يتناول هذا التقرير أبرز القضايا والإشكاليات التي بحثها مؤتمر “المسيحيون العرب في المشرق العربي الكبير: عوامل البقاء، والهجرة، والتهجير”، الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مقره في الدوحة، يومي 21 و22 تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وقد جاء هذا المؤتمر في إطار النهج الذي يعتمده المركز في رصد التحولات والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها المجتمعات العربية، واندلاع الصراع الهوياتي فيها في العقد الأخير؛ نتيجة إخفاق عمليات الإصلاح والانتقال الديمقراطي، وإخفاق إرساء أسس المواطنة وحقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية في الدولة التسلطية العربية الحديثة الراهنة التي تفسخت مصادر شرعيتها. ويتنزّل ما يتعرض له مسيحيو المشرق العربي، من عنف وتنكيل ومحاولات اقتلاع وتهجير من المجتمعات العربية التي عاشوا فيها، تاريخيًا في هذا السياق.
قُدّمت في هذا المؤتمر أكثر من 20 ورقة، وُزّعت على 7 جلسات، وتناولت أبرز القضايا الإشكالية التي يواجهها المسيحيون العرب في منطقة المشرق العربي الكبير (العراق، وبلاد الشام، ومصر)، والعوامل والضغوط الاجتماعية – السياسية الكثيفة وغير المسبوقة، خلال فترة ما بعد استقلال الدول العربية على الأقل، على وجودهم التاريخي، فضلًا عن محاولات الترويع والقتل وتفجير الكنائس، بما فيها التي أرغمتهم على الهجرة الدولية أو النزوح الداخلي. لقد جعلت كل هذه العوامل الوجودَ المسيحي المشرقي العريق والمستمر في المنطقة، منذ ما قبل الفتح الإسلامي وما بعده، يواجه “لحظة مفصلية” في تاريخه، تهدد بتدمير التنوع الثقافي في مجتمعات المشرق العربي الراهنة، وتقويض أسس المواطنة فيها.
وبالأرقام، يتوقع بعض مراصد الحركة الديموغرافية في المشرق العربي الكبير أن تُفرغ المنطقة من المسيحيين قريبًا، في حال استمرار الاتجاهات التي حكمت عملية تهجيرهم أو إرغامهم على الهجرة من أوطانهم التي لا يعرفون سواها أوطانًا لهم، بحثًا عن ملاذات آمنة؛ إذ تُقدّر أعدادُهم الآن بنحو 14 مليونًا، في أحسن الحالات، ولن يبقى منها في المنطقة وفق مشهد استمرار الاتجاهات المتشائم سوى 6 ملايين، في أقل من عقد من الزمان. ومع أن ظاهرة الهجرة ظاهرة عامة، ولا سيما مع العنف الأهلي المتصاعد في السنوات الأخيرة، وتشبث المسيحيين العرب بتجذرهم في أوطانهم الطبيعية، ورفض التعامل معهم بصفتهم أقليات، فإن نسب المسيحيين المهاجرين تبلغ بفعل ما تعرضوا له من ضغط وترويع أضعاف ما تسجله نسب نظرائهم من أبناء الجماعات الدينية العربية والدينية – الإثنية الأخرى في المشرق العربي.
الديموغرافيا المسيحية في الحقبة العثمانية
إذا كانت موجة الهجرة الراهنة مفصلية بالنسبة إلى الوجود المسيحي في المنطقة، وهي امتداد أو نتاج لحقبة الدولة الوطنية الحديثة، فإنها لم تكن كذلك من قبل.
ويكشف التحليل الديموغرافي التاريخي للمجتمعات المسيحية العثمانية السابقة في المشرق العربي أن المسيحيين كانوا يمثّلون نحو 7 في المئة من سكان المشرق العربي، عندما ورث العثمانيون حكم بلاد الشام والعراق عن المماليك. ولكنّ نسبتهم بلغت نحو 20 في المئة، في نهاية عهد السلطنة العثمانية، في ظل إدارتها للتنوع الثقافي والديني في نطاقها الإمبراطوري.
وبالتفصيلات التاريخية، كانت معركة مرج دابق سنة 1516 بين العثمانيين والمماليك، والتي انتهت بانتصار العثمانيين وترسيخ وجودهم في المشرق العربي، حدثًا تاريخيًا مهمًا للإسلام والمسيحية على السواء. وبخلاف المماليك الذين عاملوا المسيحية الشرقية معاملة سيئة لتأثير الحروب الصليبية وفتاوى بعض الفقهاء، برزت آثار سلوك السلطنة العثمانية تجاه المسيحيين في ارتفاع وتيرة نموهم الديموغرافي، واندماجهم الاجتماعي- الاقتصادي، خلال فترة حكم العثمانيين؛ إذ تضاعفت نسبة المسيحيين أربع مرات بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الأمر الذي يوضح الفوارق بين العهدين من جهة، وبين العهد العثماني وعهد الدولة الوطنية من جهة أخرى، التي مورست في بعضها ضروب من التمييز والإقصاء الاجتماعي والثقافي ضدهم، وهو العهد الذي شهد الموجة الكبرى من هجرة مسيحيي المشرق العربي إلى الخارج.
المسيحية أصيلة في المشرق العربي، أم دين دخيل؟
وعلى الرغم مما سبق، لا ينبغي للتعايش والنمو اللافت للديموغرافيا المسيحية في الحقبة العثمانية أن ينسينا أن نظام الملل، والذي يوصَف الآن بأنه “نظام متسامح” مع المسيحيين، إنما كان يعمل بقاعدة عهود “أهل الذمة” في التاريخ الإسلامي، وهو يتعارض جوهريًّا مع الدولة الديمقراطية الحديثة التي تقول دساتيرها بـ “حقوق المواطنة” و”المساواة” بين المواطنين. كما أن الحقبة العثمانية المتأخرة، والحروب التي خاضتها الدولة العثمانية مع الدول المسيحية غير المشرقية، خلّفت أسئلة وشكوكًا عن الولاء المسيحي للدولة العثمانية، لكن هذا التاريخ المتأخر هو نفسه تاريخ تفكك الأطر الإمبراطورية للسلطة العثمانية وتقومن نخبها المركزية.
وفي الحقيقة، لقد جرت في المنطقة عملية طويلة ومعقدة لترحيل المسيحية من موطنها الأصلي، والنظر إليها على أنها لا تنتمي إلى البيئة المشرقية، وتغذية التعصب ضدها. وهي سردية اشترك في إنتاجها أبناءُ الشرق والغرب على حد سواء، ولكل سردية منها دوافع وأسباب كثيرة. لم تشكّل هذه العلاقة المعقدة نفسها الرؤيةَ الإسلامية للمسيحية فحسب، بل حتى رؤية المسيحية لذاتها أيضًا؛ فتكيفت المجتمعات المسيحية المحلية التي تعيش ضمن البيئة الإسلامية، وحاولت التأقلم مع التطورات المستمرة للمجتمع الإسلامي، بل قامت بدور فاعل في تنمية هذه المجتمعات.
ولعل المذابح التي ارتُكبت بحق المسيحيين، خلال الحرب العالمية الأولى وقبلها، إنما ارتبطت بشكوك في ولائهم للنخب القومية العثمانية الجديدة التي تخلت عن النهج الإمبراطوري التعددي، وتبنت النموذج الصهري لنمط الدولة – الأمّة التقليدي، وفرضت القومنة المركزية ليس ضد المسيحيين فحسب، بل ضد أبناء الإمبراطورية الآخرين من عرب مسلمين وغيرهم.
قادت هذه العملية إلى إضعاف المنظومة المسيحية المشرقية؛ فأصبحت ديانة الغرب مسيحية مقابل ديانة إسلامية في المشرق، في إطار صناعة ثنائية الشرق/ الغرب الاستعمارية. هذا مع أن كثيرًا من رموز الثقافة العربية من المسيحيين، والمسلمين كذلك، سعوا لإعادة بناء الرابطة العثمانية على أساس الحرية والمساواة والمواطنة من دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق.
تسييس الهجرة المسيحية
تمثّل الموجة الراهنة الأحدث من هجرةٍ وتهجيرٍ للمسيحيين والأقليات الدينية والإثنية الأخرى جزءًا من الصراع بين الأطراف المحلية، وربما أحد أعراضه؛ إذ استُضعف المسيحيون وصنفوا “أقليات دينية”، أو استخدموا أوراقًا سياسية في صراع الطائفيات السياسية، واضطروا إلى النزوح والهجرة غير مرة.
ومثلما كان تهجير المسيحيين فعلًا مسيّسًا، كان الخطابُ عن هجرتهم، في كثير من الأحيان، مسيّسًا كذلك، سواء بادعاء حمايتهم، أو بتحديد الأرقام والوقائع في هذا المجال. وقد اشتركت الأطراف السياسية المحلية الداخلية والجهات والمنظمات الدولية في هذا التسييس. فاستعملت الأطرافُ المحلية المسيحيين في نزاعاتها، وجعلت وضعَهم جزءًا من تصورات سياسية لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية، كما في حالة الدعوة إلى منطقة حكم ذاتي، أو محافظة مسيحية، أو إقليم مسيحي، في مناطق سهل نينوى في شمال العراق التي ترتبط بالصراع القائم على الأرض بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد على ما يُسمى “المناطق المتنازع عليها”. أما الجهات والمنظمات الدولية، فمنها ما يقدم الدعم، ومنها ما يحث المسيحيين على مغادرة المنطقة، وذلك عبر حزمة من التسهيلات والتمييزات التي يقدمها عدد من الدول الغربية لهم في حالات اللجوء والهجرة. ومثال ذلك قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في كانون الثاني/ يناير 2017، بإيقاف معاملات قبول اللاجئين السوريين، وإعلانه في الوقت نفسه أن الأولوية ستكون للمسيحيين منهم، أو ما تؤديه برامج استقبال اللاجئين من منطقة المشرق العربي (ولا سيما القادمون من سورية والعراق)، في الدول الأوروبية وكندا وأستراليا، من دور في تشجيع المسيحيين على الهجرة.
وحتى إن بدت هذه السياسة ردَّ فعل على وقائع استهداف المسيحيين، فإنها تبطن تصورات أيديولوجية/ استشراقية، لا يمكنها أن تتخيل أن المجتمعات المشرقية تعددية، وليست مقتصرة على المسلمين. ومن المؤكد أن هذه الديناميكية قد تسارعت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ويحاجج كثير من الناشطين المسيحيين بأن هجرة مسيحيي المشرق العربي ليست مشكلة مسيحية فحسب، بل هي عربية إسلامية عامة أيضًا؛ ذلك أنهم لم يطلبوا الحماية من الغرب.
أزمة مواطنة
في كل الأحوال، رُبطت الموجة الأخيرة من هجرة المسيحيين بصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وسيطرته على مدينتي الرقة والموصل في سورية والعراق سنة 2014، وتصاعد أعمال العنف ضد المسيحيين في مصر، وقيام داعش في ليبيا بإعدام جماعي لعمال مصريين أقباط حصرًا. ومرة أخرى، تكتسي هذه الموجة الأخيرة أهمية خاصة؛ ذلك أنها بدت تكثيفًا مكبّرًا لموجات الهجرة المسيحية من المشرق العربي. ومن ثم، عُدّت هذه الموجة لحظةً رمزية فارقة بالنسبة إلى الوجود المسيحي في المنطقة؛ أدخله أول مرة في محنة الوجود والمصير. فقد أفرغ تنظيمُ داعش مدينتي الموصل والرقة من الوجود المسيحي، وذلك بتخييره أبناءَ المدينتين من المسيحيين بين الإسلام، وعهد الذمة (الجزية)، والجلاء، والقتل. وذلك بعد أن كانت المسيحيةُ جزءًا جوهريًا وحيويًا وتاريخيًا متصلًا منذ ما قبل الإسلام من هوية المدينتين، ولا سيما الموصل. كما دعا بعض الفصائل الإسلامية المهيمنة في بعض المناطق السورية إلى التعامل مع المسيحيين على أنهم أهل ذمة، وأطلقت شعارات التهجير والوعيد ضدهم؛ ما جعلهم ينكفئون حفاظًا على مصيرهم، بطلب حماية النظام لهم، بغض النظر عن طبيعة هذا النظام.
وفي الحقيقة، تلقت المجتمعات المسيحية في سائر المشرق العربي ما جرى لمسيحيي الرقة والموصل، على أنه تهديد عام لها، وليس أمرًا جزئيًّا محدودًا مقصورًا على مسيحيي تينك المدينتين.
غير أن الربط المباشر بين داعش والهجرة المسيحية يبدو ربطًا آليًّا وسريعًا؛ ذلك أن ما تعرّض له المسيحيون على يد هذا التنظيم، حتى إن كان شكلًا متطرفًا وعنيفًا لرفض الآخر المختلف مذهبيًّا أو طائفيًّا، أو حتى المختلف بفهمه للمذهب عينه الذي ينطلق منه داعش، يُعدّ فرعًا من مواقف الحركات الإسلامية المتطرفة استفاد من ضعف مفهوم المواطنة الذي رافق قيام دولة المشرق العربي الحديثة. ولذلك، يكون قصرُ المسألة على ما تعرّض له المسيحيون على يد داعش تبسيطًا واختزالًا، وإن كان ما حدث هو الأفظع، هذا فضلًا عن أنّ المسـألة تمس فكرة التعدد الديني والمذهبي عامةً.
ومع ذلك، قد تكون بواكير الدولة الوطنية في المشرق العربي، في الربع الأول من القرن العشرين وربما سائر النصف الأول منه، أقربَ إلى فكرة المواطنة والاندماج الوطني. إلا أن انبعاث المشاعر الطائفية والعصبوية، بدءًا من الثلث الأخير من القرن العشرين، وتفكك القاعدة الوطنية للحكم، ونضوب مصادر شرعيته، عوامل أدّت إلى اهتزاز مكانة المسيحيين.
ومن ثم، علينا أن نعيد النقاش حول الوجود المسيحي في المنطقة إلى أسس فكرة الدولة الوطنية والمواطنة فيها، وإخفاق تلك الدولة في إرساء تلك الأسس، والنظر فعليًا إلى المسيحيين العرب بصفتهم أقليات وليسوا مواطنين. وهو أمر يتعدى النقاش حول وضعية جماعة دينية معيّنة إلى روح فكرة الدولة الحديثة: المواطن الكامل، صاحب الحق القائم في دولته التي ينتمي إليها على مواطنته، بغض النظر عن هويته، وإثنيته، ولونه، وجنسه، ومعتقده، ولغته، وانتمائه السياسي. وسيبقى أساس هذا النقاش دائرًا حول السؤال الجوهري فيه: هل أقمنا فعلًا، بل هل لدينا مشروع وإرادة لإقامة دولة مواطنة حقة؟
يشمل هذا النقاش عملية بناء الدولة الوطنية في المنطقة، وكيف يتصور الفاعلون في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية (وفي الصدارة الأحزاب، على اختلاف أيديولوجياتها) مسألة المواطنة، ولا سيما لدى المواطنين المتحدرين من ديانات مختلفة في مجتمعات مركبة الهوية.
أدّى المسيحيون في دول المشرق العربي ما بعد الاستقلال أدوارًا بالغة الأهمية، اقتصادية وثقافية واجتماعية وفكرية وسياسية. ولكنّ الدولة نفسها التي أدوا فيها هذه الأدوار فشلت في طرح عقد اجتماعي يستند إلى المواطنة، وليس إلى مبدأ الرعية، ويقوم على أسس حديثة لإدارة التنوع، تكون أساسًا لأي عملية تشاركية سياسية بين مختلف المكونات، وتفضي إلى تحقيق الديمقراطية ودولة القانون. كما فشلت الدولة الوطنية في تعميم ثقافة المواطنة؛ لأنها لم تقم على أساس هذه الثقافة أصلًا.
وهكذا، يحكي النزيف المسيحي فشلَ مشروع بناء الأمّة في دول المنطقة. وسيبقى داعش عارضًا طارئًا لانفجار مجتمعات المشرق العربي، ويرتبط وجودُه (مع أشد تمظهراته تغوّلًا ووحشية) بأزمة النظام السياسي القائم وما يعيشه من اختلالات بنيوية واختناقات. وسترتبط نهاية تنظيم داعش وأمثاله بالإرادة والقدرة على الخروج من هذا الاختناق، وبناء نظام سياسي أعدل وأكفأ، في حين تبرز المخاوف على تنوع المشرق العربي من أن الهجرات التي نتجت منه قد تكون هجرات نهائية.
ومن ثم، تجب مراجعة مسألة المسيحيين العرب مع أيّ مراجعة للنظام السياسي؛ أي إنّ أيّ صيغة سياسية لمرحلة ما بعد داعش ينبغي لها أن تتضمن، على نحو عاجل وبنيوي، مواجهة العناصر التي قادت إلى هذا النزيف المنهجي للوجود المسيحي في المشرق العربي. يضاف إليها العمل الحثيث في الدول الأخرى على تجاوز التضييقات والتمييزات على حرية عبادتهم واندماجهم في الشأن العام ومؤسساته.
إنّ مناقشة ما طرأ من عملية تهجير للمسيحيين العرب في سورية والعراق ومصر وغيرها يجب أن تكون، في الحقيقة، مناقشة لتعددية المجتمع وتنوّعه على أساس المواطنة.
الحماية بدلًا من المواطنة
استعملت الأنظمة الاستبدادية التي كانت النهاية القاسية لمسار الدولة الوطنية في المشرق العربي المسألةَ المسيحية؛ لتقدّم نفسها على أنها أنظمة علمانية تحمي الأقليات الدينية من خطر المتشددين الإسلاميين، ولتطمس الفكرة القائلة بأن الانغلاق السياسي الذي خلّفته كان أحد العوامل التي أدّت إلى هجرة المسيحيين. ولعل الخطاب الرسمي في سورية ما بعد 2011، ومصر ما بعد 2013، هو الصيغة النمطية لذلك؛ ففي سورية، على سبيل المثال، كان النظام يعتمد إستراتيجية تخويف أبناء الأقليات، ومنهم المسيحيون، من الثورة ليدفعهم بعيدًا عنها. ومما لا شك فيه، كانت أسلمة الثورة وخلق الريبة، بل الخوف، من المعارضة في أوساط المسيحيين، فضلًا عن دور المجموعات الجهادية الترويعي فكرًا وسلوكًا، خصوصًا داعش، عاملًا مضافًا في زيادة خوف المسيحيين على الأمن الشخصي الإنساني المباشر.
وفي الحقيقة، يتضح الطابع الزبائني للأنظمة الاستبدادية أكثر في طريقة تعاملها مع ما يعرف بـ “الأقليات”؛ ذلك أنها تصادر إمكانيات المشاركة السياسية الحقيقية لهذه المكونات، في مقابل الحماية التي تقدمها لها. ويتضمن ذلك، حماية حقوقها الدينية والثقافية، وهو أمر لا يصدق على المكونات الإثنية الكبرى التي تبقى تتطلع إلى أداء دور سياسي أكبر (حالة الكرد، هنا).
تتمثّل المفارقة في أن هذا الأمر أصبح يشكّل وعي جزءٍ غير قليل من نخب “الأقليات” وتصوراتها عن طبيعة العقد السياسي الذي يربطها بالدولة. والمقصود، هنا، عقد الحماية لا المواطنة. وبالفعل، التف النقاش عن القضية المسيحية حول المواطنة ليصل إلى فكرة الحماية التي يمكن أن يضمنها حتى نظام استبدادي، مثلما كان التدخل الاستعماري في الماضي يدّعي ذلك. ولذلك، يعدّ مطلب استعادة دولة قادرة كفأ مطلبًا أساسيًّا في الخطاب المسيحي الراهن؛ فهذه الدولة هي وحدها التي تستطيع بسط فكرة الحماية.
وعلى سبيل المثال، إن أساس التجاذب التي تعيشه الأطراف السياسية المسيحية، بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل، هو مبدأ الدولة الحامية؛ فينظر الكثير من المسيحيين إلى بغداد، وتحديدًا إلى أربيل، من هذه الزاوية.
وبات الكثيرون يرون أن هذه الصيغة من الدولة أكثر واقعية في هذه المنطقة من المثال المعذب لبناء دولة مواطنة كاملة، ديمقراطية، تضمن سيادة القانون والحريات العامة، في غياب ثقافة سياسية ديمقراطية. ويرى واقعيو المنطقة أن هذه الدولة إذا لم تستطع إنتاج المواطنة، فإنها تستطيع توفير الحماية. ودليلهم على ذلك أنه في بعض مراحل تاريخ المنطقة (بما فيه من مراحل استبدادية) وفّرت الدولةُ حماية لما يسمى “الأقليات”، ولكن لا يمكننا تجاهل أنها لم تحمِ “الأكثرية” من سياستها القمعية. كما أنّ هذه الدولة ذاتها لا تحمي حقوق المواطن الفرد، سواء أكان من “الأقلية” أم “الأكثرية”، وأنّه في ظل هذه الأنظمة التسلطية نشأت أنماط متطرفة من التدين السياسي، كما نشأت طائفية الأكثرية التي لم تكن أمورًا “متصورة” في الماضي.
يعيدنا هذا النقاش (الواقعي) إلى الوراء، بكل تأكيد؛ ذلك أنه يربط وجود المواطِنين بدولة من هذا النوع؛ أي دولة رعايا تضمن لهم الحماية، لا دولة مواطنين تضمن لهم التكافؤ والمساواة، ولا تتيح هذه الدولةُ إمكانيات أكبر وأبعد من ذلك. وفي الحقيقة، يبدو أن منطق الدولة الراعية/ الحامية هو المنطق الطبيعي الذي نشأت عليه الدولةُ في المنطقة، لا فقط مع المجموعات الإثنية التي نسميها (أقليات)، بل مع سائر مواطنيها الذين تتحدد علاقتُهم بالدولة من خلال شبكات الزبائنية القائمة.
وعلى الرغم مما تعرَّضت هذه الدولة لهزّات عنيفة (كان الربيع العربي ذروتها)، لا يبدو أن شيئًا قد تغير في طبيعة رؤيتها ونظرتها إلى مواطنيها. ما تغير هو أن صمود بنية الدولة التسلطية جرَّ إلى مطالبات (واقعية)، بضرورة أن تضمن سلطة الدولة التسلطية، على نحو كامل، هذه الحماية (لا المواطنة المتكافئة والمشاركة السياسية)، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالأقليات، وأن هذا بدأ يشكّل الوعيَ والخطاب لدى هذه الأقليات نفسها ونخبها، في طبيعة علاقتها بالدولة، كما تقدّم، ويُعاد إنتاجها في إطار وعي طائفي مضاد ضيق ومنكفئ على الذات الجماعاتية الطائفية.
لقد بات هذا النموذج رائجًا في المشرق، ومغريًا للأقليات الدينية والإثنية؛ إذ تستبدل الدولةُ بالحريات المدنية والسياسية الحرياتِ الشخصيةَ (وكذلك الدينية والثقافية)، وتتعهد بحمايتها. ويُسوَّق هذا النموذج بديلًا من فشل الانتقال الديمقراطي الذي فرّط في الدولة ولم يُنجز الديمقراطية، وكان العنف الاجتماعي والسياسي والهوياتي من نتائجه الأساسية.
لن يتحقق الاندماج الكامل في ظل أنظمة استبدادية، تتراجع فيها الحرياتُ العامة، ويتنامى داخل مجتمعاتها المنقسمة والمدمرة والمطيفة خطاب الكراهية، فضلًا عن الانسداد السياسي وإغلاق المجال العام أمام منظمات المجتمع المدني الفاعل. فمهما كانت الضمانات التشريعية الخاصة بالمسيحيين، من الضروري ترسيخ دولة المواطنة، نقيض الاستبداد والدولة الدينية وحكم العسكر، دولة الحق والقانون التي تقوم على قواعد تشريعية حقيقية، مفصلة وعملية، وتتوافق مع المعايير الدولية، وتحدد التزامات مؤسسات الدولة العامة والخاصة، فيما يتعلق باحترام مبادئ تكافؤ الفرص، وحظر التمييز بين المواطنين على أيّ أساس، وإنشاء آليات مؤسسية لمراقبة تنفيذ التشريعات.
الخطاب الإسلامي المعاصر والمسألة المسيحية
تمثّل صورة المسيحيين في الخطاب الإسلامي المعاصر امتدادًا وجزءًا من المخيال العام. وبالتفصيل، لا تزال صورة المسيحية مرتبطة، على نحو ما، بالسجالات العقدية القروسطية. وإلى حد ما، تمثّل الحروب الصليبية مرجعية أخلاقية دينية في النظر إلى الغرب المسيحي في مرحلة صعوده. ولم يستطع المسلمون تخليص ذاكرتهم التاريخية الجمعية، والفصل بين مضمون الغرب الحضاري – الثقافي وتاريخه الاستعماري، كما أنهم يواجهون صعوبة في فهم أن المسيحية العربية جزء أصيل من بلادهم وجغرافيتها، وأنه لا يجوز أن تقتصر العلاقة بهم على التسامح في أفضل الحالات.
ومن جانب آخر، حكمت تطورات خطاب الإسلام السياسي المعاصر عن اعتبارات التعامل معهم بصفتهم “آخر” أو “أهل ذمة”. وحين يتطور الخطاب الإسلامي في اتجاه المواطنة، لا يلبث أن يرتد إلى الخلف، خلال التنافس مع الحركات الإسلامية السلفية والأشد تطرفًا.
أما بالنسبة إلى داعش، فالتعامل الإقصائي التكفيري المطلق مع غير المسلمين عمومًا، والمسيحيين خصوصًا، هو من أهم أدوات إثبات تمسك هذا التنظيم بحكم الشريعة وطريقة السلف في فهمها.
خيار الهجرة وما قبله
تمثّل الهجرة الخيارَ الأخير لدى مسيحيي المشرق العربي. وحتى لا تستمر الهجرة جرحًا نازفًا، يرى جزء مهم من النخب المسيحية أن عليه مسؤولية تنبيه الأجيال اللاحقة من مسيحيي المشرق إلى أهمية الارتباط الوجداني والكياني بالأرض والطبيعة والمجتمع.
يجمل بعض الباحثين الخيارات السياسية للمسيحيين في ثلاثة، ما عدا الهجرة: دولة المواطنة الديمقراطية، وهي الخيار الأول والأنجع والأهم، أو نظام استبدادي يفرض الحماية (مع أنه ليس ثمة ضمان لسلوك هذه الأنظمة)، أو ترتيبات سياسية – إدارية تضمن للمسيحيين شكلًا من أشكال الحكم الذاتي.
وفي هذا السياق، واستنادًا إلى المبررات الأمنية والديموغرافية، نشأت بين بعض الأوساط المسيحية (وغير المسيحية كذلك) في العراق فكرة إنشاء “منطقة آمنة للمسيحيين” في سهل نينوى. وقد أثارت هذه الفكرة جدلًا بين مختلف التيارات السياسية المسيحية من جهة، وبين قيادات كنسية وممثلي الأحزاب السياسية من جهة أخرى. وفي مقابل خطر الهجرة الجماعية للمسيحيين، يضع بعض ممثلي المسيحيين اليوم سيناريو للعودة مشروطًا بضمانات إنشاء منطقة آمنة. وفي كل الأحوال، تواجه هذه الفكرة مصاعبَ جمة؛ ذلك أن مناطق المسيحيين في سهل نينوى هي في الوقت ذاته مناطق الصراع بين الجماعات الكبرى من الكرد والعرب على عائدية الأراضي فيها، فهي مناطق “متنازع عليها” بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد.
وفي حال الفشل في تحقيق خيار داخلي يضمن بقاء المسيحيين في المشرق العربي بكرامة وسلام، يحاجج بعض الناشطين المسيحيين بأن الهجرة إلى الخارج ستكون الخيار الأخير، يُجبَر عليه المسيحيون.
لقد شهدت المنطقة (ولا سيما بلاد الشام) أكثر من موجة كبيرة من موجات الهجرة المسيحية إلى الخارج، منذ القرن التاسع عشر. وكان معظمها لأسباب اقتصادية – سياسية، وارتبط بعضها جزئيًا بالحروب الأهلية في بلاد الشام، وقد اتجه جزء مهم من هذه الهجرات إلى الأميركتين؛ فعلى سبيل المثال، يبلغ تعداد الجيل الرابع من المهاجرين المسيحيين الفلسطينيين إلى أميركا اللاتينية اليوم قرابة نصف مليون شخص. وكذلك، أثّرت نكبة فلسطين عام 1948 في الوجود المسيحي في المنطقة، حتى إن بعض الباحثين يراها نكبة مسيحية وفق كل المعايير.
وتعدّ الهجرة إلى الداخل من مظاهر الهجرة المسيحية غير الملحوظة؛ إذ يلاحظ بعض الباحثين أنّ نسبة هجرة سكان الأرياف المسيحيين إلى المدن أعلى من نسبة هجرة المسلمين، وذلك لأنّ المسيحي المهاجر إلى المدن، ولا سيما الكبيرة منها، تتراجع عنده عقدة الأقلية التي يعانيها في القرى والبلدات الصغيرة. أما موجة الهجرة الراهنة لمسيحيي المشرق، فهي مختلفة بكل المقاييس؛ إذ هي على مستوى الحجم أكبر من النزوح الداخلي، ذلك أنها هجرة شاملة، تستأصل الوجود المسيحي، وتغذيها العديد من الوكالات الدولية، وقد بدأت تتشكل بين مسيحيي المشرق قناعات بأن بلدانهم قد تغيرت ولن تعود كما كانت.
لا تتوافر أرقام وإحصاءات دقيقة عن أعداد المسيحيين المهاجرين؛ لشح المصادر والمعطيات التي تعالج هذه القضية، فضلًا عن الفوضى وعدم الاستقرار السياسي وطبيعة الأنظمة الحاكمة في بلدان المشرق العربي، يضاف إلى ذلك أن السلطات الرسمية فيها نادرًا ما تنشر معلومات حول قضايا تتعلق بالأقليات. كما أنه من الصعب الحصول على إحصاءات دقيقة من البلدان التي تستضيف هؤلاء المهاجرين، ولا سيما أنها غالبًا ما توفر بيانات عامة عن المهاجرين من بلاد الشرق الأوسط من دون تحديد بلدانهم.
وفي كل الأحوال، هناك مواقف مهمة معارضة للهجرة، تحث المسيحيين على التمسك بالبقاء في بلدانهم. ولعل المثل الأهم في هذا المجال هو القيادات الكنسية في المشرق، وبعض التنظيمات السياسية المسيحية المحلية التي تحاول ردع عمليات الهجرة والحد منها؛ فلقد كان المسيحيون العرب جزءًا من الديموغرافيا التاريخية للمشرق العربي قبل الفتح الإسلامي وبعده، ويجب العمل على أن تبقى هذه الأوطان التي حدثت فيها محنتهم مع محنة أبناء جلدتهم أوطانَهم الطبيعية.