جورج ليكوف، أستاذ اللغويات المعرفية والمتخصص في تحليل الخطاب، مؤلف كتاب ” لا تفكر في فيل: الخطاب السياسي بين المحافظين والتقدميين”. وهو معروف بأطروحته التي يقول فيها بأن حياة الأفراد متأثرة لحد كبير بالاستعارات التي يستخدمونها لتفسير الظواهر المعقدة. وفي كتابه الاستعارات التي نحيا بها، الذي ترجم ترجمة قيمة للعربية، سوف نجده يفيد من حقول معرفية متنوعة بداية من علم السياسة والأدب والفلسفة والرياضيات. وفي كتابه السياسات الأخلاقية، قام بتوصيف النموذج الفكري الذي يقف من وراء التصويت للتيار المحافظ، وأطلق عليه “نموذج الأب الصارم”، في مقابل “نموذج الأب الراعي” الذي يتبناه التيار التقدمي. وله كتب أخرى تابع فيها تحليله اللغوي المعرفي للخطاب المحافظ. والمؤلف هو أستاذ اللغويات في جامعة كاليفورنيا، التي يدرس فيها منذ عام 1972.
أي حزب يرغب في كسب الانتخابات هو في احتياج دائم للاحتشاد. ما يعني قيامه بتنظيم صفوفه ودعمها وتنظيمها وتفعيل حضورها بين الجماهير
ولعل الكتاب الحالي يمثل كتابا جامعا لرؤية لاكوف، حيث تبدو فيها آثار أعماله الأخرى. وفيه يتناول التحليل المعرفي لخطاب التيار المحافظ، ولا يكتفي بذلك بل يدفع للتغيير السياسي من خلال تقديم دليل إرشادي للسياسيين الليبراليين. ينطلق الكتاب من خبرات الباحث كلغوي في الأساس، وبالتحديد من كتابه “السياسات الأخلاقية”، ويبحث بالتحديد ما يسميه بالأطر، مركزا على طرح إجابة حول لماذا يفوز المحافظون في الانتخابات، وكيف يفوزون، وكيف يتم مواجهتهم.
أولا: التنظيم
إن السؤال المركزي الذي يطرحه الكتاب هو: لماذا يفوز الجمهوريون بالانتخابات بينما يخسر الليبراليون. لقد ألزم المؤلف نفسه بالالحاح على مطلبين أساسيين لتغيير توجهات الجمهور في العملية الانتخابية، أولهما مطلب تنظيمي، وثانيهما خطابي. فأي حزب يرغب في كسب الانتخابات هو في احتياج دائم للاحتشاد. ما يعني قيامه بتنظيم صفوفه ودعمها وتنظيمها وتفعيل حضورها بين الجماهير. وأولى خطى هذا الاحتشاد هو الاستفادة من الخبرات العلمية في كل التخصصات العلمية المعنية بالسياسة والثقافة. وهو ما فعله الجمهوريون حينما قاموا بتأسيس مراكز بحوث على أعلى مستوى، وجلبوا لها أهم الباحثين القادرين على وضع الحلول والإستراتيجيات والسياسات القادرة على مواجهة قضايا المجتمع. ولا يتصل الأمر بذلك فقط، بل ويرتبط بالقدرة على صياغة خطاب قادر على جذب الجماهير ودفعهم دفعا للتصويت لصالح الحزب الجمهوري.
فالملاحظ أن هناك شرائح اجتماعية تصوّت على غير مصالحها. وهنا يصوّب الكتاب جهة التصور التقليدي عن تعالق وارتباط التصويت بالمصالح. فأنت تصوت لصالح مصالحك واحتياجاتك. والغريب أن العمال يصوتون لصالح الجمهوريين، رغم تأييد هؤلاء للسياسات التي تبقي الدولة بدون أية التزامات اجتماعية. فمن باب أولى أن يصوت العمال لصالح اليسار الليبرالي، الذي ينحاز لمصالح العمال والفئات الاجتماعية المهمشة. والأمر ذاته يمكنك أن تطرحه في السياق المصري، لماذا يصوت المصريون، إن كان النشاط الانتخابي نزيها، لصالح اليمين، بينما لا يصوت لصالح اليسار، أو بالأدق لماذا يصوتون للتيار الإسلامي، على حساب التيارات المدنية. هذا السؤال يمكن طرحه في السياق العربي أيضا، حينما يصوت الكويتيون والمغاربة للإسلاميين. والإجابة عند المؤلف ميسرة في القيم. فالناس تصوت لقيمها لا لمصالحها، بمعنى أنها تسمو على مصالحها وتحرص على قيمها الجوهرية أكثر. ولكن هذا يطرح مسألة أخرى تتعلق بطبيعة فهم الناس للقيم التي يؤمنون بها.
لكن الأمر يتسع لأكثر من ذلك. وهو ما لم يصرح به المؤلف بوضوح. فالمسألة تتجاوز تصويت الناس لقيمها، وتصب في العمل الأيديولوجي الذي تمارسه الدعاية السياسية، وتقوم به الدراسات والبحوث المؤيدة لليمين الجمهوري. القضية تتعلق بقدرة الجمهوريين على بناء خطاب متماسك يستظل بقيم اجتماعية يؤمن بها قطاع عريض من طبقات المجتمع وشرائحه.
الناس تصوت لقيمها لا لمصالحها، بمعنى أنها تسمو على مصالحها وتحرص على قيمها الجوهرية أكثر. ولكن هذا يطرح مسألة أخرى تتعلق بطبيعة فهم الناس للقيم التي يؤمنون بها
ويمكن العودة مرة أخرى للسياق العربي والمصري، لنرى آلة الإعلام التي تشوه اليسار، سواء أكان إعلاما مسموعا أم مرئيا أو مكتوبا، فهو يقدم صورة مجتزئة وغير دقيقة أ منصفة لليسار. فاليمين بطبعتيه المدنية والدينية يشوه اليسار ويقدم أفراده في صورة الملحدين والمتحذلقين، وغيرها من السمات غير المحمودة اجتماعيا. وتستطيع أن تتلمس ملامح ونسيج الخطاب المضاد للحياة الحزبية المدنية، بالحديث الدائم عن ضعف الأحزاب ونخبويتها وأنانيتها، والتزامها بمصالحها الخاصة، وغيرها من الاتهامات التي تصب في صالح اليمين الديني والقوى المؤيدة للعسكرة. أي أن السياق العربي والمصري تتجلى فيه محاولات التأطير لقيم أبوية، قادرة على إفساح المجال لبديلين لا ثالث لهما: اليمين الديني المتطرف والعسكرة.
ثانيا: البنية الفكرية: مفهوم الأسرة الأبوية
وفي براعة منقطعة النظير يحلل ليكوف ما أسماه بقيم الأب الصارم، التي تقف من وراء الدعاية الانتخابية للجمهوريين. ويحدد معالم نموذج الأب الصارم من خلال مجموعة من الفروض:
إن العالم مكان خطر، وسيظل دوما هكذا، لأن الشر موجود في العالم، والعالم صعب لأنه تنافسي وسيكون دوما فائزون وخاسرون. وهناك صواب مطلق وخطأ مطلق. كما أن الأطفال يولدون فاسدين، لذا يجب جعلهم من الأخيار. وفي هذا العالم الموحش ثمة حاجة ماسة لأب صارم وقوي، يستطيع أن يحمي الأسرة ويرعاها في الوقت الصعب ويوجه أطفاله بالقوة تجاه الحق.
هذا النموذج يعيد ليكوف توجيهه صوب الممارسات الاقناعية التي يمارسها الجمهوريون لإقناع الجمهور، فيلفت النظر إلى التبريرات التي يستخدمها الجمهوريون لتبرير الساسات الاجتماعية والاقتصادية التي ينبغي إتباعها بحيث يكون لها أساس فكري. فنموذج الأب الصارم يمكن تعميمه على نحو يجعل من الدولة أبا صارما، والمواطنون أبناء، تتفاوت أهميتهم بحسب طاعتهم لنظام منضبط. ووفق نموذج الأب الصارم، تصبح البرامج الاجتماعية بغير صالحة، لأنها تربي مواطنين اعتماديين، مواطنين ينتظرون من الدولة المساعدة والعون. ومن ثم على الأب أن يوفر الظروف الملائمة للابن المستقل عبر تخفيف المسئوليات الملقاة على عاتقه ليعمل ويزدهر لأن ازدهاره ضمانة لنمو الأسرة ورفاهتها. وهكذا تخفف الدولة كأب يشجع التنافس من الأعباء الضريبية التي يحملها الرأسماليون على أكتافهم، من أجل رفاهية الجميع. ولذلك فالحكومة ليست كلها مرضي عنها بالنسبة للجمهوريين. هناك وزارات مرضي عنها وأخرى مغبونة. فالوزارات التي تقدم البرامج الاجتماعية مغضوب عليها. والحال لا تختلف كثيرا في الشأن المصري، فالوزارات الخدمية هي المغضوب عليها وتحصل على أقل الميزانيات، ومنها خرجت المظاهرات الفئوية.
إن الخطاب المعتمد لدى المحافظين هو خطاب يدرك حدوده، ويعرف ماذا يريد. فهو مبرمج على نحو قادر على حصد الأرباح، مستندا إلى التصورات القيمية المستقرة، والطبيعة النفسية لمتلقيه
وفي مقابل مفهوم الأب الصارم، يرسم الكتاب معالم نموذج آخر، وهو نموذج الأب الراعي الذي يرعى أبناؤه، ولا يتركهم في مهب الريح. فعلى عكس التيار المحافظ يرى التقدميون أن هناك ضحايا للسياسات الاقتصادية الرأسمالية، وأن الحل يكمن في تقديم الدولة كل سبل الرعاية والرفاه للمحتاجين، عبر قيامها بزيادة الأعباء الضريبية على الرأسماليين.
ثالثا: آليات المواجهة: التأطير وفك التأطيرات المغايرة
إن الخطاب المعتمد لدى المحافظين هو خطاب يدرك حدوده، ويعرف ماذا يريد. فهو مبرمج على نحو قادر على حصد الأرباح، مستندا إلى التصورات القيمية المستقرة، والطبيعة النفسية لمتلقيه. ولعل ومن الأمثلة الدالة المثال الذي يسوقه المؤلف بشأن اللغة المناسبة التي يمكن استخدامها في مخاطبة النساء. فالنساء يحببن كلمات معينة، ولذا حين يتحدث السياسي الجمهوري لجمهور غالبيته من النساء يفضل أن يستخدم مفردات من قبيل الحب، ومن القلب، ومن أجل الأطفال. وهو ما يتجلى في خطب جورج بوش التي يكرر فيها ذات الكلمات.
بل علاوة على استعمال المعجم اللغوي المناسب لجموع المتلقين المحتملين للخطاب، يشار إلى ظاهرة التأطير. فالمحافظون يستخدمون عبارات إطارية تلخص مجمل رؤيتهم وتدفع الجمهور دفعا للتصويت لصالحهم. ومن الأمثلة الدالة هنا حالة شوارزينجر في الانتخابات. فقد تم استخدام عبارات تصب في صالح النجم السينمائي وتلخص مسيرته، مستغلين مثالب خصمه. هذه العبارات النافذة، التي بمثابة شعارات للحملات الانتخابية، تضغط على وعي المصوتين وتصبح جزءا من وعيهم، لما لها من جاذبية لغوية، وقدرة على الإقناع.
والواقع أن التيارات المحافظة في مصر ناجحة هي الأخرى في ذلك. خذ مثلا في العبارة الإطارية التي يتم استخدامها وهي “الإسلام هي الحل”، فهي عبارة جذابة لقطاع كبير من المجتمع المتدين. علاوة على ذلك يقوم الإسلاميون بتلخيص مواقفهم المختلفة عبر التأطير، خذ مثلا موقفهم من حقوق المرأة، إذ يرفعون شعار “الحجاب فريضة إسلامية”، ويعلقون صورة لمحجبة ومعها العبارة الإطارية. ومع كثرة التداول والاستخدام، يصعب تفكيك الخطاب الكامن وراء هذا النوع من العبارات الإطارية. والأمر ذاته ينطبق على ممارسات جماعة الإخوان المسلمين في استخدامها لأطر براجماتية، أطرا تتجاوب مع اللحظات التاريخية التي تمر بها.
والمثال البارز في اللحظة الراهنة التحول من رمزية اليد، يد رابعة، إلى قبضة مرسي. وفي كل منهما يتلخص الموقف الأيديولوجي للجماعة. في الأولى تجمع الجماعة القوى الإسلامية القريبة والبعيدة تحت شعار يجمعها معا، وهو الاعتداء على تظاهرة سلمية بحسب رؤيتهم، وفي الثانية تنتقل إلى شعار بديل له جذور في التراث الراديكالي الماركسي، وهو القبضة التي تجذب الفصيل الصاعد من الراديكاليين المدنيين من أعضاء شباب السادس من إبريل.
إزاء هذا التأطيرات اللغوية، ينبغي أن يقوم التيار المدني التقدمي بعدم الوقوع في هذا النوع من التعمية الأيدولوجية. ينبغي بحسب لاكوف تفكيك هذه العبارات وبيان إجحافها للدين الإسلامي ولحقوق المرأة، مثلما يفعل المؤلف نفسه في تفكيكه للاستعارات المستخدمة في خطب بوش، وفي الحملات الانتخابية لمرشحي اليمين. وبعد تفكيك هذه العبارات، يحتاج التيار المدني إلى وضع عبارات بديلة، عبارات تلخص الهموم الأساسية، عبارات خالية هي الأخرى من الهوس الديني، إذ بحسب المؤلف، لا ينبغي أن تفكر تفكير الفيل (رمز الجمهوريين) بل ينبغي أن تفكر بطريقتك أنت لا بطريقة غيرك. بهذه العبارات المؤسسة معرفيا يمكن المواجهة.
محمود عبداللـه
المركز العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية