما، بما يحمله ذلك من تداعياتٍ كارثية على أميركا والعالم. وحتى إن نجحت أميركا في تجاوز عاصفة ترامب، فإنه قد يتمكّن من غرس بذور دكتاتورية أعتى قادمة، إن نضجت ظروفها.
كلمة أخيرة، ما سبق لا يعني أنه لا توجد في أميركا دكتاتورية، لكنها دكتاتورية الدولة ومؤسساتها والنخبة. إنها تحالف المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية والرأسمالية والإعلامية وبعض جماعات الضغط، مغلفة بغلاف الحرية والديمقراطية. ولا تطرّف هنا في القول إن الضحايا هم مجمل الشعب الذي يتمتع بحريات مصممة بعناية ضمن أنماطٍ لا تتحدّى بنى الحكم القائمة وأغلب فسادها وتجاوزاتها. أما الدكتاتورية التي قد تضرب أميركا إن بقي الحال على ما هو عليه، فإنها ستكون دكتاتورية الفرد ودائرته المحيطة التي لا تسمح إلا بالتسبيح بحمد الحاكم، تماما كما في معظم بلداننا العربية.