شكل مؤتمر ميونخ للأمن بين 16-18 شباط/ فبراير الجاري مناسبة مهمة لطرح أفكار متعلقة بإنشاء نظام أمن إقليمي في منطقة الشرق الأوسط، طالما أنه لا يوجد منتدى أو منصة خاصة في منطقتنا بطرح هذه الأفكار. فمن بين كل مناطق العالم تقريبًا، تنفرد منطقة الشرق الأوسط في أنها تفتقر إلى نظام أو آليات تعاون إقليمي لمنع النزاعات أو حلها. ففي أوروبا توجد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE) تأسست 1973. وفي آسيا، توجد منظمة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) تأسست 1967. وفي الشطر الغربي من الكرة الأرضية توجد منظمة الدول الأميركية (OAS) تأسست 1948. وفي أفريقيا هناك الاتحاد الأفريقي (AU) تأسس 2001. وفي جنوب آسيا، توجد منظمة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC) تأسست 1985.
ليس أن منطقتنا تعدم وجود آليات لحل النزاعات فحسب، بل تستأثر بأكثر نزاعات العالم وأطولها وأعقدها. اذ يعد الشرق الأوسط، والعالم العربي في قلبه، وفق إحصاءات ومصادر مختلفة، بؤرة لأسوأ الصراعات في عالم اليوم. وفيما يشكل الوطن العربي نحو 5% من سكان العالم، فقد شهد خلال العقود الستة الماضية نحو 22% من حالات الصراعات فيه. وبين 1980-2014 سقط نحو 35% من إجمالي عدد قتلى الصراعات المسلحة في العالم، واستأثر العام 2015 وحده بنحو 70% من عدد قتلى الحروب والنزاعات. كما حاز العالم العربي على حصة الأسد في عدد الهجمات الإرهابية التي وقعت في العام 2014 بنسبة تصل إلى 45%. وأنتج الوطن العربي خلال العقد المنصرم 60% من عدد اللاجئين في العالم، ويحظى ب 47% من عدد المشردين داخليا.
وفي المشرق العربي وحده، الذي يشكل ثلث سكان العالم العربي فقط (نحو 120 مليون نسمة)، تجري ثلاثة من أسوأ الصراعات الأهلية وأعقدها في العالم، تتفرع عن كل منها عدة صراعات وحروب. ففي اليمن الذي تصفه الأمم المتحدة بأسوأ كارثة إنسانية في نصف قرن، تجري ثلاث حروب في الوقت نفسه: أهلية وإقليمية وثالثة ضد تنظيم القاعدة. وبالمثل شهد العراق ويشهد عدة حروب في الآن نفسه، واحدة ضد تنظيم الدولة، وثانية قومية بين العرب والأكراد، وثالثة طائفية ورابعة إقليمية ودولية. أما سورية فلا يتسع المجال للخوض فيها، إلا أنه يمكن توصيف حالتها بأنها حرب الجميع ضد الجميع، وهي تختصر حالة الصراع الإنساني بأكثر صوره بدائية في أكثر العصور حداثة، لا ننسى طبعا أقدم صراع في العالم: الصراع العربي الإسرائيلي.
أخذاً بالاعتبار هذا الوضع المريع، فقد استأثرت المنطقة العربية بحيز مهم من النقاشات التي دارت في منتدى ميونخ للأمن (تأسس عام 1963 بهدف جمع نخب أوروبا السياسية والأمنية والعسكرية للتباحث في سبل الحيلولة دون تكرار مآسي الحرب العالمية الثانية)، وطرحت خلاله أفكار حول إمكانية الاستفادة من تجارب أوروبا الغنية في مجال البحث عن آليات لحل نزاعات الشرق الأوسط، مثل الحاجة إلى بناء توافق شبيه بتوافق هلسنكي لعام 1975، والذي لعب دورا مهماً في تخفيف حدة التوتر خلال الحرب الباردة، عبر الاتفاق على عشرة مبادئ ملزمة لترشيد الصراعات، وتطبيع العلاقات بين دول الغرب والمعسكر الشرقي، أهمها مبدأ احترام وحدة أراضي الدول وسيادتها.
أفكار مهمة طرحت في ميونخ، لكن واقع الحال أن منطقتنا تواجه مشكلتين رئيستين، تدفعان في اتجاهين متعاكسين، وتزيدان صراعاتها تعقيداً. تتأتى الأولى من وجود دول وكيانات حديثة النشأة، مهووسة بالسيطرة على مجتمعاتٍ عريقة في وجودها (الاستبداد)، مع تبني سياسات حكم فاشلة بلغت نقطة الانهيار. والثانية، تتأتى من أن أكثر الدول الإقليمية الكبرى محكومة بأيديولوجيات تبشيرية (دينية- مذهبية أو لا دينية) تتطلع إلى التأثير والانتشار والسيطرة، فيما وراء الحدود الوطنية للدول، بعضها في إطار مشاريع إمبراطورية. وهذه المعضلة المزدوجة المتمثلة باعتلال علاقة السلطة بالمجتمع داخل الدول، وعدم احترام السيادة بين الدول، تكاد تكون ميزة خاصة بمنطقتنا، وتفسر الكم الهائل من الصراعات فيها، والحاجة إلى إيجاد آليات فعالة لحلها، قد يكون إنشاء ميونخ للأمن الإقليمي خطوة أولى نحوها.
مروان قبلان
صحيفة الحياة اللندنية